فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القفال: وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل: اجعلنا حجة للمتقين، ومثله البينة: يقال: هؤلاء بينة فلان.
قال النيسابوري: قيل: في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن تطلب، ويرغب فيها، والأقرب: أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم، والإشارة بقوله: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ} إلى المتصفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره ما بعده، والجمل مستأنفة.
وقيل: إن {أولئك} وما بعده خبر لقوله: {وَعِبَادُ الرحمن} كذا قال الزجاج، والغرفة: الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، وهي في الأصل لكلّ بناء مرتفع، والجمع غرف.
وقال الضحاك: الغرفة الجنة، والباء في {بِمَا صَبَرُواْ} سببية، وما مصدرية أي: يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وسلاما} قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف: {يلقون} بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختار هذه القراءة الفراء، قال: لأن العرب تقول: فلان يلقي بالسلام والتحية والخير، وقلّ ما يقولون: يلقى.
وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، والمعنى: أنه يحيي بعضهم بعضًا، ويرسل إليهم الربّ سبحانه بالسلام، قيل: التحية البقاء الدائم والملك العظيم، وقيل: هي بمعنى السلام، وقيل: إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم، والظاهر: أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم، ومن ذلك قوله سبحانه: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} [الأحزاب: 44]، وقيل: معنى التحية: الدعاء لهم بطول الحياة.
ومعنى السلام: الدعاء لهم بالسلامة من الآفات، وانتصاب {خالدين فِيهَا} على الحال أي: مقيمين فيها من غير موت {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي: حسنت الغرفة مستقرًّا يستقرّون فيه، ومقامًا يقيمون به، وهذا في مقابل ما تقدّم من قوله: {سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}.
{قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} بيّن سبحانه أنه غنيّ عن طاعة الكلّ، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف، يقال: ما عبأت بفلان: أيّ: ما باليت به، ولا له عندي قدر، وأصل يعبأ من العبء، وهو الثقل.
قال الخليل: ما أعبأ بفلان أي: ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره، ويدّعي أن وجوده وعدمه سواء، وكذا قال أبو عبيدة.
قال الزجاج: {مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي} يريد: أيّ وزن يكون لكم عنده؟ والعبء: الثقل، وما استفهامية، أو نافية، وصرح الفراء: بأنها استفهامية.
قال ابن الشجري: وحقيقة القول عندي: أن موضع {ما} نصب، والتقدير: أي عبء يعبأ بكم؟ أي: أيّ مبالاة يبالي بكم؟ {لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} أي: لولا دعاؤكم إياه، لتعبدوه، وعلى هذا، فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله، وهو اختيار الفراء، وفاعله محذوف، وجواب لولا محذوف: تقديره: لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم، ويؤيد هذا قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، والخطاب لجميع الناس، ثم خصّ الكفار منهم، فقال: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ}.
وقرأ ابن الزبير {فقد كذب الكافرون}، وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس.
وقيل: إن المصدر مضاف إلى الفاعل أي: لولا استغاثتكم إليه في الشدائد.
وقيل: المعنى: ما يعبأ بكم أي: بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه.
وحكى ابن جني: أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير.
وحكى الزهراوي، والنحاس: أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما، وممن قال: بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتيبي، والفارسي قالا: والأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه، وجواب لولا محذوف تقديره على هذا الوجه: لولا دعاؤكم لم يعذبكم، ويكون معنى {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} على الوجه الأوّل: فقد كذبتم بما دعيتم إليه، وعلى الوجه الثاني: فقد كذبتم بالتوحيد.
ثم قال سبحانه: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي: فسوف يكون جزاء التكذيب لازمًا لكم، وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا: ما لزم المشركين يوم بدر، وقالت طائفة: هو عذاب الآخرة.
قال أبو عبيدة: لزامًا: فيصلًا، أي: فسوف يكون فيصلًا بينكم وبين المؤمنين.
قال الزجاج: فسوف يكون تكذيبكم لزامًا يلزمكم، فلا تعطون التوبة، وجمهور القراء على كسر اللام من لزامًا، وأنشد أبو عبيدة لصخر:
فإما ينجو من خسف أرض ** فقد لقيا حتوفهما لزاما

قال ابن جرير: {لزامًا} عذابًا دائمًا، وهلاكًا مفنيًا يلحق بعضكم ببعض، كقول أبي ذؤيب:
ففأجأه بعادية لزام ** كما يتفجر الحوض اللفيف

يعني: باللزام الذي يتبع بعضه بعضًا، وباللفيف: المتساقط من الحجارة المنهدمة.
وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال: سمعت أبا السماك يقرأ: {لزامًا} بفتح اللام.
قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم، والكسر أولى.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك» قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك»، قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»، فأنزل الله تصديق ذلك: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ}.
وأخرجا، وغيرهما أيضًا عن ابن عباس: أن ناسًا من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول، وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت {والذين لاَ يَدْعُونَ} الآية، ونزلت.
{قُلْ ياعِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو في قوله: {يَلْقَ أَثَامًا} قال: وادٍ في جهنم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ} الآية.
اشتدّ ذلك على المسلمين، فقالوا: ما منا أحد إلاّ أشرك وقتل وزنى، فأنزل الله: {ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} الآية [الزمر: 53]، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك، ثم نزلت هذه الآية: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالحا فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم.
وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاما}، ثم نزلت: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ}، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها، وفرحه ب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1]، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحوّلهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات.
وأخرج أحمد وهناد والترمذي وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه صغارها، وينحى عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا كذا، وهو يقرّ، ليس ينكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فيقال: أعطوه بكل سيئة عملها حسنة» والأحاديث في تكفير السيئات، وتبديلها بالحسنات كثيرة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: إن الزور كان صنمًا بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّوا به مرّوا كرامًا لا ينظرون إليه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قال: يعنون: من يعمل بالطاعة، فتقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قال: أئمة هدى يهتدى بنا، ولا تجعلنا أئمة ضلالة، لأنه قال لأهل السعادة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، ولأهل الشقاوة: {وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41].
وأخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} قال: «الغرفة من ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء، أو درّة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم» وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} يقول: لولا إيمانكم، فأخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} قال: موتًا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري عنه: أنه كان يقرأ {فَقَدْ كَذَّبَ الكافرون فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه قرأها كذلك.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} قال: القتل يوم بدر، وفي الصحيحين عنه قال: «خمس قد مضين: الدخان والقمر واللزوم والبطشة واللزام». اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)}.
هذا الشوط الأخير في السورة يبرز فيه {عباد الرحمن} بصفاتهم المميزة، ومقوماتهم الخاصة؛ وكأنما هم خلاصة البشرية في نهاية المعركة الطويلة بين الهدى والضلال. بين البشرية الجاحدة المشاقة والرسل الذين يحملون الهدى لهذه البشرية. وكأنما هم الثمرة الجنية لذلك الجهاد الشاق الطويل، والعزاء المريح لحملة الهدى فيها لاقوه من جحود وصلادة وإعراض!.
وقد سبق في الدرس الماضي تجاهل المشركين واستنكارهم لاسم {الرحمن} فهاهم أولاء عباد الرحمن، الذين يعرفون الرحمن، ويستحقون أن ينسبوا إليه، وأن يكونوا عباده. ها هم أولاء بصفاتهم المميزة ومقومات نفوسهم وسلوكهم وحياتهم. ها هم أولاء مثلًا حية واقعية للجماعة التي يريدها الإسلام، وللنفوس التي ينشئها بمنهجه التربوي القويم. وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ بهم الله في الأرض، ويوجه إليهم عنايته؛ فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم، لولا أن هؤلاء فيهم، ولولا أن هؤلاء يتوجهون إليه بالتضرع والدعاء.
{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}.
ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن: أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفج، ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل. فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعما يستكن فيها من مشاعر. والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة. فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة. وليس معنى: {يمشون على الأرض هونًا} أنهم يمشون متماوتين منكسي الرءوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان؛ كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى تكفأ تكفيًا، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدًا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفيًا كأنما ينحط من صبب. وقال مرة إذا تقلع قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة.