فصل: قال صاحب روح البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله سبحانه: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بيان لحال الكفرة منهم، والمعنى إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم حكمي ولم تعملوا عمل أولئك المذكورين، فالفاء مثلها في قوله: فقد جئنا خراسانًا والتكذيب مستعار للمخالفة، وقيل: المراد فقد قصرتم في العبادة على أنه من قولهم: كذب القتال إذا لم يبالغ فيه، والأول أولى وإن قيل: إن المراد من التقصير في العبادة تركها.
وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير {فَقَدْ كَذَّبَ الكافرون} وهو على معنى كذب الكافرون منكم لعموم الخطاب للفريقين على ما أشرنا إليه وهو الذي اختاره الزمخشري واستحسنه صاحب الكشف، واختار غير واحد أنه خطاب لكفرة قريش، والمعنى عليه عند بعض ما يعبأ بكم لولا عبادتكم له سبحانه أي لولا إرادته تعالى التشريعية لعبادتكم له تعالى لما عبأ بكم ولا خلقكم، وفيه معنى من قوله تعالى: {مَا خَلَقْتَ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقيل: المعنى ما يعبأ بكم لولا دعاؤه سبحانه إياكم إلى التوحيد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أي لولا إرادة ذلك.
وقيل: المعنى ما يبالي سبحانه بمغفرتكم لولا دعاؤكم معه آلهة أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ} [النساء: 147]، وقيل: المعنى ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه تعالى وتضرعكم إليه في الشدائد كما قال تعالى: {فَإِذَا ركبوا في الفلك دعوا الله} [العنكبوت: 65] وقال سبحانه: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]، وقيل: المعنى ما خلقكم سبحانه وله إليكم حاجة إلا أن تسألوه فيعطيكم وتستغفروه فيغفر لكم، وروي هذا عن الوليد بن الوليد رضي الله تعالى عنه.
وأنت تعلم أن ما آثره الزمخشري لا ينافي كون الخطاب لقريش من حيث المعنى فقد خصص بهم في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ}.
{فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي جزاء التكذيب أو أثره لازمًا يحيق بكم حتى يكبكم في النار كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها فضمير {يَكُونَ} لمصدر الفعل المتقدم بتقدير مضاف أو على التجوز، وإنما لم يصرح بذلك للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مما لا يكتنهه البيان.
وقيل: الضمير للعذاب، وقد صرح به من قرأ {يَكُونَ العذاب لِزَامًا}، وصح عن ابن مسعود أن اللزام قتل يوم بدر، وروي عن أبي ومجاهد وقتادة وأبي مالك ولعل إطلاقه على ذلك لأنه لوزم فيه بين القتلى {لِزَامًا}.
وقرأ ابن جريج تكون بتاء التأنيث على معنى تكون العاقبة، وقرأ المنهال، وأبان بن ثعلب وأبو السمال {لِزَامًا} بفتح اللام مصدر لزم يقال: لزم لزومًا ولزامًا كثبت ثبوتًا وثباتًا، ونقل ابن خالويه عن أبي السمال {لِزَامًا} على وزن حذام جعله مصدرًا معدولًا عن اللزمة كفجار المعدول عن الفجرة والله تعالى أعلم هذا. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}.
من الشهادة وهي الإخبار بصحة الشيء عن مشاهدة وعيان.
والزور الكذب وأصله تمويه الباطل بما يوهم أنه حق.
وقال الراغب: الأزور المائل الزور أي الصدر وقيل للكذب زور لكونه مائلًا عن جهته وانتصابه على المصدرية والأصل لا يشهدون شهادة الزور بإضافة العام إلى الخاص فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والمعنى لا يقيمون الشهادة الكاذبة.
واختلف الأئمة في عقوبة شاهد الزور.
فقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يعزر بل يوقف في قومه ويقال لهم: إنه شاهد زور.
وقال الثلاثة: يعزر ويوقف في قومه ويعرفون أنه شاهد زور.
وقال مالك: يشهر في الجوامع والأسواق والمجامع.
وقال أحمد: يطاف به في المواضع التي يشتهر فيها فيقال: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاجتنبوه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطوف في الأسواق كما في كشف الأسرار.
قال ابن عطاء رحمه الله: هي شهادة اللسان من غير مشاهدة القلب ويجوز أن يكون يشهدون من الشهود وهو الحضور وانتصاب الزور على المفعول به والأصل لا يشهدون مجالس الزور فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والمعنى لا يحضرون محاضر الكذب ومجالس الفحش فإن مشاهدة الباطل مشاركة فيه من حيث أنها دليل الرضى به كما إذا جالس شارب الخمر يغير ضرورة فإنه شريك في الإثم.
وأما الملامية وهم الذين لا يظهرون خيرًا ولا يضمرون شرًا لانفراد قلوبهم مع الله يمشون في الأسواق ويتكلمون مع الناس بكلام العامة ويحضرون بعض مواضع الشرور لمشاهدة القضاء والقدر حتى يوافقوا الناس في الشر فهم في الحقيقة عباد الرحمن وهم المرادون بقوله عليه السلام: «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» قال في ترجمة الفتوحات: رجل اشترى يوم النيروز شيئًا لم يشتره في غير ذلك اليوم إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما عظمه الكفرة يكون كفرًا وإن فعل ذلك لأجل الشرب والتنعم يوم النيروز لا يكون كفرًا انتهى والمراد نيروز النصارى لا نيروز العجم كما هو الظاهر من كلامه.
وقال بعضهم: يدخل في مجلس الزور اللعب واللهو والكذب والنوح والغناء بالباطل.
روي: عن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم رياض المسك ثم يقول للملائكة: أسمعوا عبادي تحميدي وثنائي وتمجيدي وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كذا في كشف الأسرار.
ومن سنن الصوم أن يصوم الصائم لسانه عن الكذب والغيبة وفضول الكلام والسب والنميمة والمزاح والمدح والغناء والشعر والمراد بالغناء التغني بالباطل وهو الذي يحرك من القلب ما هو مراد الشيطان من الشهوة ومحبة المخلوقين وأما ما يحرك الشوق إلى الله فمن التغني بالحق كما في الإحياء.
واختلف في القراءة بالألحان فكرهها مالك والجمهور لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع والتفهم ولذا قال في قاضي خان: لا ينبغي أن يقدم في التروايح الخوشخوان بل يقدم الدرستخوان فإن الإمام إذا كان حسن الصوت يشغل عن الخشوع والتدبير والتفكر. انتهى.
وأباحها أبو حنيفة وجماعة من السلف للأحاديث لأن ذلك سبب للرقة وإثارة الخشية كما في فتح القريب.
قال في أصول الحديث: إذا جلس الشيخ من أهل الحديث مجلس التحديث يفتتح بعد قراءة قارىء حسن الصوت شيئًا من القرآن انتهى وإنما استحب تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن أفرط زاد حرفًا أو أخفى حرفًا فهو حرام كما في أبكار الأفكار.
ورأى عليه السلام ليلة المعراج ملكًا لم ير قبله مثله وكان إذا سبح اهتز العرش لحسن صوته وكان بين يديه صندوقان عظيمان من نور فيهما براءة الصائمين من عذاب النار وتفصيله في مجالس النفائس لحضرة الهدائي قدس سره.
وقال سهل قدس سره: المراد بالزور مجالس المبتدعين.
قال أبو عثمان قدس سره: مجالس المدعين وكذا كل مشهد ليس لك فيه زيادة في دينك بل تنزل وفساد {وَإِذَا مَرُّوا} على طريق الاتفاق {بِاللَّغْوِ} أي ما يجب أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه.
وقال في فتح الرحمن: يشمل المعاصي كلها وكل سقط من فعل أو قول.
وقال الراغب: اللغو من الكلام ما لا يعتد به هو يعد ذلاقة روية وفكر فيجرى مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور.
{مَرُّوا} حال كونهم {كِرَامًا} جمع كريم يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه.
قال الراغب: الكرم إذا وصف الله به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال: هو كريم حتى يظهر ذلك منه.
والمعنى معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية عما يستهجن الصريح به.
قال في كشف الأسرار: قيل: إذا أرادوا ذكر النكاح وذكر الفروج كنوا عنه فالكرم هاهنا هو الكناية والتعريض وقوله عز وجل: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] كناية عن البول والخلاء وقد كنى الله عز وجل في القرآن عن الجماع بلفظ الغشيان والنكاح والسر والإتيان والإفضاء واللمس والمس والدخول والمباشرة والمقاربة في قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] والطمث في قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 56] وهذا باب واسع في العربية.
قال الإمام الغزالي: أما حد الفحش وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به وأهل الصلاح يتحاشون من التعرض لها بل يكنون عنها ويدلون عليها بالرموز وبذكر ما يقاربها ويتعلق بها مثلًا يكنون عن الجماع بالمس والدخول والصحبة وعن التبول بقضاء الحاجة وأيضًا لا يقولون: قالت زوجتك كذا بل يقال: قيل في الحجرة أو قيل من وراء السترة أو قالت أم الأولاد كذا وأيضًا يقال لمن به عيب يستحيي منة كالبرحة والقرع والبواسير العارض الذي يشكوه وما يجري مجراه وبالجملة كل ما يخفى ويستحى منه فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة فإنه فحش والفاحش يحشر يوم القيامة في صورة الكلب.
والمراد أن الصدق أولى وإن لزم الضرر على نفس القائل وأما جواز الكذب فإنما هو لتخليص الغير ودفع الفتنة بين الناس وهو المراد من قوله: دروغ مصملحت آميزبه ازراست فتنه انكيز نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصادقين المخلصين بل من الصديقين المخلصين ويحشرنا مع الكرماء الحلماء والعلماء الأدباء إنه الموفق للأقوال الحسنة والأفعال المستحسنة.
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} وعصوا.
{وَالَّذِينَ إِذَا} المشتملة على المواعظ والأحكام {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا} خرّ سقط سقوطًا يسمع منه خرير والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو {صُمًّا} جمع أصم وهو فاقد حاسة السمع وبه يشبه من لا يصغي إلى الحق ولا يقبله.
{وَعُمْيَانًا} جمع أعمى وهو فاقد حاسة البصر.
والمعنى لم يقفوا على الآيات حال كونهم صمًا لم يسمعوا لها وعميًا لم يبصروها بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية وانتفعوا بها.
وإنما عبر عن المعنى المذكور بنفي الضد تعريضًا لما يفعله الكفرة والمنافقون فالمراد من النفي نفي الصمم والعمى دون الخرور وإن دخلت الأداة عليه {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا} وهو أمر من وهب يهب وهبًا وهبة.
والهبة أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض ويوصف الله بالواهب والوهاب بمعنى أنه يعطي كلًا على قدر استحقاقه.
{مِنْ أَزْوَاجِنَا} وهو جمع زوج يقال لكل ما يقترن بآخر مماثلًا له أو مضادًا زوج وأما زوجة فلغة رديئة كما في المفردات.
{وَذُرِّيَّاتِنَا} وهو جمع ذرية أصلها صغار الأولاد ثم صار عرفًا في الكبار أيضًا.
قال في القاموس: ذرأ الشيء كثره ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين.
{قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أي بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل فإن المؤمن إذا ساعده أهله في طاعة الله يسر بهم قلبه وتقربهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدين وتوقع لحوقهم به في الجنة حسبما وعد بقوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] فالمراد بالقرور المسئول تفضيلهم بالفضائل الدينية لا بالمال والجاه والجمال ونحوها.
وقرة منصوب على أنه مفعول هب وهي إما من القرار ومعناه أن يصادف قلبه من يرضاه فتقر عينه عن النظر إلى غيره ولا تطمح إلى ما فوقه وإما من القر بالضم وهو البرد والعرب تتأذى من الحر وتستريح إلى البرد فقرور العين على هذا يكون كناية عن الفرح والسرور فإن دمع العين عند السرور بارد وعند الحزن حار.