فصل: تفسير الآيات (191- 192):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (191- 192):

قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما حرم الاعتداء صرح بإباحة أصل القتال فقال: {واقتلوهم} أي الذين يقاتلونكم {حيث ثقفتموهم} أي وجدتموهم وأنتم تطمعون في أن تغلبوا أو حيث تمكنتم من قتلهم- قاله الأصبهاني، لأنه من ثقف بالضم ثقافة إذا صلب وثقف أي بالكسر كذلك، وأيضًا صار حاذقًا فطنًا، وثقفت الشيء ثقفًا إذا أخذته والشيء صادفته- قاله ابن القطاع. وقال الأصبهاني: والثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة، وأطلق الوجدان فشمل الحل والحرم من الزمان والمكان لأنهم كذلك يفعلون بالمسلمين، كانوا يؤذونهم ويفتنونهم عند البيت في كل وقت؛ وفي التعبير بالفعل ما يشعر بالنصر بحزب الله وبشرى بضعف العدو عن مداومة المقاومة للمجاهدين وقد ظهرت التجربة مثل ذلك وأقله أنهم إذا فروا لم يكروا.
ولما كانت الآية ناظرة إلى قصاص قال: {وأخرجوهم} أي فإن لم يقاتلوكم {من حيث أخرجوكم} أي مكة التي هي موطن الحج والعمرة ومحل الشعائر المقصودة لأهل الإسلام. ولما كان هذا مشعرًا بأنهم لم يكن منهم إليهم قتال في مكة لغير الأذى المحوج إلى الخروج من الديار على أن التقدير: فإن الإخراج من السكن أشد فتنة وقد فتنوكم به، فعطف عليه قوله: {والفتنة} أي العذاب بالإخراج أو غيره من أنواع الإخافة {أشد} تليينهم للإسلام {من القتل} أعم من أن يكون المراد من قتلكم إياهم في الحرم أو غيره أو قتلهم إياكم أو غير ذلك لما فيه من مواصلة الغم القابض للنفس عن مراداتها، فلذلك سوغنا لكم قتلهم قصاصًا بسبب إخراجكم، فكان المراد بالذات إخراجهم لتمكن الحج والاعتمار ولكنه لما لم يمكن إلا بقتالهم وقتلهم أذن فيهما وقد كشف الواقع في أمر: عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وعبد الله بن أبي ربيعة أن الإخراج من مكة لينهم للإسلام أكثر من تليين القتل فإنهم أسلموا لما أشرفوا على فراق مكة بظهور الإسلام فيها ولم يسلم أحد من قريش خوفًا من القتل، فلكون السياق لإخراجهم عبر هنا أشد. اهـ.

.مناسبة قوله: {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ} لما قبله:

قال البقاعي:
ولما كان الإذن في الإخراج مستلزمًا في العادة للقتال وكان قد أذن في الابتداء به حيث ثقفوا خصص ذلك فقال ناظرًا إلى المقاصّة أيضًا ومشيرًا إلى ما سيقع في غزوة الفتح المشار إليها بقوله بعد {وكفر به والمسجد الحرام} [البقرة: 217] {ولا تقاتلوهم} أي هؤلاء الذين أذن لكم في إخراجهم {عند المسجد الحرام} أي الحرم إذا أردتم إخراجهم فمانعوكم {حتى يقاتلوكم فيه} أي في ذلك الموضع الذي هو عند المسجد، وكأنه عبر بفيه في الثاني وعند في الأول والمراد الحرم في كل منهما كفًا، عن القتال فيه مهما وجد إلى الكف سبيل تعظيمًا له وإجلالًا لمحله لأنه موضع للصلاة التي أعظم مقاصدها السجود لا لغيره فضلًا عن القتال. {فإن قاتلوكم} أي في ذلك المكان {فاقتلوهم} أي لا تقصروا على مدافعتهم بل اصدقوهم في الضرب المجهز ولا حرج عليكم من جهة المسجد فإن الانتهاك لحرمته منسوب إلى البادئ، وفي التعبير بالفعل في جواب المفاعلة في قراءة الجمهور أو الفعل في قراءة حمزة والكسائي بشارة بنصرة المبغي عليه وقوة إدالته، ولما كان هذا مفهمًا أنه خاص بهم عمم بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الفعل العظيم الجدوى {جزاء الكافرين} كلهم. اهـ.

.مناسبة قوله تعالى: {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لما قبله:

قال البقاعي:
ولما كان النزوع بعد الشروع لاسيما حالة الإشراف على الظفر عسرًا على الأنفس الأبية والهمم العلية قال: {فإن انتهوا} أي عن القتال ومقدماته، وفيه إشعار بأن طائفة منهم تنتهي فإن العالم بكل شيء لا يعبر بأداة الشك إلا كذلك. ولما كان التقدير: فكفوا عنهم ولا تعرضوا لهم فإن الله قد غفر لهم علله بأمر عام فقال: {فإن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {غفور رحيم} أي له هاتان الصفتان أزلًا وأبدًا فكل من تاب فهذا شأنه معه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

الثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقيف سريع الأخذ لأقرانه، قال:
فأما تثقفوني فاقتلوني ** فمن أثقف فليس إلى خلود

ثم نقول قوله تعالى: {اقتلوهم} الخطاب فيه واقع على النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن، والضمير في قوله: {اقتلوهم} عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة، فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم، وفي الشهر الحرام، وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال، فإنّه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عَمَّمَ المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحًا بتعميم الأماكن فإن أهمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تَعْمِيمَ الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال، فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم.
وعطفت الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغَى فحصلت المغايرة المقتضية العطف، ولذلك قال هنا {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} ولم يقل: وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيهًا على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غيرَ مباشر للقتال وأنه من خرج محاربًا فهو قاتل وإن لم يَقْتُلْ. اهـ.

.قال الفخر:

نقل عن مقاتل أنه قال: إن الآية المتقدمة على هذه الآية، وهي قوله: {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] منسوخة بقوله تعالى: {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} ثم تلك الآية منسوخة بقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] وهذا الكلام ضعيف.
أما قوله: إن قوله تعالى: {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم} منسوخ بهذه الآية، فقد تقدم إبطاله، وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ، وأما قوله: {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} منسوخ بقوله: {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فهو خطأ أيضًا لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم ما نسخ بل هو باقٍ فثبت أن قوله ضعيف ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى. اهـ.
قال الفخر:
الإخراج يحتمل وجهين أحدهما: أنهم كلفوهم الخروج قهرًا.
والثاني: أنهم بالغوا في تخويفهم وتشديد الأمر عليهم، حتى صاروا مضطرين إلى الخروج. اهـ.
قال الفخر:
صيغة {حَيْثُ} تحتمل وجهين أحدهما: أخرجوهم من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة.
والثاني: أخرجوهم من منازلكم، إذا عرفت هذا فنقول: إن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يخرجوا أولئك الكفار من مكة إن أقاموا على شركهم إن تمكنوا منه، لكنه كان في المعلوم أنهم يتمكنون منه فيما بعد، ولهذا السبب أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مشرك من الحرم.
ثم أجلاهم أيضًا من المدينة، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب». اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي يحل لكم حينئذٍ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة، فيكون هذا اللقاء لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسْعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام} [الفتح: 27] الآية. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} ففيه وجوه أحدها: وهو منقول عن ابن عباس: أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى، وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج، وفيه الفتنة، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل، لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم، والقتل ليس كذلك، والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة، والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل، وروي في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان قتل رجلًا من الكفار في الشهر الحرام، فالمؤمنون عابوه على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكان المعنى ليس لكم أن تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك.
وثانيها: أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش، ثم صار اسمًا لكل ما كان سببًا للامتحان تشبيهًا بهذا الأصل، والمعنى: أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين، وعلى تشديد الأمر عليهم بحيث صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والوطن هربًا من إضلالهم في الدين، وتخليصًا للنفس مما يخافون ويحذرون، فتنة شديدة بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخليص من غموم الدنيا وآفاتها، وقال بعض الحكماء: ما أشد من هذا القتل الذي أوجبه عليكم جزاء غير تلك الفتنة.
الوجه الثالث: أن يكون المراد من الفتة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل: اقتلوهم من حيث ثقفتموهم، واعلم أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه كقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ} [التوبة: 52] وإطلاق اسم الفتنة على العذاب جائز، وذلك من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] ثم قال عقيبه: {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] أي عذابكم، وقال: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] أي عذبوهم، وقال: {فَإِذَا أُوذِيَ في الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] أي عذابهم كعذابه.
الوجه الرابع: أن يكون المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام، أشد من قتلكم إياهم في الحرم، لأنهم يسعون في المنع من العبودية والطاعة التي ما خلقت الجن والإنس إلا لها.
الوجه الخامس: أن ارتداد المؤمن أشد عليه من أن يقتل محقًا والمعنى: وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم وأسهل عليكم من أن ترتدوا عن دينكم أو تتكاسلوا في طاعة ربكم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {والفتنة أشد من القتل} تذييل و{أل} فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخَطَابيِّ، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه. والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العَيْشِ وقد تقدمت عند قوله تعالى: {حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة: 102]، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعًا من مؤاخذتهم عليه؛ وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل، ويراد منها أيضًا الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة. وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيَّل. اهـ.

.قال البيضاوي:

{والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} أي المحنة التي يفتتن بها الإنسان، كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها. وقيل: معناه شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه. اهـ.

.قال الثعالبي:

و{الفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل}، أي: الفتنةُ التي حملوكم علَيْها، ورامُوكم بِهَا على الرُّجوع إِلى الكفر- أشدُّ من القتْل، ويحتمل أن يكون المعنى: والفتنةُ، أي: الكفر والضَّلال الذي هم فيه أَشَدُّ في الحَرَمِ، وأعظم جُرْمًا من القتل الَّذي عيَّروكم به في شأن ابْنِ الحَضْرَمِيِّ. اهـ.