فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

ثم ذكر النوع الرابع بقوله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين} أي: الماءين الواسعين الكبيرين بأن خلاهما متجاورين متلاصقين، وهو بقدرته تعالى يفصل بينهما ويمنعهما التمازج {هذا عذب} أي: حلو سائغ {فرات} أي: شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض، وما كان في بطنها {وهذا ملح} أي: شديد الملوحة {أجاج} أي: مر محرق بملوحته ومرارته لا يصلح لسقي ولا شرب.
تنبيه:
أشار تعالى بأداة القرب في الموضعين تنبيهًا على وجود الوصفين مع شدة المقاربة لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطىء البحر الملح بالقرب جدًا منه خرج الماء عذبًا {وجعل} أي: الله تعالى {بينهما برزخًا} أي: حاجزًا من قدرته مانعًا من اختلاطهما، ثم إنه تعالى أتم تقرير النعمة في منعهما من الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ تشبيهًا لكل منهما بالمتعوذ بقوله تعالى: {وحجرًا محجورًا} فكأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له ذلك كما قال تعالى: {لا يبغيان}. أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه بالملوحة أو العذوبة، فانتقاء البغي كالتعوذ ههنا، ثم جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهو من أحسن الإستعارات وأشهدها على البلاغة فإن قيل: لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى هنا؟
أجيب: بأن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون ومن البحر الأجاج البحار الكبار. ثم ذكر النوع الخامس بقوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي خلق من الماء} أي: المني من الرجل والمرأة {بشرًا} أي: إنسانًا {فجعله} أي: بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة والتدوير في أدوار التربية {نسبًا} أي: ذكرًا ينسب إليه {وصهرًا} أي: أنثى يصاهر بها فيقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين عذبًا وملحًا ونحو هذا قوله تعالى: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى}، وقيل: النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، فالنسب ما يوجب الحرمة، والصهر ما لا يوجبها، قال البغوي: وقيل وهو الصحيح: النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح، وقد ذكر الله تعالى أنه حرم للنسب سبعًا في قوله تعالى في النساء: {حرمت عليكم أمهاتكم}.
{وكان ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك {قديرًا} حيث خلق من مادة واحدة بشرًا ذا أعضاء مختلفة وطبائع متباعدة، وجعله قسمين ذكرًا وأنثى، وربما يخلق من نطفة واحدة نوعين ذكرًا وأنثى فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق سهل الأخلاق، ويخذل من يشاء فيجعله مر الأخلاق كثير الشقاق غريقًا في النفاق، ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم، فقال تعالى: {ويعبدون} أي: هؤلاء الكفرة {من دون الله} أي: مما يعلمون أنه في الرتبة دون الله المستجمع لصفات الكمال والعظمة بحيث أنه لا ضر ولا نفع إلا وهو بيده {ما لا ينفعهم} بوجه من الوجوه إن عبدوه في إزالة كربة {ولا يضرهم} في أزلة نعمة من نعم الله تعالى عليهم إن تركوه {وكان الكافر} أي: مع علمه بضعفه وعجزه {على ربه} أي: المحسن إليه لا غيره {ظهيرًا} أي: معينًا للشيطان من الإنس والجن على أولياء الله تعالى، روي أنها نزلت في أبي جهل ويجوز أن يراد بالظهير الجماعة كقوله تعالى: {والملائكة بعد ذلك ظهير}.، كما جاء الصديق والخليط وعلى هذا يكون المراد بالكافر الجنس، فإن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله قال تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي}.
وهذا أولى لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، ولأنه أوفق لظاهر قوله تعالى: {ويعبدون من دون الله}، وقيل: معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هينًا مهينًا من قولهم ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه وهو نحو قوله تعالى: {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم} آل عمران، ولما كان التقدير تسلية له صلى الله عليه وسلم فالزم ما نأمرك به ولا يزد همك بردهم عما هم فيه، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلًا عطف عليه قوله تعالى: {وما أرسلناك} يا أشرف الخلق بما لنا من العظمة {إلا مبشرًا} بالثواب على الإيمان والطاعة {ونذيرًا} أي: مخوفًا بالعقاب على الكفر والمعصية، ثم كأنه قيل: فماذا أقول لهم إذا طعنوا في الرسالة؟ فقال تعالى: {قل} أي: لهم يا أكرم الخلق حقيقة وأعدلهم طريقة محتجًا عليهم بإزالة ما يكون موضعًا للتهمة {ما أسألكم عليه} أي: على تبليغ ما أرسلت به {من أجر} فتتهموني أني أدعوكم لأجله إذ لا غرض لي إلا نفعكم، ثم أكد هذا المعنى بقوله تعالى مستثنيًا؛ لأن الاستثناء معيار العموم {إلا من} أي: إلا أجر من {شاء أن يتخذ} أي: يكلف نفسه ويخالف هواه، ويجعل له {إلى ربه سبيلًا} فإنه إذا اهتدى بهداية ربه كان لي مثل أجره لا نفع لي من جهتكم إلا هذا فإن سميتم هذا أجرًا فهو مطلوبي، ولا مرية في أنه لاينقص أحدًا شيئًا من دنياه فأفاد فائدتين؛ الأولى: أنه لا طمع له أصلًا في شيء ينقصهم، والثانية: إظهار الشفقة البالغة حيث لم يقصد بمنفعتهم الموصلة لهم إلى ربهم ثوابًا لنفسه، وقيل: الاستثناء منقطع أي: لكن من يشاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا فليفعل، وجرى على هذا الجلال المحلي، وقال ابن عادل: في الأول نظر؛ لأنه لم يسند السؤال المنفي في الظاهر إلى الله تعالى إنما أسنده إلى المخاطبين فكيف يصح هذا التقدير؟. انتهى. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر وسهّل ورش وقنبل الثانية، ولهما أيضًا إبدالها ألفًا والباقون بتحقيق الهمزتين، ولما بين تعالى أن الكفار يتظاهرون على إيذائه وأمره أن لا يطلب منهم أجرًا أمره أن يتوكل عليه في دفع جميع المضار، وجلب جميع المنافع بقوله تعالى: {وتوكل} أي: أظهر العجز والضعف واستسلم واعتمد في أمرك كله، ولاسيما في مواجهتهم بالإنذار، وفي ردهم من عنادهم {على الحي الذي لا يموت} فلا ضياع لمن توكل عليه، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون، فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم، وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق {وسبح} متلبسًا {بحمده} أي: نزهه عن كل نقص مثبتًا له كل كمال، وقيل: صلِّ له شكرًا على نعمه، وقيل: قل سبحان الله والحمد لله وحده وعلى هذا اقتصر الجلال المحلى {وكفى به بذنوب عباده} أي: ما ظهر منها وما بطن وكل ما سواه عبد {خبيرًا} أي: عالمًا مطلقًا فلا يخفى عليه خافية شيء منها، وإن دق فلا عليك إن آمنوا أو كفروا، وهذه الكلمة يراد بها المبالغة يقال: كفى بالعلم كمالًا وكفى بالأدب مالًا وهو معنى حسبك أي: لا تحتاج معه إلى غيره، لأنه تعالى خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم، وهذا وعيد شديد، ولما أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه وصف تعالى نفسه بأمور منها أنه حي لا يموت، ومنها أنه عالم بجميع المعلومات، ومنها أنه قادر على كل الممكنات، وهو قوله تعالى: {الذي خلق السموات والأرض} على عظمهما {وما بينهما} من الفضاء والعناصر والعباد وأعمالهم من الذنوب وغيرها ألا يعلم من خلق وقوله تعالى: {في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا تعجيب للغبي الجاهل وتدريب للفطن العالم في الحلم والأناة والصبر على عباد الله تعالى في دعوتهم، فإن قيل: الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات، فقبل السموات لا أيام فكيف قال تعالى: {في ستة أيام}؟.
أجيب: بأنه تعالى خلقها في مدة مقدارها هذه الأيام، فإن قيل: يلزم على هذا قدم الزمان وهو ممنوع؟
أجيب: بأن الله تعالى خلق هذه المدة أولًا ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام فلا يلزم من ذلك قدم الزمان، وقيل: في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة وهو بعيد؛ لأن التعريف لابد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول.
فإن قيل: لما قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار؟
أجيب: بأنه يجب على المكلف أن يقطع الطمع عن مثل هذا فإنه بحر لا ساحل له من ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار بتسعة عشر، وحملة العرش بثمانية والشهور بإثني عشر والسموات بالسبع وعدد الصلوات ومقادير النصب في الزكوات والحدود والكفارات، فالإقرار بأن كل ما قاله الله حق هو الدين والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء، وقد نص الله تعالى على ذلك في قوله عز وجل: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانًا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلًا} ثم قال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر].
وهذا جواب أيضًا عن أنه لم لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك، وعن سعيد ابن جبير: إنما خلقها في ستة أيام وهو قادر أن يخلقها في لحظة واحدة، تعليمًا لخلقه الرفق والتثبت، وقيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيدًا للمسلمين، وعن مجاهد أول الأيام يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، ولما كان تدبير هذا الملك أمرًا باهرًا أشار إليه بأداة التراخي بقوله تعالى: {ثم استوى على العرش} أي: شرع في التدبير لهذا الملك الذي اخترعه وأوجده، ولا يجوز أن يفسر بالاستقرار، لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب وكل ذلك على الله محال، فإن قيل: يلزم من ذلك أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات، وقال الله تعالى: {وكان عرشه على الماء} [هود].
أجيب: بأن كلمة ثم ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات وهو في اللغة سرير الملك وفي رفع قوله تعالى: {الرحمن} أوجه؛ أحدها: أنه خبر الذي خلق أو خبر مبتدأ مضمر أي: هو الرحمن ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش، ثم يبتدىء الرحمن أي: هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له، أو يكون بدلًا من الضمير في استوى، وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي.
واختلف في معنى الفاء في قوله تعالى: {فاسأل به} على قولين؛ أحدهما: أنها على بابها وهي متعلقة بالسؤال، والمراد بقوله: {خبيرًا} أي: عالمًا يخبرك بحقيقته هو الله تعالى، ويكون من التجريد كقوله: رأيت به أسدًا والمعنى: فاسأل الله الخبير بالأشياء قال الزمخشري: أو فاسأل بسؤاله خبيرًا كقولك: رأيت به أسدًا أي: برؤيته. انتهى. فقال الكلبي: فقوله به يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش، والباء من صلة الخبير وذلك الخبير هو الله تعالى، لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى، والثاني: أن تكون الباء بمعنى عن إما مطلقًا وإما مع السؤال خاصة كهذه الآية، وكقول علقمة بن عبيدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ** خبير بأدواء النساء طبيب

والضمير في به لله وخبيرًا من صفات الملك وهو جبريل عليه السلام، فعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبريل وإنما قدم لرءوس الآي وحسن النظم، وقال ابن جرير: الباء في به صلة والمعنى: فاسأله خبيرًا، وخبيرًا نصب على الحال وقيل: به يجري مجرى القسم كقوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به}، وقيل: فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى تعرف من ينكره ومن ثم كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، وكان يقال له: رحمن اليمامة، وقيل: فاسأل بسبب سؤالك إياه خبيرًا عن هذه الأمور وكل أمر تريده فيخبرك بحقيقة أمره ابتداءً وحالًا ومآلًا، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين، فإنه ما أرسلك إلا وهو عالم بهم فسيعلي كعبك عليهم ويحسن لك العاقبة، وقرأ ابن كثير والكسائي بالنقل، وكذا يقرأ حمزة في الوقف، والباقون بسكون السين وفتح الهمزة، ولما ذكر تعالى إحسانه إليهم وإنعامه عليهم ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم بقوله: {وإذا قيل لهم} أي: من أي قائل قال لهؤلاء الذين يتقلبون في نعمه: {اسجدوا} أي: اخضعوا بالصلاة وغيرها {للرحمن} أي: الذي لا نعمة لكم إلا منه {قالوا وما الرحمن} متجاهلين في معرفته فضلًا عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل، وقال ابن عربي: إنما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم بالصفة دون الموصوف، ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه بقولهم: {أنسجد لما تأمرنا} فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره، والإنكار على الداعي إليه أيضًا بأداة ما لا يعقل {وزادهم} أي: هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكرًا للنعمة وطمعًا في الزيادة {نفورًا} أي: عن الإيمان والسجود.