فصل: مطلب: الحكمة من قوله تعالى {تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: الحكمة من قوله تعالى {تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ}:

تنبئ هذه الآية الكريمة عن قضية فنية، وهي لما كانت الحبال والعصي ليست بإفك بل هي من خلق اللّه حقيقة، فإن حية موسى لم تلقفها، بل التقفت الزئبق الذي طلي بها الذي هو من صنع السحرة، إذ وضعوه بين تجاويف الحبال والعصي وطرحوها في الأرض قبل بزوغ الشمس، فلما طلعت وأثرت حرارتها في الزئبق تحركت وصاروا يدمدمون عليها صورة، حتى سحروا أعين الناس وأروهم إياها أفاعي وحبالا، فلما ابتلعت عصا موسى بقدرة اللّه ذلك الزئبق منها وأزال اللّه ما خيّلوه للناس، عادت على حالها، ففضحهم اللّه وأظهر شعوذتهم وإنما لم ينكروا ما رأوه لأن الحيات من عادتها أنها تبلع ما تراه من عصي وغيرها، ويوجد الآن في البرازيل حيات تبلع الجمل، والابتلاع من طبعها، والعقل لا يصدق أن العصي والحبال تبلع شيئا، وإنما امتصاص الزئبق الذي في تجاويف تلك الحبال والعصي هو الذي يصدقه العقل، فكان إبطال حركة العصي والحبال بسبب ذلك الامتصاص، وهذا مما يركن إليه العقل وهو من اكبر الأدلة على إعجاز القرآن وأكملها، فقد جمع فأوعى، وهذه الحكمة في قوله تعالى {تلقف ما يأفكون} وجاء في الآية 69 من سورة طه {تَلْقَفْ ما صَنَعُوا} أي الذي صنعوه في العصي والحبال من إلقاء الزئبق فيها، وهو المراد بالإفك هنا، وذلك أن اللّه تعالى جعل قوة مادية في عصا موسى تلقف ما موهوه في عصيهم وحبالهم، قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} اللّه تعالى إذ ظهر لهم أن فعل عصا موسى جاوز حد السحر، ولذلك فإنهم لم يتمالكوا أنفسهم فسقطوا على الأرض سجدا، إذ تيقنوا أن أمر موسى سماوي {قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ} خصوهما بالذكر لدفع توهم إرادة فرعون من دعواه الإلهية وجهل قومه الذين يدعون إلهيته، ولو وقفوا على رب العالمين فقط، لقال فرعون إياي يعنون ليموّه عليهم {قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} بالإيمان به {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} فتواطأتم معه عليه، وقد جاء في آية الأعراف المارة عدد 113 {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} قبل حضوركم مكان الاجتماع، وإنما قال هذا يلبس على قومه انهم لم يؤمنوا على بصيرة ثم بدأ يهددهم فقال: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبال فعلكم هذا، ثم أقسم وأكد قسمه بقوله: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} مر تفسير مثله في الآية 123 من الأعراف {قالُوا لا ضَيْرَ} لا ضرر فيما ينالنا من عذابك، لأنه منقطع في الدنيا {إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ} رحمته الدائمة في الآخرة مؤمّلين عفوه عما صدر منا ونجاتنا من عذابه الأليم الدائم.
{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا} من الكفر والسحر {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} في هذا المشهد العظيم بأن اللّه هو رب العالمين لا أنت ولا غيرك وتقدم بسورة الأعراف وطه بما هو أوسع من هنا فراجعهما.

.مطلب في السحر وكيفية إهلاك قوم فرعون:

واعلم أن السحر مأخوذ من السحر وهو ما بين الفجر الأول والثاني، وحقيقة اختلاط الضياء بالظلمة، فما هو بليل لما خالطه من أضواء الصبح، ولا هو بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار فكذلك فعل السحر ليس بباطل محقق فيكون عدما لأن العين أدركت أمرا لا تشك فيه، وما هو حق محض فيكون له وجود في عينه، لأنه ليس هو في نفسه كما تشهده العين وبظنّه الرأي، قال الشعراني بعد ما نقل هذا عن بعض الأكابر: كلام نفيس ما سمعنا مثله قط.
راجع تفسير سورة الفلق والناس تجد بحث السحر في صورة مسهبة، وله صلة في الآية 101 من سورة البقرة في ج 3 قال تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي} بني إسرائيل وذلك بعد سنتين من ايمان السحرة، بعد أن أيس من ايمان فرعون وقومه، إذ لم تؤثر فيهم الآيات المارة 129 فما بعدها من سورة الأعراف {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} من فرعون وقومه بعد خروجكم من مصر ليحولوا بينكم وبين مهاجرتكم، فبلغ موسى قومه أمر ربه، فأطاعوه وخرج بهم ليلة عيدهم، وكانوا استعاروا من القبط حليهم ليتزيّنوا به، فلما أحس فرعون بخروجهم قال لقومه ذهب موسى وقومه بأموالنا {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ} ليجمعوا الناس، ولما احضروهم قام بهم خطيبا فقال: {إِنَّ هؤُلاءِ} يشير لموسى وقومه إذ نزلهم منزلة الحاضرين المشاهدين لكمال معلوميتهم عندهم، وهو فريد من بديع الكلام المشتمل عليه كتاب اللّه الذي لا أبدع منه {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} قال ابن مسعود كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا على ان ابن خلدون قال في مقدمته إنهم دون هذا العدد بكثير وإنما قللهم فرعون ليقوي معنويات قومه وجبشه بالنسبة للجيش الذي حشده عليهم، قالوا كانوا ألف الف وخمسمائة ألف فساقهم أمامه وخرج وراءهم بمائتي ألف ملك مع كل ملك ألف رجل، والشرذمة الطائفة القليلة، وإنما أكدها بقوله قليلون، باعتبار أنهم أسباط، وكل سبط قليل عنده فجمع قليل على قليلين، وإنما أوقع اللّه في قلب فرعون هذا ليتم مراده فيه، ويجعل كيده في نحره، ويكون كالباحث عن حتفه بظلفه، وقال في خطبته {وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ} مغضبون مضيّقون صدورنا لمخالفتهم أمرنا، وخروجهم دون إذننا، وأخذهم أموالنا مع قلتهم وذلّتهم {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ} والحذر من عادتنا والتيقظ والاحتراز، واستعمال الحزم، وأخذ الأمور بالعزم والصبر على الشدة ديدننا، ومن مقتضى المخلين بالأمور الضرب الشديد عليهم، وعلى القوي دائما أن يتقي الأمة الضعيفة إذا خرجت عن سلطانها من أن ينضم إليها ما هو من جنسها، فتشكل قوة يخشى منها، ولذلك علينا أن نسارع إلى قمع شوكتهم، وحسم مادة التشوف لأمثالهم، حتى يعرف كل واحد مكانه ولا يتعدى طوره، فنقابل جرأتهم هذه بالقوة، لئلا يقدم مثلهم فيما بعد على مثل عملهم هذا.
فأظهر لهم بخطابه قوة شكيمته وأغراهم حتى أخرجهم جميعا من بلادهم ولحقوا بموسى وقومه ليردوهم إلى مصر ويضيقوا عليهم أكثر من ذي قبل انتقاما منهم، قال تعالى: {فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} من بلادهم الموصوفة بذلك {وَكُنُوزٍ} من ذهب وفضة تركوها فيها وإنما سماها اللّه كنوزا لأنهم لم يؤدوا حق اللّه منها وكل مال هذا شأنه يسمى كنزا، قالوا كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب {وَمَقامٍ كَرِيمٍ} مجلس حسن بهي بهيج، قالوا وكان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من الذهب يجلس عليها أشراف قومه وأمراؤهم وهم ملأوه أهل الحل والعقد من وزراء ووكلاء وما ضاهاهم مغشاة بأقبية الديباج {كَذلِكَ} كان فرعون وملأوه من العظمة والأبهة، ولما لم يشكر اللّه على ما أولاه من ذلك المقام، وكفر هذه النعمة وادعى الإلهية فوقها، سلبنا ذلك كله منه ومن قومه {وَأَوْرَثْناها} أي الجنان والكنوز والمقامات وغيرها {بَنِي إِسْرائِيلَ} حيث رجعوا إلى مصر بعد إغراق القبط واستولوا على ديارهم وأموالهم، قال تعالى حاكيا كيفية إغراقهم على الإجمال {فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ} رأى قوم فرعون قوم موسى لأنهم جدّوا السير في لحوقهم، ورأى قوم موسى قوم فرعون {قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} من فرعون وقومه ولا طاقة لنا بهم وذلك لشدة خوفهم منهم لأنهم نشأوا أرقاء عندهم وتوطنت نفوسهم على الذل واشرأبت قلوبهم من سطوتهم فيه وغشيهم الهوان.
{قالَ} موسى ثقة بوعد ربه {كَلَّا} لن يدركونا ابدا {إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} طريق النجاة منهم فقالوا أين نذهب وقد أدركونا، فلو تركننا بمصر نموت بخدمة فرعون وندفن في أرضه، تريد يا موسى أن تميتنا في هذه البادية؟ وطفقوا يلومونه وهو يأمرهم بالصبر ويعدهم بالنصر وهم يتولون ويقولون قد أدركنا القوم الآن يقتلوننا ولم يقدروا أنّ ما كانوا فيه من الاحتقار والاسترقاق من فرعون وقومه أشدّ من القتل، قال عطاء بن السائب: كان جبريل عليه السلام بين بني إسرائيل وآل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق أولكم آخركم، ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم، فصار بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وقوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن رقة من هذا الرجل، وقد صدقوا جميعا، إذ لا أحسن منه إلّا الأنبياء وهو سيد الملائكة فلما انتهى موسى بقومه إلى بحر القلزم قيل هو بحر وراء مصر يقال له أساف قال له مؤمن آل فرعون وكان دائما بين يدي موسى هذا البحر أمامك، وقد غشيك القوم فإلى أين أمرت؟ قال إلى البحر، إلا اني لا أدري ما أصنع، ولم أسأل ربي بعد ان أمرني بأن أتجه نحو البحر، إذ ما علي الا الامتثال، وقد قال لى سيأتيك أمري.
قال آمنت بأن ربك سيجعل لك مخرجا ولم يتم كلامه حتى نزل وحي اللّه وهو {فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ} بدلالة الفاء الدالة على التعقيب، روي عن عبد اللّه بن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إني أعلّمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق البحر، قلت بلى يا رسول اللّه، قال قل اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا باللّه، قال ابن مسعود ما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلّى اللّه عليه وسلم، وعلينا أن نحفظها ونقولها صباح مساء وعند كل ضيق وحاجة.
فدعا عليه السلام بما ألهمه اللّه من هذه الكلمات وغيرها مستغيثا بربه الكريم ثم ضرب البحر {فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} الفلق والفرق القطعة من الشيء، ويقال فرق باعتبار الانفصال كالفرقة من القوم، وفلق باعتبار الانشقاق كالقطعة من الجبل، والطود الجبل، ووقف الماء بين الطرق التي شقها اللّه منه كالجبال الشامخات لعمق الماء وظهرت الأرض يابسة بينها كأن لم يكن فيها ماء، فسار كل سبط تجاهه، روي أن البحر انفلق فيه اتنا عشر طريقا وسلك كل سبط واحدا، وقال السبط الذي معه موسى اين جماعتنا؟ قال امشوا لكل منهم طريق مثلكم يمشون فيه، قالوا لا حتى نراهم لعلهم غرقوا، وأكثروا اللفظ على موسى حتى توقفوا عن السير، وقد أدركهم فرعون وقومه إذ دخل أولهم البحر، فرفع يديه إلى ربه وقال اللهم أعني على أخلاقهم الفاسدة، فأمر اللّه البحر ففتح في كل فرق كوة حتى صار القريب يرى قريبه، والرجل يرى زوجته من السبط الآخر فبادروا بالسير حتى عبروا إلى جهة الشام.

.مطلب انفلاق البحر وأخلاق موسى عليه السلام وأن كل آية لقوم هي آية لأمة محمد عليه السلام:

وما قيل إن انفلاق البحر كان قوسيا وأنهم خرجوا من الجهة التي دخلوها لا دليل له عليه غير انكار قدرة اللّه لأن القائلين بهذا لا يعترفون بقدرة اللّه ويريدون بقولهم هذا ان البحر انحسر بعادة المد والجزر، فدخلوا فيه من جهة انحساره وخرجوا من نفس الجهة من طرف الانحسار لآخر، قاتلهم اللّه فلو كان كما يقولون لما نجوا من فرعون وقومه، بل لخرجوا معهم لأن المد والجزر يكون من جهة واحدة، وما قيل ان المسالك ثلاثة عشر لا برهان له عليه، ويريد صاحب هذا القول ان لموسى وأخيه مسلكا على حدة، وليس كذلك، لأن موسى في الأسباط لهذا فان ما ذهبنا اليه هو الواقع والموافق لما هو عند أهل الكتاب في كتبهم، ولا نص يكذّبه وجل الآثار والأخبار يشهد بصحته، ومن أصر على الخلاف فعليه الدليل والنقل الصحيح ولا أراه فاعلا واللّه أعلم، قال تعالى: {وَأَزْلَفْنا} قربنا {ثَمَّ} هناك في البحر بعد أن شققناه ودخله قوم موسى {الْآخَرِينَ} فرعون وقومه وأغريناهم بدخوله لتكون الملامة في الظاهر على فرعون، لأنه هو الذي ساقهم إلى هذا واللّه تعالى قد أهلكهم في أزله على هذه الصورة، ولو تقاعسوا عنها لقسرهم عليها، ولكن سبق في الكتاب أن يكونوا مختارين، قالوا إن فرعون أغرى قومه بالدخول وإياه هو، إلا ان حصانه الجأه لأن الخيل أمامه عطف ففسره على اقتحام طريق البحر ليتم مراد اللّه، حتى إذا كمل دخولهم آذن اللّه البحر بالالتئام وقرئ وازلقنا بالقاف وعليه يكون المعنى أذهبنا عزهم قال:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها ** وذبيان إذ ذلّت بأقدامها النعل

لأن زلق بمعنى زلّت رجله وتنحى عن مكانه قال تعالى: {وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} لم يغرق ولم يمت أحد منهم {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} فرعون وقومه أجمعين لم يفلت واحد منهم، وحذف التأكيد من الجملة الثانية لدلالة الأول عليها راجع الآية 15 من سورة الأعراف، وجاء العطف بثم للتراخي لأن اللّه تعالى أمهل البحر حتى لم يبق واحد من بني إسرائيل فيه، كما لم يبق من قوم فرعون أحد خارجه، ثم أطبقه عليهم،، اعلم أن ثمة تكتب بالتاء لئلا تلتبس وتقرأ بفتح الثاء من غير تاء وصلا وبالهاء وقفا والقراءة على غير هذا الخط من الغلط وهي بمعنى هناك قالوا وقد سمع الاسرائيليون جلبة عظيمة، فقالوا يا موسى ما هذه؟
قال البحر أطبق على فرعون وقومه فرجعوا ينظرون لضعف ايمانهم، فرأوا جثثهم عائمة، وشاهدوا فرعون نفسه بينهم، فصدقوا ورجعوا {إِنَّ فِي ذلِكَ} الانفلاق والإنجاء {لَآيَةً} عظيمة ظاهرة لإيمان من يؤمن كافية عن طلب غيرها {وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} إذ لم يؤمن من آل فرعون الّا زوجته آسية بنت مزاحم، ومريم بنت ناموشا التي دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام، حتى أخذه معه حين خروجه من مصر وخزقيل مؤمن آل فرعون الذي ذكر اللّه قصته في الآية 28 فما بعدها من سورة المؤمن، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} الغالب المنتقم من أعدائه الودود الرءوف بأوليائه، وفي اسم الإشارة في ذلك والضمير في أكثرهم إشارة إلى أنه يجب على قومك يا محمد الإيمان باللّه وأن يعتبروا بما وقع على أمثالهم، ومع هذا فلم يؤمن منهم إلا القليل بك، وهذا ما يقتضيه سياق التنزيل، لاسيما وقد كررت هذه الآية في هذه السورة ثماني مرات بعد هاتين القصتين، وعقب كل قصة من القصص الست، الآتية، بما يدل على أن المراد بالأكثر من لم يؤمن من أمة كل نبي، كما ثبت بأن أكثر الناس من كل أمة هم الكافرون في قصة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وأمته المذكورين أولا، وفي قصة موسى وقومه وفي كل قصة من القصص الآتية كقصة إبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب، فتكون كل قصة عبرة لقوم النبي الذين شاهدوها بالدرجة الأولى وبالدرجة الثانية هي عبرة وآية لمن جاء بعدهم من الأمم، وعليه فتكون كلها عبرة لقوم محمد صلى اللّه عليه وسلم علاوة على ما رأوه من الآيات على يده، لأنهم سمعوها من لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلم وسماعها منه مع أنه أمي آية على نبوته، موجبة للإيمان به على من يسمعها من أمته، لأنها بالوحي الإلهي، وبهذا التوفيق يحصل التلاؤم التام بين من جعل الآية لكل نبي خاصة بقومه ومن جعلها كلها خاصة لقريش.
تدبر هذا، فقل أن تقف عليه أو تصادف مثله وهو جواب كاف شاف في إرجاع ضمير أكثرهم، لأن منهم من أرجعه إلى القبط، ومنهم من أعاده لقوم موسى، ومنهم من جعله خاصا بأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، والقول الصحيح الجامع لكل هذه الأقوال ما ذكرته لك فاغتنمه، لأني لخصته من عدة صحائف من كتب التفاسير المطوّلة والمختصرة التي لا يتمكن كل أحد من فهم المطلوب منها المجمع عليه إلا بأيام بل بأشهر لمن كان له وقوف وإلمام بعلم التفسير، وتجد مثل هذا كثيرا في تفسيري هذا لأني واللّه الذي لا إله إلا هو أقضي الأيام والليالي في التحري على مسألة واحدة، وكم أنام مهموما لعدم الوقوف عليها حتى إذا يسرها اللّه لي سجدت شكرا للّه تعالى وكأني أعطيت الآخرة، أما الدنيا فهي بما فيها تساوي عندي حرفا واحدا، ومن عظيم نعمة اللّه علي أني أرى أحيانا ما أتوقف عنه في منامي، فأراجعه فيظهر لي كما رأيته، وللّه الحمد والمنة، أقول هذا تحدثا بنعمة اللّه لا فخرا ولا رياء ولا سمعة، ولعل القارئ نظر اللّه إليه أن ينتبه لهذا فيدعو لي ويطلب لي العفو إذا رأى وتحقق لديه ما قاسيته في هذا التفسير، الذي لم أسبق إليه والحمد للّه على توفيقه ولطفه.
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} يا أكرم الرسل {نَبَأَ إِبْراهِيمَ} قصته كما تلوت عليهم قصتك وقصة موسى {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ} آزر ويسمى تارخا من قرية من سواد الكوفة واسم أمه مثلى ولا خلاف باسم أبيه هذا، وإنما الخلاف في كون آزر على وزن آدم أو يازر لقبا له أو اسما آخر، وما قيل إنه اسم عمه يأباه لفظ التنزيل لأن اللّه تعالى ذكر الأب أبا والعم عمّا فمن أين لنا أن نقول عمه بعد أن يقول اللّه تعالى أباه، ونصب أباه هنا على تضمين القول معنى الذكر لانه لا ينصب إلا الجمل {وَقَوْمِهِ} قوم آزر أبيه وهو اسمه الحقيقي المصرح به في الآية 75 من سورة الانعام في ج 2، وما قيل إنه مجاز عن عمه لا عبرة به، لان الحقيقة إذا صحت لا يجنح عنها إلى المجاز {ما تَعْبُدُونَ} أي شيء تعبدونه مع علمه عليه السّلام أنهم يعبدون الأصنام، ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة {قالُوا نَعْبُدُ أَصْنامًا فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ} مكبين عليها ليل نهار، ومن خص العبادة بالنهار دون الليل استدل بلفظ فظل لأنها مأخوذة من الظل، وهو لا يكون إلا نهارا، راجع ان ظل هنا معناها الدوام والبقاء ولا مخصص لها في النهار، وكان يكفي لجوابهم الاختصار على {أَصْنامًا} وإنما أطنبوا افتخارا وابتهاجا بها ورغبة ومناوأة لقوله: {ما} الدالة على ما لا يعقل فكان جوابهم على خلاف السؤال على حد قوله: {وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} الآية 120 من البقرة في ج 3، وقوله تعالى {ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ} الآية 24 من سورة سبأ ج 2، وقوله: {ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْرًا} الآية 30 من النحل في ج 2، ومثله كثير في القرآن، فهم زادوا نعبد مع أنهم لم يسألوا عن العبادة بل سئلوا عن المعبود، وزادوا جملة فنظل إلخ بقصد المباهاة.
{قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} هذه الأصنام فيجيبوا دعاءكم {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ} بزيادة الرزق والولد إن عبدتموهم {أَوْ يَضُرُّونَ} كم إن تركتم عبادتهم {قالُوا} وقد لزمتهم الحجة فاعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر {بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ} مثل هذا {يَفْعَلُونَ} وقد قلدناهم واقتدينا بهم، مع علمنا بعدم إنصافهم بذلك.