فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه.
والزور كل باطل زُوّر وزُخرِف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد.
وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس.
وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين.
عِكرمة: لعبٌ كان في الجاهلية يسمى بالزور.
مجاهد: الغناء؛ وقاله محمد بن الحنفية أيضًا.
ابن جُريج: الكذب؛ وروي عن مجاهد.
وقال عليّ بن أبي طلحة ومحمد بن عليّ: المعنى لا يشهدون بالزور، من الشهادة لا من المشاهدة.
قال ابن العربي: أما القول بأنه الكذب فصحيح، لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع، وأما من قال إنه لعِبٌ كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة، أو أمر يعود إلى الكفر، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد.
قلت: من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ويخرجها عن الاعتدال، أو يثير كامنًا من حب اللهو؛ مثل قول بعضهم:
ذهبيّ اللون تحسب من ** وجنتيه النار تُقتدَحُ

خوّفوني من فضيحته ** ليته وافى وأفتضِحُ

لاسيما إذا اقترن بذلك شبّابَات وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الأزمان، على ما بيناه في غير هذا الموضع.
وأما من قال إنه شهادة الزور؛ وهي:
الثانية: فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخّم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق.
وقال أكثر أهل العلم: ولا تقبل له شهادة أبدًا وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله.
وقد قيل: إنه إذا كان غير مبرَّز فحسنت حاله قبلت شهادته حسبما تقدّم بيانه في سورة الحج فتأمله هناك.
قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا} قد تقدّم الكلام في اللغو، وهو كل سقط من قول أو فعل؛ فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، ويدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر.
وقال مجاهد: إذا أوذوا صفحوا. وروي عنه: إذا ذكر النكاح كنُّوا عنه. وقال الحسن: اللغو المعاصي كلها. وهذا جامع.
و{كِرَامًا} معناه معرضين منكرين لا يرضَونه، ولا يمالؤون عليه، ولا يجالسون أهله.
أي مروا مرّ الكرام الذين لا يدخلون في الباطل.
يقال: تكرم فلان عما يشينه، أي تنزّه وأكرم نفسه عنه.
وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لقد أصبح ابن أمّ عبدٍ كريمًا» وقيل: من المرور باللغو كريمًا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)}.
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي إذا قرىء عليهم القرآن ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع.
وقال: {لَمْ يَخِرُّواْ} وليس ثَمَّ خرور؛ كما يقال: قعد يبكي وإن كان غير قاعد؛ قاله الطبريّ واختاره؛ قال ابن عطية: وهو أن يخروا صمًّا وعميانًا هي صفة الكفار، وهي عبارة عن إعراضهم؛ وقرن ذلك بقولك: قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
قال ابن عطية: فكأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر، فإذا أعرض وضلّ كان ذلك خرورًا، وهو السقوط على غير نظام وترتيب؛ وإن كان قد شبّه به الذي يخر ساجدًا لكن أصله على غير ترتيب.
وقيل: أي إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخرّوا سجدًا وبكيًا، ولم يخرّوا عليها صمًا وعميانًا.
وقال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا.
الثانية: قال بعضهم: إن من سمع رجلًا يقرأ سجدة يسجد معه؛ لأنه قد سمع آيات الله تتلى عليه.
قال ابن العربيّ: وهذا لا يلزم إلا القارىء وحده، وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة؛ وهو أن الرجل إذا تلا القرآن وقرأ السجدة فإن كان الذي جلس معه جلس يسمعه فليسجد معه، وإن لم يلتزم السماع فلا سجود عليه.
وقد مضى هذا في الأعراف.
قوله تعالى: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
قال الضحاك: أي مطيعين لك.
وفيه جواز الدعاء بالولد وقد تقدّم.
والذرّية تكون واحدًا وجمعًا.
فكونها للواحد قوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] وكونها للجمع {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] وقد مضى في البقرة اشتقاقها مستوفى.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن: {وَذُرِّيَّاتِنَا} وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائيّ وطلحة وعيسى: {وذريتِنا} بالإفراد.
{قُرَّةَ أَعْيُنٍ} نصب على المفعول، أي قرّة أعين لنا.
وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه» وقد تقدّم بيانه في آل عمران ومريم.
وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرّت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرّية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدِّين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى؛ فذلك حين قرّة العين، وسكون النفس.
ووحّد {قُرّة} لأنه مصدر؛ تقول: قرّت عينك قُرّة.
وقُرّة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القُرّ وهو الأشهر.
والقُرّ البرد؛ لأن العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد.
وأيضًا فإن دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال: أقرّ الله عينك، وأسخن الله عين العدو.
وقال الشاعر:
فكم سَخِنتْ بالأمس عينٌ قرِيرةٌ ** وقَرّت عيونٌ دمعُها اليومَ ساكبُ

قوله تعالى: {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيًا قدوة؛ وهذا هو قصد الداعي.
وفي الموطأ: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم فكان ابن عمر يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين.
وقال: {إِمامًا} ولم يقل أئمة على الجمع؛ لأن الإمام مصدر.
يقال: أمّ القوم فلان إمامًا؛ مثل الصيام والقيام.
وقال بعضهم: أراد أئمة، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء، يعني أمراءنا.
وقال الشاعر:
يا عاذلاتي لا تَزِدْنَ مَلامَتِي ** إنّ العواذل لَسْنَ لِي بأميرِ

أي أمراء.
وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدّعيه كل أحد لنفسه.
وقال إبراهيم النَّخعيّ: لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدِّين.
قال ابن عباس: اجعلنا أئمة هدى، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24] وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون.
وقيل: هذا من المقلوب؛ مجازه: واجعل المتقين لنا إمامًا؛ وقاله مجاهد.
والقول الأوّل أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول، ويكون فيه دليل على أن طلب الرياسة في الدين ندب.
وإمام واحد يدلّ على جمع؛ لأنه مصدر كالقيام.
قال الأخفش: الإمام جمع آمّ من أمّ يؤمّ جمع على فِعال، نحو صاحب وصِحاب، وقائم وقِيام.
قوله تعالى: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ} {أُولَئِكَ} خبر {وعِبَادُ الرَّحْمَنِ} في قول الزجاج على ما تقدّم، وهو أحسن ما قيل فيه.
وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي؛ وهي إحدى عشرة: التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله.
و{الْغُرْفَة} الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا.
حكاه ابن شجرة.
وقال الضحاك: الغرفة الجنة.
{بِمَا صَبَرُوا} أي بصبرهم على أمر ربهم، وطاعة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام.
وقال محمد بن علي بن الحسين: {بِمَا صَبَرُوا} على الفقر والفاقة في الدنيا.
وقال الضحاك: {بِمَا صَبَرُوا} عن الشهوات.
{وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا} قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: {وَيَلْقَوْنَ} مخففة، واختاره الفراء؛ قال لأن العرب تقول: فلان يُتلقّى بالسلام وبالتحية وبالخير بالتاء، وقلما يقولون فلان يُلقّى السلامة.
وقرأ الباقون: {وَيُلَقَّوْنَ} واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11].
قال أبو جعفر النحاس: وما ذهب إليه الفراء واختاره غلط؛ لأنه يزعم أنها لو كانت {يُلَقَّوْنَ} كانت في العربية بتحية وسلام، وقال كما يقال: فلان يُتلقّى بالسلام وبالخير؛ فمن عجيب ما في هذا الباب أنه قال يتلقى والآية {يُلَقَّوْنَ} والفرق بينهما بيّن: لأنه يقال فلان يتلقى بالخير ولا يجوز حذف الباء، فكيف يشبه هذا ذاك! وأعجب من هذا أن في القرآن {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] ولا يجوز أن يقرأ بغيره وهذا يبيّن أن الأولى على خلاف ما قال والتحية من الله والسلام من الملائكة.