فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}.
ثم استمرت الآيات في وصف عباد الله المؤمنين بأن نفى عنهم شهادة الزور، و{يشهدون} في هذا الموضع ظاهر معناها يشاهدون ويحضرون، و{الزور} كل باطل زور وزخرف فأعظمه الشرك وبه فسر الضحاك وابن زيد، ومنه الغناء، وبه فسر مجاهد، ومنه الكذب، وبه فسر ابن جريج، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي المعنى لا يشهدون بالزور فهو من الشهادة لا من المشاهدة والزور الكذب.
قال الفقيه الإمام القاضي: والشاهد بالزور حاضره ومؤديه جرأة، فالمعنى الأول أعم لكن المعنى الثاني أغرق في المعاصي وأنكى، واللغو كل سقط من فعل أو قول يدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر، و{كرامًا} معناه معرضين مستحين يتجافون عن ذلك ويصبرون على الأذى فيه، وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع في مشيه وذهب فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد أصبح ابن أم عبد كريمًا، وقرأ الأية.
قال الفقيه الإمام القاضي: وأما إذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغير، وحدود التغيير معروفة وقوله تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم} ذكروا بالقرآن آخرتهم ومعادهم وقوله: {لم يخروا عليها صمًا وعميانًا} يحتمل تأويلين: أحدهما أن يكون المعنى لم يكن خرورهم بهذه الصفة بل يكون سجدًا وبكيًا، وهذا كما تقول لم يخرج زيد للحرب جزعًا أي إنما خرج جريئًا مقدمًا. وكأن الذي يخر أصم وأعمى هو المنافق، أو الشاك، والتأويل الثاني ذهب إليه الطبري وهو أن يخروا صمًا وعميانًا هي صفة للكافر وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك. وقرن ذلك بقوله قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وكان المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورًا وهو السقوط على غير نظام ولا ترتيب وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدًا، ولكن أصله أنه على غير ترتيب، ثم مدح المؤمنين حال الدعاء إليه في أن يقر العيون بالأهل والذرية، وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر، وهو الأشهر لأن دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال أقر الله عينك وأسخن الله عين العدو، وقرة العين في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله تعالى قاله ابن عباس والحسن وحضرمي، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فكانت قرت عيونهم في إيمانهم أحبابهم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن {ذرياتنا}، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى {ذريتنا} بالإفراد.
وقوله تعالى: {للمتقين إمامًا} قيل هو جمع، آم مثل قائم وقيام وقيل هو مفرد اسم جنس أي اجعلنا يأتم بنا المتقون، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيًا قدوة وهذا هو قصد الداعي، قال إبراهيم النخعي لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين وهذا حسن أن يطلب ويسعى له.
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)} قرأ أبي كعب {يجازون} بألف، و{الغرفة} من منازل الجنة وهي الغرفة فوق الغرف وهو اسم الجنة كما قال: الهزج:
ولولا الحبة السمراء ** لم نحلل بواديكم

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {ويُلَقّون} بضم الياء وفتح اللام وشد القاف وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم وطلحة ومحمد اليماني ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم {ويلْقون} بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختلف عن عاصم وقوله: {حسنت مستقرًا ومقامًا} معادل لقوله في جهنم {ساءت} وقوله: {قل ما يعبؤوا بكم} الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بذلك، و{ما} تحتمل النفي وتحتمل التقرير والكلام في نفسه يحتمل تأويلات أحدها أن تكون الآية إلى قوله: {لولا دعاؤكم} خطابًا لجميع الناس فكأنه قال لقريش منهم أي ما يبالي الله بكم ولا ينظر إليكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. وقال النقاش وغيره المعنى لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك فذلك هو عرف الناس المرعي فيهم، وقرأ ابن الزبير وغيره {فقد كذب الكافرون} وهذا يؤيد أن الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس، ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب والتكذيب الذي هو سبب العذاب لزامًا، والثاني أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة أي {ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} الأصنام آلهة دونه فإن ذلك يوجب تعذيبكم، والثالثة وهو قول مجاهد أي ما يعبأ ربكم بكم لولا أن دعاكم إلى شرعه فوقع منكم الكفر والإعراض.
قال القاضي أبو محمد: والمصدر في هذا التأويل مضاف إلى المفعول وفي الأولين مضاف إلى الفاعل و{يعبأ} مشتق من العبء، وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش، وقرأ ابن الزبير {وقد كذبت الكافرون فسوف}، قال ابن جني قرأ ابن الزبير وابن عباس. إلخ... {فقد كذب الكافرون}، قال الزهراوي وهي قراءة ابن مسعود قال وهي على التفسير وأكثر الناس على أن اللزام المشار إليه في هذا الموضع هو يوم بدر وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود، والمعنى فسوف يكون جزاء التكذيب، وقالت فرقة هو تعوذ بعذاب الآخرة، وقال ابن مسعود اللزام التكذيب نفسه أي لا تعطون توبة ذكره الزهراوي، وقال ابن عباس أيضًا اللزام الموت وهذا نحو القول ببدر وإن أراد به متأول الموت المعتاد في الناس عرفًا فهو ضعيف، وقرأ جمهور الناس {لِزامًا} بكسر اللام من لوزم وأنشد أبو عبيدة لصخر الغي: الوافر:
فإمّا ينجوا من حتف أرض ** فقد لقيا حتوفهما لزاما

وقرأ أبو السمال {لَزامًا} لفتح اللام من لزم والله المعين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {والذين لا يَشْهَدون الزُّور} فيه ثمانية أقوال.
أحدها: أنه الصَّنم؛ روى الضحاك عن ابن عباس أن الزُّور صنم كان للمشركين.
والثاني: أنه الغِناء، قاله محمد بن الحنفية، ومكحول؛ وروى ليث عن مجاهد قال: لا يسمعون الغناء.
والثالث: الشِّرك، قاله الضحاك، وأبو مالك.
والرابع: لعب كان لهم في الجاهلية، قاله عكرمة.
والخامس: الكذب، قاله قتادة، وابن جريج.
والسادس: شهادة الزور، قاله عليّ بن أبي طلحة.
والسابع: أعياد المشركين، قاله الربيع بن أنس.
والثامن: مجالس الخنا، قاله عمرو بن قيس.
وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال.
أحدها: المعاصي، قاله الحسن.
والثاني: أذى المشركين إِياهم، قاله مجاهد.
والثالث: الباطل، قاله قتادة.
والرابع: الشِّرك، قاله الضحاك.
والخامس: إِذا ذكروا النكاح كنوا عنه، قاله مجاهد.
وقال محمد بن علي: إِذا ذكروا الفروج كنوا عنها.
قوله تعالى: {مَرُّوا كِرَامًا} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: مَرُّوا حُلَماء، قاله ابن السائب.
والثاني: مَرُّوا مُعْرِضِين عنه، قاله مقاتل.
والثالث: أن المعنى: إِذا مَرُّوا باللغو جاوزوه، قاله الفراء.
قوله تعالى: {والذين إِذا ذُكّروا} أي: وُعِظوا {بآيات ربِّهم} وهي القرآن {لم يَخِرُّوا عليها صُمًّا وعُمْيَانًا} قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها كأنهم صُمٌّ لم يسمعوها، عميٌ لم يَرَوها.
وقال غيره من أهل اللغة: لم يثبتوا على حالتهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يَرَوا، وإِن لم يكونوا خَرُّوا حقيقة؛ تقول العرب: شتمت فلانًا، فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يعتذر، وظلَّ يتحيَّر، وإِن لم يكن قام ولا قعد.
قوله تعالى: {هَبْ لنا مِنْ أزواجنا وذُرِّيَّاتِنَا} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {وذُرِّيَّاتِنَا} على الجمع.
وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وحفص عن عاصم: {وذُرِّيَّتِنَا} على التوحيد، {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} وقرأ ابن مسعود، وأبو حيوة: {قُرَّاتَ أَعْيُنٍ} يعنون: من يعمل بطاعتك فتقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة.
وسئل الحسن عن قوله: {قُرَّةَ أعين} في الدنيا، أم في الآخرة؟ قال: لا، بل في الدنيا، وأيُّ شيء أقَرُّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يُطيعون الله، والله ما طلب القوم إِلا أن يُطاع الله فتَقَرّ أعينهم.
قال الفراء: إِنما قال: {قُرَّةَ} لأنها فعل، والفعل لا يكاد يُجمع، ألا ترى إِلى قوله: {وادعُوا ثُبُورًا كثيرًا} [الفرقان: 44] فلم يجمعه؛ والقُرَّة مصدر، تقول: قَرَّت عينه قُرَّة، ولو قيل: قُرَّة عين أو قُرَّات أعين كان صوابًا.
وقال غيره: أصل القُرَّة من البَرْد، لأن العرب تتأذى بالحَرِّ، وتستروح إِلى البَرْد.
قوله تعالى: {واجْعَلْنا للمُتَّقِين إِمامًا} فيه قولان:
أحدهما: اجعلنا أئمة يُقتدى بنا، قاله ابن عباس.
وقال غيره: هذا من الواحد الذي يراد به الجمع، كقوله: {إِنَّا رسولُ ربِّ العالَمِين} [الشعراء: 16]، وقوله: {فانَّهم عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77].
والثاني: اجعلنا مؤتمِّين بالمُتَّقِين مقتدين بهم، قاله مجاهد؛ فعلى هذا يكون الكلام من المقلوب، فيكون المعنى: واجعل المُتَّقِين لنا إِمامًا.
قوله تعالى: {أولئك يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ}.
قال ابن عباس: يعني الجنة.
وقال غيره: الغرفة: كل بناءٍ عالٍ مرتفع، والمراد غرف الجنة، وهي من الزَّبَرجد والدُّرّ والياقوت، {بما صَبَروا} على دينهم وعلى أذى المشركين.
قوله تعالى: {ويُلَقَّوْنَ فيها} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: {ويُلَقَّوْنَ} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {ويَلْقَوْنَ} بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، {تحيَّةً وسلامًا} قال ابن عباس: يُحيِّي بعضُهم بعضًا بالسلام، ويرسل إِليهم الرَّبُّ عز وجل بالسلام.
وقال مقاتل: {تحيةً} يعني السلام، {وسلامًا} أي سلَّم الله لهم أمرهم وتجاوز عنهم.
قوله تعالى: {قل ما يَعْبَأُ بكم ربِّي}.
فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: ما يصنع بكم! قاله ابن عباس.
والثاني: أيّ وزن يكون لكم عنده؛ تقول: ما عبأتُ بفلان، أي: ما كان له عندي وزن ولا قَدْر، قاله الزجاج.
والثالث: ما يعبأ بعذابكم، قاله ابن قتيبة.
وفي قوله: {لولا دُعاؤكم} أربعة أقوال.
أحدها: لولا إِيمانكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: لولا عبادتكم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: لولا دعاؤه إِيّاكم لِتعبُدوه، قاله مجاهد؛ والمراد نفع الخَلْق، لأن الله تعالى غير محتاج.
والرابع: لولا توحيدكم، حكاه الزجاج.
وعلى قول الأكثرين ليس في الآية إِضمار؛ وقال ابن قتيبة: فيها إِضمار تقديره: ما يعبأ بعذابكم لولا ما تَدْعونه من الشريك والولد، ويوضح ذلك قوله: {فسوف يكون لِزَامًا} يعني: العذاب، ومثله قول الشاعر:
مَنْ شَاءَ دَلَّى النَّفْسَ في هُوَّةٍ ** ضَنْكٍ ولكِنْ مَنْ لَهُ بالمَضِيقْ

أي: بالخروج من المضيق.
وهل هذا خطاب للمؤمنين، أو للكفار؟ فيه قولان.
فأما قوله تعالى: {فقد كذَّبْتُم} فهو خطاب لأهل مكة حين كذَّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فسوف يكون} يعني: تكذيبكم {لزَامًا} أي: عذابًا لازمًا لكم؛ وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه قتلهم يوم بدر، فقُتلوا يومئذ، واتصل بهم عذاب الآخرة لازمًا لهم، وهذا مذهب ابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، ومجاهد في آخرين.
والثاني: أنه الموت، قاله ابن عباس.
والثالث: أن اللِّزام: القتال، قاله ابن زيد. اهـ.