فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{خالدين فيها} أي: الغرفة لا يموتون ولا يخرجون مكان ما أزعجوهم من ديارهم حتى هاجروا ودلَّ على علو أمرها وعظيم قدرها بإبراز مدحها في مظهر التعجب بقوله تعالى: {حسنت} أي: ما أحسنها {مستقرًا} أي: موضع استقرار {ومقامًا} أي: موضع إقامة وهذا مقابل ساءت ومثله في الإعراب، ولما شرح سبحانه وتعالى صفات المتقين وأثنى عليهم من أجلها وشرح ثوابهم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قل} أي: لكفار مكة {ما يعبأ} أي: ما يصنع {بكم} أيها الكافرون من عبأت الجيش أو لا يعتد بكم {ربي} أي: المحسن إليّ وإليكم برحمانيته المخصص لي بالإحسان برحيميته وإنما خص بالإضافة لاعترافه دونهم {لولا دعاؤكم} أي: عبادتكم وما متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر كأنه قيل: وأي عبء يعبأ بكم لولا عبادتكم وطاعتكم إياه كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات].
{فقد كذبتم} بما أخبرتكم به حيث خالفتموه وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد، وقال قوم: ما يعبأ ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة وما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما قال تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} لولا دعاؤكم أي: نداؤكم في الشدائد كما قال تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} العنكبوت، وقوله تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} [الأنعام].
ويجوز أن تكون ما نافية وجرى على ذلك الجلال المحلي {فسوف} أي: فتسبب عن تكذيبهم أن يجازيكم على ذلك ولكنه مع قدرته واختياره وقوته لا يعاجلكم بل {يكون} جزاء هذا التكذيب عند انقضاء ما ضربه لكم من الآجال {لزامًا} أي: لازمًا يحيق بكم لا محالة، فاعتدوا وتهيؤوا لذلك اليوم فكل آت قريب وكل بعيد عنكم قريب عنده، وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر وإنه لوزم بين القتلى لزامًا قتل منهم تسعون وأسر منهم سبعون، وعن ابن مسعود: خمس قد مضين الدخان والقمر والروم والبطشة واللزام، وما رواه البيضاوي تبعًا للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن «من قرأ سورة الفرقان لقي الله وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأدخل الجنة بغير حساب» حديث موضوع والله أعلم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)}.
قوله: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ} لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي، فقال: والذي لا يدعون مع الله سبحانه ربًا من الأرباب.
والمعنى: لا يشركون به شيئًا، بل يوحدونه، ويخلصون له العبادة والدعوة {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله} أي: حرّم قتلها {إِلاَّ بالحق} أي: يحقّ أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس {وَلاَ يَزْنُونَ} أي: يستحلون الفروج المحرّمة بغير نكاح، ولا ملك يمين {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي: شيئًا مما ذكر {يَلْقَ} في الآخرة {أَثَامًا}، والأثام في كلام العرب: العقاب.
قال الفراء: آثمه الله يؤثمه أثامًا وآثامًا، أي: جازاه جزاء الإثم.
وقال عكرمة، ومجاهد: إن أثامًا وادٍ في جهنم جعله الله عقابًا للكفرة.
وقال السديّ: جبل فيها.
وقرئ {يلق} بضم الياء، وتشديد القاف.
قال أبو مسلم: والأثام والإثم واحد، والمراد هنا جزاء الآثام، فأطلق اسم الشيء على جزائه.
وقرأ الحسن {يلق أيامًا} جمع يوم يعني: شدائد، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام، وما أظنّ هذه القراءة تصح عنه:
{يضاعف لَهُ العذاب} قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي: {يضاعف ويخلد} بالجزم، وقرأ ابن كثير {يضعف} بتشديد العين وطرح الألف والجزم، وقرأ طلحة بن سليمان: {نضعف} بضم النون، وكسر العين المشدّدة والجزم، وهي: قراءة أبي جعفر وشيبة.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الفعلين على الإستئناف.
وقرأ طلحة بن سليمان: {وتخلد} بالفوقية خطابًا للكافر.
وروي عن أبي عمرو أنه قرأ {ويخلد} بضم الياء التحتية، وفتح اللام.
قال أبو عليّ الفارسي: وهي غلط من جهة الرواية، ووجه الجزم في يضاعف: أنه بدل من يلق لاتحادهما في المعنى، ومثله قول الشاعر:
إن على الله أن تبايعا ** تؤخذ كرهًا أو تجيء طائعًا

والضمير في قوله: {وَيَخْلُدْ فِيهِ} راجع إلى العذاب المضاعف، أي: يخلد في العذاب المضاعف {مُهَانًا} ذليلًا حقيرًا.
{إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالحا} قيل: هو استثناء متصل، وقيل: منقطع.
قال أبو حيان: لا يظهر الاتصال؛ لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير: إلاّ من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا، فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف.
قال: والأولى عندي: أن تكون منقطعًا أي: لكن من تاب.
قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني.
واختلفوا في القاتل من المسلمين.
وقد تقدّم بيانه في النساء والمائدة، والإشارة بقوله: {فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} إلى المذكورين سابقًا، ومعنى: تبديل السيئات حسنات: أنه يمحو عنهم المعاصي، ويثبت لهم مكانها طاعات.
قال النحاس: من أحسن ما قيل في ذلك: أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع.
قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدل الله لهم إيمانًا مكان الشرك، وإخلاصًا من الشك، وإحصانًا من الفجور.
قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة.
وقيل: إن السيئات تبدّل بحسنات، وبه قال جماعة من الصحابة، ومن بعدهم.
وقيل: التبديل عبارة عن الغفران أي: يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أن يبدلها حسنات.
وقيل: المراد بالتبديل: أن يوفقه لأضداد ما سلف منه {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من التبديل.
{وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صالحا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتابًا} أي: من تاب عما اقترف، وعمل عملًا صالحًا بعد ذلك، فإنه يتوب بذلك إلى الله متابًا أي: يرجع إليه رجوعًا صحيحًا قويًا.
قال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ}، ثم عطف عليه من تاب من المسلمين، وأتبع توبته عملًا صالحًا، فله حكم التائبين أيضًا.
وقيل: أي: من تاب بلسانه، ولم يحقق التوبة بفعله، فليست تلك التوبة نافعة، بل من تاب وعمل صالحًا، فحقق توبته بالأعمال الصالحة، فهو الذي تاب إلى الله متابًا أي: تاب حقّ التوبة، وهي النصوح، ولذلك أكد بالمصدر، ومعنى الآية: من أراد التوبة، وعزم عليها، فليتب إلى الله، فالخبر في معنى الأمر كذا قيل لئلا يتحد الشرط والجزاء، فإنه لا يقال: من تاب، فإنه يتوب.
ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات، فقال: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي: لا يشهدون الشهادة الكاذبة، أو لا يحضرون الزور، والزور: هو الكذب والباطل ولا يشاهدونه، وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين.
قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب، ولا كذب فوق الشرك بالله.
قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الزور ها هنا بمعنى الشرك.
والحاصل أن {يشهدون} إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف محذوف أي: لا يشهدون شهادة الزور، وإن كان من الشهود والحضور كما ذهب إليه الجمهور، فقد اختلفوا في معناه، فقال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، وقال محمد بن الحنفية: لا يحضرون اللهو والغناء، وقال ابن جريج: الكذب.
وروي عن مجاهد أيضًا، والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور، بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائنًا ما كان {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرامًا} أي: معرضين عنه غير ملتفتين إليه، واللغو: كل ساقط من قول أو فعل.
قال الحسن: اللغو: المعاصي كلها، وقيل: المراد: مرّوا بذوي اللغو، يقال: فلان يكرم عما يشينه أي: يتنزّه، ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو، والاختلاط بأهله.
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بئايات رَبّهِمْ} أي: بالقرآن، أو بما فيه موعظة وعبرة {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي: لم يقعوا عليها حال كونهم صمًا وعميانًا، ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين، وانتفعوا بها.
قال ابن قتيبة: المعنى: لم يتغافلوا عنها، كأنهم صمّ لم يسمعوها، وعمي لم يبصروها.
قال ابن جرير: ليس ثم خرور، بل كما يقال: قعد يبكي، وإن كان غير قاعد.
قال ابن عطية: كأن المستمع للذكر قائم، فإذا أعرض عنه كان ذلك خرورًا، وهو السقوط على غير نظام.
قيل: المعنى: إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، فخروا سجدًا وبكيًا، ولم يخرّوا عليها صمًا وعميانًا.
قال الفراء: أي: لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا.
قال في الكشاف: ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد.
{والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} من ابتدائية، أو بيانية.
قرأ نافع وابن كثير وابن عباس والحسن: {وذرّياتنا} بالجمع، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى: {وذرّيتنا} بالإفراد، والذرّية تقع على الجمع، كما في قوله: {ذُرّيَّةً ضعافا} [النساء: 9]، وتقع على الفرد كما في قوله: {ذُرّيَّةً طَيّبَةً} [آل عمران: 38]، وانتصاب {قرّة أعين} على المفعولية، يقال: قرّت عينه قرة.
قال الزجاج: يقال: أقرّ الله عينك أي: صادف فؤادك ما يحبه، وقال المفضل: في قرّة العين ثلاثة أقوال: أحدها برد دمعها، لأنه دليل السرور والضحك، كما أن حرّه دليل الحزن والغمّ.
والثاني: نومها، لأنه يكون مع فراغ الخاطر، وذهاب الحزن، والثالث: حصول الرضا {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي: قدوة يقتدى بنا في الخير، وإنما قال: {إمامًا}، ولم يقل: أئمة، لأنه أريد به الجنس، كقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5] قال الفراء: قال: {إمامًا}، ولم يقل أئمة؛ كما قال للاثنين: {إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} [الشعراء: 16] يعني: أنه من الواحد الذي أريد به الجمع.
وقال الأخفش: الإمام جمع أمّ من أمّ يأمّ، جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام.
وقيل: إن إمامًا مصدر، يقال: أمّ فلان فلانًا إمامًا، مثل الصيام والقيام.
وقيل: أرادوا: اجعل كل واحد منا إمامًا، وقيل: أرادوا: اجعلنا إمامًا واحدًا لاتحاد كلمتنا، وقيل: إنه من الكلام المقلوب، وأن المعنى: واجعل المتقين لنا إمامًا، وبه قال مجاهد.
وقيل: إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد، وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إمامًا، ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز كقوله: {يا أَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا} [المؤمنون: 51]، وفي هذا إبقاء {إمامًا} على حاله، ومثل ما في الآية قول الشاعر:
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي ** إن العواذل ليس لي بأمين

أي: أمناء.