فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة: قيل في قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى في الاسواق} [الفرقان: 7] إشارة قصور حال المنكرين على أولياء الله تعالى حيث شاركوهم في لوازم البشرية من الأكل والشرب ونحوهما وقالوا في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] إن وجه فتنته النظر إليه نفسه والغفلة فيه عن ربه سبحانه، ويشعر هذا بأن كل ما سوى الله تعالى فتنة من هذه الحيثية.
قال ابن عطاء في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] أطلعناهم على أعمالهم فطالعوها بعين الرضا فسقطوا من أعيننا بذلك وجعلنا أعمالهم هباءً منثورًا، وهذه الآية وإن كانت في وصف الكفار لكن في الحديث أن في المؤمنين من يجعل عمله هباءً كما تضمنته، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية والخطيب في المتفق والمفترق عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليجاءن يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثل جبال تهامة حتى إذا جىء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباءً ثم قذفهم في النار، قال سالم: بأبي وأمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم قال: كانوا يصومون ويصلون ويأخذون هنئة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فادحض الله تعالى أعمالهم».
وذكر في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم} [الفرقان: 27] الآية أن حكمه عام في كل متحابين على معصية الله تعالى.
وعن مالك بن دينار نقل الأحجار مع الأبرار خير من أكل الخبيص مع الفجار، وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مّنَ المجرمين} [الفرقان: 31] أنه يلزم من هذا مع قولهم كل ولي على قدم نبي أن يكون لكل ولي عدو يتظاهر بعدواته، وفيه إشارة إلى سوء حال من يفعل ذلك مع أولياء الله تعالى.
ولذا قيل: إن عداوتهم علامة سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، وفي قوله تعالى: {الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] إشارة إلى أنهم كانوا متوجهين إلى جهة الطبيعة ولذا حشروا منكوسين، وفي قوله تعالى: {أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] إنه عام في كل من مال إلى هوس نفسه واتبعه فيما توجه إليه، ومن هنا دقق العارفون النظر في مقاصد أنفسهم حتى إنهم إذا أمرتهم بمعروف لم يسارعوا إليه وتأملوا ماذا أرادت بذلك فقد حكي عن بعضهم أن نفسه لم تزل تحسه على الجهاد في سبيل الله تعالى فاستغرب ذلك منها لعلمه أن النفس أمارة بالسوء فأمعن النظر فإذا هي قد ضجرت من العبادة فأرادت الجهاد رجاء أن تقتل فتستريح مما هي فيه من النصب ولم تقصد بذلك الطاعة بل قصدت الفرار منها، وقيل في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} الآية أي ألم تر كيف مد ظل عالم الأجسام {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45] في كتم العدم ثم جعلنا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلًا بأن كانت محركة لها إلى غايتها المخلوقة هي لأجلها فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد، وفي قوله تعالى: {ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46] إشارة إلى أن كل مركب فإنه سينحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير؛ وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود.
وهذا شأن الذاهبين من غيره سبحانه إليه عز وجل، وفي قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا} إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به تعالى على غيره سبحانه كقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ على كُلّ شيء شَهِيدٌ} [فصلت: 53] وهذه مرتبة الصديقين.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ قبضناه} كقوله تعالى: {كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] {وَإِلاَّ إِلَى الله تَصِيرُ الامور} [الشورى: 53] وبوجه آخر الظل حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس تجلي المعرفة من أفق العناية عند صباح الهداية ولو شاء سبحانه لجعله دائمًا لا يزول، وإنما يستدل على الذهول بالعرفان، وفي قوله تعالى: {ثُمَّ قبضناه} إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاسًا} تستترون به عن رؤية الأجانب لكم واطلاعهم على حالكم من التواجد وسكب العبرات {والنوم سُبَاتًا} راحة لأبدانكم من نصب المجاهدات.
{وَجَعَلَ النهار نُشُورًا} [الفرقان: 47] تنتشرون فيه لطلب ضرورياتكم {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح} أي رياح الاشتياق على قلوب الأحباب {بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} من التجليات والكشوف {وَأَنزَلْنَا} [الفرقان: 48] من سماء الكرم ماء حياة العرفان {لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} أي قلوبًا ميتة {وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما} وهم الذين غلبت عليهم الصفات الحيوانية يسقيهم سبحانه ليردهم إلى القيام بالعبادات {وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49] وهم الذين سكنوا إلى رياض الأنس يسقيهم سبحانه من ذلك ليفطمهم عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية {وَلَقَدْ صرفناه} أي القرآن الذي هو ماء حياة القلوب بينهم {لّيَذْكُرُواْ} به موطنهم الأصلي {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} [الفرقان: 50] بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها {وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين} بحر الروح وبحر النفس {هذا} وهو بحر الروح {عَذْبٌ فُرَاتٌ} من الصفات الحميدة الربانية، و{هذا} وهو بحر النفس {مِلْحٌ أُجَاجٌ} من الصفات الذميمة الحيوانية {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: 53] فحرام على الروح أن يكون منشأ الصفات الذميمة وعلى النفس أن تكون معدن الصفات الحميدة.
وذكر أن البرزخ هو القلب، وقال ابن عطاء: تلاطمت صفتان فتلاقيتا في قلوب الخلق فقلوب أهل المعرفة منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الإقبال وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفة معرضة عن سنن التوفيق وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ليس معها خطاب ولا لها جواب، وقيل: البحر العذاب إشارة إلى بحر الشريعة وعذوبته لما أن الشريعة سهلة لا حرج فيها ولا دقة في معانيها ولذلك صارت مورد الخواص والعوام، والبحر الملح إشارة إلى بحر الحقيقة وملوحته لماأن الحقيقة صعبة المسالك لا يكاد يدرك ما فيها عقل السالك، والبرزخ إشارة إلى الطريقة فإنها ليست بسهلة كالشريعة ولا صعبة كالحقيقة بل بين بين {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ في السماء بُرُوجًا} [الفرقان: 61] قيل: هو إشارة إلى أنه سبحانه جعل في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والإخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشترى المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} بغير فخر ولا خيلاء لما شاهدوا من كبرياء الله تعالى وجلاله جل شأنه.
وذكر بعضهم أن هؤلاء العباد يعاملون الأرض معاملة الحيوان لا الجماد ولذا يمشون عليها هونًا {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون} وهم أبناء الدنيا {قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63] أي سلامة من الله تعالى من شركم أو إذا خاطبهم كل ما سوى الله تعالى من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم وتعرض لهم ليشغلهم هما هم فيه {قَالُواْ سَلاَمًا} سلام متاركة وتوديع.
{والذين يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا} [الفرقان: 64] لما علموا أن الصلاة معراج المؤمن والليل وقت اجتماع المحب بالحبيب:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ** لي الليل هزتني إليك المضاجع

أقضي نهاري بالحديث وبالمني ** ويجمعني والهم بالليل جامع

{والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غرامًا} [الفرقان: 65] إشارة إلى مزيد خوفهم من القطيعة والبعد عن محبوبهم وذلك ما عنوه بعذاب جهنم لا العذاب المعروف فإن المحب الصادق يستعذبه مع الوصال ألا تسمع ما قيل:
فليت سليمي في المنام ضجيعتي ** في جنة الفردوس أو في جهنم

{والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] إشارة إلى أن فيوضاتهم حسب قابلية المفاض عليه لا يسرفون فيها بأن يفيضوا فوق الحاجة ولا يقترون بأن يفيضوا دون الحاجة أو إلى أنهم إذا أنفقوا وجودهم في ذات الله تعالى وصفاته جل شأنه لم يبالغوا في الرياضة إلى حد تلف البدن ولم يقتروا في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} برفع حوائجهم إلى الأغيار {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله} قتلها {إِلاَّ بالحق} أي إلا بسطوة تجلياته تعالى {وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] بالتصرف في عجوز الدنيا ولا ينالون منها شيئًا إلا بإذنه تعالى {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} لا يحضرون مجالس الباطل من الأقوال والأفعال {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} وهو ما لا يقربهم إلى محبوبهم {مروا كرامًا} [الفرقان: 72] معرضين عنه {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بآيات رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] بل أقبلوا عليها بالسمع والطاعة مشاهدين بعيون قلوبهم أنوار ما ذكروا به من كلام ربهم {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا} من ازدوج معنا وصحبنا وذرايتنا الذين أخذوا عنا {قُرَّةِ أَعْيُنٍ} بأن يوفقوا للعمل الصالح {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] وهم الفائزون بالفناء والبقاء الأتمين {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة} وهو مقام العندية {بِمَا صَبَرُواْ} في البداية على تكاليف الشريعة، وفي الوسط على التأدب بآداب الطريقة، وفي النهاية على ما تقتضيه الحقيقة {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً} هي أنس الأسرار بالحي القيوم {وسلاما} [الفرقان: 75] وهو سلامة القلوب من طور القطيعة {خالدين فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 76] لأنها مشهد الحق ومحل رضا المحبوب المطلق، نسأل الله تعالى أن يمن علينا برضائه ويمنحنا بسوابغ نعمائه وآلائه بحرمة سيد أنبيائه وأحب أحبائه صلى الله عليه وسلم وشرق قدره وعظم. اهـ.