فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين}.
أي خلطهما وحلّى وأفاض أحدهما في الآخر، وأصل المرج: الخلط والإرسال، ومنه قوله سبحانه: {فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق: 5] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن عمر: «كيف بك يا عبد الله إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا. وشبّك بين أصابعه» ويقال: مرجتُ دابّتي مرجها إذا أرسلتُها في المرعى وخلّيتها تذهب حيث شاءت، ومنه قيل للروضة مرج، قال العجاج:
رعى بها مرج ربيع ممّرجًا

قال ابن عباس والضحاك ومقاتل: مرج البحرين أي خلع أحدهما على الآخر {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} شديد العذوبة {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} حاجزًا بقدرته وحكمته لئلاّ يختلطا {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} سترًا ممنوعًا يمنعهما فلا يبغيان ولا يفسد الملح العذب.
{وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} قال علىّ بن أبي طالب: النسب ما لا يحلّ نكاحه، والصهر ما يحلّ نكاحه، وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل: النسب سبعة والصهر خمسة، وقرأوا هذه الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]. إلى آخرها.
أخبرني أبو عبد الله القسايني قال: أخبرنا أبو الحسن النصيبي القاضي قال: أخبرنا أبو بكر السبيعي الحلبي قال: حدّثنا علي بن العباس المقانعي قال: حدّثنا جعفر بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا محمد بن عمرو قال: حدّثنا حسين الأشقر قال: حدّثنا أبو قتيبة التيمي قال: سمعت ابن سيرين يقول في قول الله سبحانه وتعالى {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} قال: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب، زوج فاطمة عليًّا وهو ابن عمّه وزوج ابنته فكان نسبًا وصهرًا.
{وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا وَيَعْبُدُونَ} يعني هؤلاء المشركين {مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ} إن عبدوه {وَلاَ يَضُرُّهُمْ} إن تركوه {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيرًا} أي معينًا للشيطان على ربّه، وقيل: معناه وكان الكافر على ربّه هيّنًا ذليلًا من قول العرب: ظهرت به إذا جعلته خلف ظهرك فلم تتلفّت إليه.
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على تبليغ الوحي {مِنْ أَجْرٍ} فيقولون: إنّما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتّبعه كيلا نعطيه من أموالنا شيئًا {إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا}.
قال أهل المعاني: هذا أمر الاستثناء المنقطع، مجازه لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا بإنفاقه ماله في سبيله، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي اعبده وصلّ له شكرًا منك له على نعمه، وقيل: احمده منزّهًا له عمّا لا يجوز في وصفه، وقيل: قل: سبحان الله والحمد لله {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} فيجازيهم بها {الذي} في محل الخفض على نعت الحي {خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} فقال بينهما وقد جمع السموات لأنه أراد الصنفين والشيئين كقول القطامي:
ألم يحزنك أن حبال قيس ** وتغلب قد تباينتا انقطاعا

أراد وحبال تغلب فثنّى والحبال جمع لأنّه أراد الشيئين والنوعين، وقال آخر:
إنَّ المنيّة والحتوف كلاهما ** توفي المخارم يرقبان سوادي

{ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا} أي فسل خبيرًا بالرحمن، وقيل: فسل عنه خبيرًا وهو الله عز وجل، وقيل: جبرئيل عليه السلام، الباء بمعنى عن لقول الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ** بصير بأدواء النساء طبيب

أي عن النساء.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن} ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} قرأ حمزة والكسائي بالياء يعنيان الرحمن، وقرأ غيرهما تأمرنا بالتاء يعنون لما تأمرنا أنت يا محمد {وَزَادَهُمْ} قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن {نُفُورًا} عن الدين والإيمان، وكان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية رفع رأسه الى السماء وقال: إلهي زادني خضوعًا ما زاد أعداءك نفورًا.
{تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا} يعني منازل الكواكب السبعة السيارة وهي اثنا عشر برجًا: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأَسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زحل، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الاربع فيكون نصيب كل واحد منهما ثلاثة بروج تسمى المثلثات، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. واختلفت أقاويل أهل التأويل في تفسير البروج.
فاخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال: حدّثني محمد بن الحسين بن أبي الشيخ قال: حدّثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال: حدّثنا عبد الله بن إدريس قال: حدّثني أبي عن عطية العوفي في قوله سبحانه: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا} قال: قصورًا فيها الحرس، دليله قوله: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
وقال الأخطل:
كأنها برج رومي يشيِّده ** بان بجصّ وآجرَ أحجار

وقال مجاهد وقتادة: هي النجوم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا علي بن محمد بن ماهان قال: حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال: حدّثنا خالي يعلى عن إسماعيل عن أبي صالح {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا} قال: النجوم الكبائر. قال عطاء: هي الشرج وهي أبواب السماء التي تسمّى المجرّة.
{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} يعني الشمس، نظيره قوله سبحانه: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجًا} [نوح: 16] وقرأ حمزة والكسائي {وَجَعَلَ فِيهَا سُرُجًا} بالجمع يعنون النجوم وهي قراءة أصحاب عبد الله {وَقَمَرًا مُّنِيرًا وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً}.
قال ابن عباس والحسن وقتادة: يعني عوضًا وخلفًا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر.
قال قتادة: فأروا الله من أعمالكم خيرًا في هذا الليل والنهار؛ فإنهما مطيّتان تقحمان الناس الى آجالهم، وتقّربان كلّ بعيد، وتبليان كلّ جديد، وتجيئان بكل موعود الى يوم القيامة.
روى شمر بن عطية عن شقيق قال: جاء رجل الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاة الليلة فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإنّ الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر.
وقال مجاهد: يعني جعل كلّ واحد منهما مخالفًا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض.
قال ابن زيد وغيره: يعني يخلف أحدهما صاحبه، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر، فهما يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، يدلّ على صحّة هذا التأويل، قول زهير:
بها العين والآدام يمشين خلفة ** وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجشم

وقال مقاتل: يعني جعل النهار خلفًا من الليل لمن نام بالليل، وجعل الليل خلفًا بالنهار لمن كانت له حاجة أو كان مشغولًا {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} قرأه العامة بتشديد الذال يعني يتذكر ويتعظ، وقرأ حمزة وخلف بتخفيف الذال من الذكر {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} شكر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه.
{وَعِبَادُ الرحمن} يعني أفاضل العباد، وقيل هذه الإضافة على التخصيص والتفضيل، وقرأ الحسن: وعبيد الرَّحْمن.
{الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} أي بالسكينة والوقار والطاعة والتواضع غير أشرين ولا مرحين ولا متكبّرين ولا مفسدين.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا العباس بن محمد بن قوهبار قال: حدّثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى قال: حدّثنا يحيى بن يحيى قال: حدّثنا هشيم بن عباد بن راشد عن الحسن في قوله سبحانه: {يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} قال: حلمًا وعلمًا، وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون، وإنْ سفه عليهم حلموا.
الضحّاك: أتقياء أعفّاء لا يجهلون قال: وهو بالسريانية. الثمالي: بالنبطيّة، والهون في اللغة: الرفق واللين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وابغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما».
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ} بما يكرهونه {قَالُواْ سَلاَمًا} سدادًا من القول عن مجاهد.
ابن حيان: قولًا يسلمون فيه من الإثم.
الحسن: سلّموا عليهم، دليله قوله سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [القصص: 55].
قال أبو العالية والكلبي: هذا قبل أن يؤمروا بالقتال، ثم نسختها آية القتال.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش المقري قال: حدّثنا محمد بن صالح الكيلسي بمكة قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا الوليد بن إسماعيل قال: حدّثنا شيبان بن مهران عن خالد أبن المغيرة بن قيس عن أبي محلز لاحق بن حميد عن أبي برزة الأسلمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت قومًا من أمتي ما خلقوا بعد، وسيكونون فيما بعد اليوم أحبّهم ويحبّونني، ويتناصحون ويتبادلون، يمشون بنور الله في الناس رويدًا في خفية وتقية، يسلمون من الناس، ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم، قلوبهم بذكر الله يرجعون، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون، يرحمون صغيرهم ويجلّون كبيرهم ويتواسون بينهم، يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم، يعودون مرضاهم ويتبعون جنائزهم» فقال رجل من القوم: في ذلك يرفقون برفيقهم؟ فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كلاّ، إنّهم لا رفيق لهم، هم خدّام أنفسهم، هم أكرم على الله من أن يوسّع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم» ثمَّ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا}. وروي أنّ الحسن كان إذا قرأ هاتين الآيتين قال: هذا وصف نهارهم.
ثمَّ قال: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} هذا وصف ليلهم.
قال ابن عباس: مَن صلّى بالليل ركعتين أو أكثر من ذلك فقد بات لله سبحانه وتعالى ساجدًا وقائمًا.
قال الكلبي: يقال: الركعتان بعد المغرب وأربع بعد العشاء الآخرة.
{والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي ملحًّا دائمًا لازمًا غير مفارق من عذّب به من الكفار، ومنه سمّي الغريم لطلبه حقّه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إيّاه، وفلانا مغرم بفلان إذا كان مولعًا به لا يصبر عنه ولا يفارقه، قال الأعشى:
إن يعاقب يكن غرامًا وإن ** يعط جزيلًا فإنّه لا يبالي

قال الحسن: قد علموا أنّ كلّ غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنم.
ابن زيد: الغرام الشرّ، أبو عبيد: الهلاك، قال بشر بن أبي حازم:
ويوم النسار ويوم الجفا ** ركانا عذابًا وكانا غراما

أي هلاكًا.
{إِنَّهَا} يعني جهنم {سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي إقامة، من أقام يقيم.
وقال سلامة بن جندل:
يومان يوم مقامات وأندية ** ويوم سير إلى الاعداء تأويب

فإذا فتحت الميم فهو المجلس من قام يقوم، ومنه قول عباس بن مرداس:
فأتي ما وأيك كان شرًّا ** فقيد إلى المقامة لا يراها