فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا}. أي إذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنهم كرامًا مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم في لغوهم، وهو كل كلام لا خير فيه كما تقدم.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحه جل وعلا بقوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55]، وقد قدمنا الآيات الدالة على معاملة عباد الرحمن للجاهلين، في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] الآية.
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)}.
قال الزمخشري: لم يخروا عليها ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى كما تقول: لا يلقاني زيد مسلمًا، هو نفي للسلام لا للقاء.
والمعنى: أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها، حرصًا على استماعها وأقبلوا على المذكر بها، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية. انتهى محل الغرض منه.
ولا يخفى أن لهذه الآية الكريمة دلالتين: دلالة بالمنطوق، ودلالة بالمفهوم، فقد دلت بمنطوقها على أن من صفات عباد الرحمن، أنهم إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها، لم يكبوا عليها في حال كونهم صمًا عن سماع ما فيها من الحق، وعميانًا عن إبصاره، بل هم يكبون عليها سامعين ما فيها من الحق مبصرين له.
وهذا المعنى دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] الآية. ومعلوم أن من تليت عليه آيات هذا الفرقان، فزادته إيمانًا أنه لم يخر عليها أصم أعمى. وكقوله تعالى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَانًا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دلت الآية المذكورة أيضًا بمفهومها: أن الكفرة المخالفين، لعباد الرحمن الموصوفين في هذه الآيات، إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صمًا وعميانًا: أي لا يسمعون ما فيها من الحق، ولا يبصرونه، حتى كأنهم لم يسمعوها أصلًا.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية بمفهومها جاء موضحًا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة لقمان: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7] وقوله تعالى في الجاثية: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتخذها هُزُوًا أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية: 79] وقوله تعالى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَانًا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [البقرة: 124- 125] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
والظاهر أن معنى خرور الكفار على الآيات، في حال كونهم صماء وعميانًا، هو إكبابهم على إنكارها، والتكذيب بها، خلافًا لما ذكره الزمخشري في الكشاف، والصم في الآية جمع أصم: والعميان جمع أعمى والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ}. الظاهر أن المراد بالغرفة في هذه الآية الكريمة جنسها الصادق بغرف كثيرة، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] وقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الزمر: 20] الآية.
وقد أوضحنا هذا في أول سورة الحج وفي غيرها.
قوله تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا} وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس: 10].
{خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)} قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31].
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، يقولون: ما عبأت بفلان أي ما باليت به، ولا أكترثت به: أي ما كان له عندي وزن، ولا قدر يستوجب الاكتراث، والمبالاة به، وأصله من العبء، وهو الثقل ومنه قول أبي زيد يصف أسدًا:
كان بنحره وبمنكبيه ** عبيرًا بات يعبؤه عروس

وقوله: يعبؤه: أي يجعل بعضه فوق بعض لمبالاته به واكتراثه به.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن كلام أهل التفسير في هذه الآية الكريمة، يدور على أربعة أقوال:
واعلم أولًا أن العلماء اختلفوا في المصدر في قوله: لولا دعاؤكم، هل هو مضاف إلى فاعله، أو إلى مفعوله، وعلى أنه مضاف إلى فاعله فالمخاطبون بالآية، داعون: لا مدعوون: أي ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم: أي عبادتكم له. وأما على أن المصدر مضاف إلى مفعوله فالمخاطبون بالآية، مدعوون، لا داعون: أي ما يعبؤ بكم، لولا دعاؤه إياكم إلى توحيده، وعبادته على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام.
واعلم أيضًا أن ثلاثة من الأقوال الأربعة المذكورة في الآية مبنية على كون المصدر فيها مضافًا إلى فاعله. والرابع: مبني على كونه مضافًا إلى مفعوله.
أما الأقوال الثلاثة المبنية على كونه مضافًا إلى فاعله.
فالأول منها أن المعنى: ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم: أي عبادتكم له وحده جل وعلا، وعلى هذا القول فالخطاب عام للكافرين والمؤمنين ثم أفرد الكافرين دون المؤمنين بقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} [الفرقان: 77] الآية.
والثاني منها: أن المعنى: لولا دعاؤكم أيها الكفار له وحده عند الشدائد والكروب: أي ولو كنتم ترجعون إلى شرككم، إذا كشف الضر عنكم.
والثالث: أن المعنى ما يعبؤ بكم ربي: أي ما يصنع بعذابكم، لولا دعاؤكم معه آلهة أخرى، ولا يخفى بعد هذا القول، وأن فيه تقدير ما لا دليل عليه، ولا حاجة إليه.
أما القول الرابع المبني على أن المصدر في الآية، مضاف إلى مفعوله فهو ظاهر، أي ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم إياكم على ألسنة رسله.
وإذا عرفت هذه الأقوال فاعلم أن كل واحد منها، قد دل عليه قرآن وسنبين هنا إن شاء الله تعالى دليل كل قول منها من القرآن مع ذكر ما يظهر لنا أنه أرجحها.
أما هذا القول الأخير المبني على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله، وأن المعنى: ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم إياكم إلى الإيمان به، وتوحيده، وعبادته على ألسنة رسله، فقد دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى في أول سورة هود: {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] وقوله تعالى في أول سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا}.
[الكهف: 7] وقوله في أول سورة الملك: {الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
فهذه الآيات قد أوضحت أن الحكمة في خلقه السماوات والأرض، وجميع ما على الأرض والموت والحياة، هي أن يدعوهم على ألسنة رسله، ويبتليهم أي أن يختبرهم أيهم أحسن عملًا. وهذه الآيات تبين معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وفي هذه الآيات إيضاح لأن معنى قوله: لولا دعاؤكم: أي دعاؤه إياكم على ألسنة رسله، وابتلاؤكم أيكم أحسن عملًان وعلى هذا فلا إشكال في قوله: فقد كذبتم: أي ما يعبؤ بكم لولا دعاؤه إياكم: أي وقد دعاكم فكذبتم، وهذا القول هو وحده الذي لا إشكال فيه. فهو قوي بدلالة الآيات المذكورة عليه.
وأما القول بأن معنى: لولا دعاؤكم: أي إخلاصكم الدعاء له أيها الكفار عند الشدائد، والكروب، فقد دلت على معناه آيات كثيرة كقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] وقوله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [يونس: 22].
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] الآية، وهذا القول وإن دلت عليه آيات كثيرة، فلا يظهر كونه هو معنى آية الفرقان هذه.
أما القول بأن المعنى: ما يصنع بعذابكم، لولا دعاؤكم معه آلهة أخرى، فقد دل على معناه قوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] الآية.
والقول الأول الذي هو أشهر الأقوال وأكثرها قائلًا، وهو أن المعنى: لولا دعاؤكم: أي عبادتكم له وحده، قد دل عليه جميع الآيات الدالة على ما يعيطه الله لمن أطاعه، وما أعده لمن عصاه، وكثرتها معلومة لا خفاء بها.
واعلم أن لفظه ما، في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} قال بعض أهل العلم: هي استفهامية. وقال بعضهم: هي نافية وكلاهما له وجه من النظر.
واعلم أن قول من قال: لولا دعاؤكم: أي دعاؤكم إياي لأغفر لكم، وأعطيكم ما سألتم راجع إلى القول الأول، لأن دعاء المسألة داخل في العبادة كما هو معلوم. وقوله: فقد كذبتم: أي بما جاءكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قدمنا في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] أن معنى قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي سوفي يكون العذاب ملازمًا لهم غير مفارق، كما تقدم إيضاحه.
وقال جماعة من أهل العلم: إن المراد بالعذاب اللازم لهم المعبر عن لزومه لهم بقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أنه ما وقع من العذاب يوم بدر، لأنهم قتل منهم سبعون وأسر سبعون، والذين قتلوا منهم ما أصابهم عذاب القتلن واتصل به عذاب البرزخ والآخرة فهو ملازم لا يفارقهم بحال، وكون اللزام المذكور في هذه الآية: العذاب الواقع يوم بدرز نقله ابن كثير عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم ثم قال: وقال الحسن البصري: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي يوم القيامة، ولا منافاة بينهما. انتهى من ابن كثير. ونقله صاحب الدر المنثور عن أكثر المذكورين وغيرهم.
وقال جماعة من أهل العلم: إن يوم بدر ذكره الله تعالى في آيات من كتابه، قالوا هو المراد بقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى} [السجدة: 2] أي يوم بدر {دُونَ العذاب الأكبر} [السجدة: 21] أي يوم القيامة، وأنه هو المراد بقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}، وأنه هو المراد بالبطش والانتقال، في قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدّخان: 16] وأنه هو الفرقان الفارق بين الحق والباطل في قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} [الأنفال: 41] وهو يوم بدر، وأنه هو الذي فيه النصر في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123] الآية، وكون المراد بهذه الآيات المذكورة يوم بدر ثبت بعضه في الصحيح، عن ابن مسعود، وهو المراد بقول الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في الكلام على بدر:
وقد أتى منوها في الذكر:
لأنه العذاب واللزام ** وأنه البطش والانتقام

وأنه الفرقان بين الكفر ** والحق والنصر سجيس الدهر

ومعنى سجيس الدهر: أي مدته.
وأظهر الأقوال في الآية عندي، هو القول بأن المصدر فيها مضاف إلى مفعوله لجريانه على اللغة الفصيحة من غير إشكال ولا تقدير، وممن قال به قتادة. والعلم عند الله تعالى. اهـ.