فصل: مطلب لا تجوز القراءة بغير العربية إلا إذا كانت دعاء أو تنزيها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب لا تجوز القراءة بغير العربية إلا إذا كانت دعاء أو تنزيها:

وما قيل إن الإمام أبا حنيفة استنبط من هذه الآية جواز قراءة القرآن بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية، ولما جاء في الخبر أن لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدرّي أي وغيرها من بقية اللغات، فقد صح أنه رجع عنه وقد حرر الإمام حسن الشر نبلالي رسالة في تحقيق هذه المسألة سماها التحفة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية، فمن أراد تحقيق ذلك فليراجعها، وكان رجوعه رضي اللّه عنه لضعف الاستدلال على جوازها، وهو لا يقول بالضعيف لأن القرآن أنزل في هذه اللغة العربية للإعجاز بفصاحته فضلا عن غيرها، وان الترجمة مهما كانت لا تكون قرآنا في هذا المعنى بل لا يمكن قراءته جميعه، الا بالعربية، فلا يمكن ترجمته كله بغيرها، لان اللغات الأخر لا تشتمل على جميع الحروف العربية فضلا عن أنها يتعذر فيها ما في القرآن من أنواع البلاغة والبديع والمعاني والفصاحة والتعبير عن المجاز والحقيقة والمحل والحال والحذف والإيصال وغيرها، أما من لا يحسن العربية ولم يتمكن من تعليمها البته فيجوز أن يتعلم شيئا من القرآن على حسب لغته بالترجمة حرفيا، بقدر ما تصح به صلاته فقط، قال الإمامان إذا عجز عن العربية يجوز له قراءته بلغته على أن يكون المقروء بلغته دعاء أو ذكرا أو تنزيها أو ثناء محضا كالفاتحة والإخلاص، وقوله تعالى {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا} {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا} {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ} وما شابه هذا، أما إذا كان المقروء بغير اللغة العربية من القصص والأحكام والأوامر والنواهي والحدود فلا يجوز البتة، لاحتمال وقوع الخطأ فيها، أما تفسير القرآن باللغات السائرة مع اثبات الأصل فهو مطلوب لا طلاع البشر كافة عليه، والتشرب من معانيه، والعمل بأحكامه والاتعاظ بأخباره، والاسترشاد بقصصه وآدابه، والاهتداء بهديه، لأنه لم ينزل للعرب خاصة بل لجميع البشر من تاريخ نزوله. إلى آخر هذا الكون، كما ان المنزل عليه مرسل لجميع الخلق من الإنس والجن من زمنه. إلى آخر الدوران، وهذه الآية المدنية المستثناة من هذه السورة، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ} هؤلاء المتكبرين من أهل الكتاب وغيرهم {آيَةً} دالة على صدق محمد {أَنْ يَعْلَمَهُ} بأنه رسول اللّه حقا {عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ} ممن أسلم منهم ومن لم يسلم، قال مقاتل هذه الآية مدنية وعلماء بني إسرائيل عبد اللّه بن سلام وأصحابه، كما روي عن ابن عباس ومجاهد أن جماعة أسلموا ووقفوا على مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وعلى كون الآية مكية يكون المعنى أولم يكن لهؤلاء الكفرة علامة على صدق القرآن المنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلم أن يعلمه علماء بني إسرائيل، لأنه منعوت في كتبهم، ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحياء يثرب ليسألوهم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم، فقالوا هذا زمانه وذكروا نعته وخلطوا في أمره، فنزلت هذه الآية.
هذا، وبعض المفسرين أعاد ضمير يعلمه على القرآن، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لا يعلمونه وأن مجرد ذكره في التوراة لا يدل على علمهم به وبما فيه، أما محمد صلّى اللّه عليه وسلم فهو موصوف ومنعوت في التوراة والإنجيل، وأن علماء أهل الكتابين يعرفونه حق المعرفة باطلاعهم على أوصافه، قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} أما إذا أريد أنهم إذا قرئ عليهم القرآن يعرفونه أنه من اللّه، فهو ما لا جدال فيه، وعليه يستقيم عود الضمير إلى القرآن، قال تعالى: {وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} الآية 51 من النمل الآنية، واعلم أن مفاد الآيات المتقدمة من وأنه إلى هنا وسياق قوله: {وَلَوْ نَزَّلْناهُ} وما بعدها تفيد أن ضمير بعلمه يعود إلى القرآن بدلالة عود ضمير أنزلناه إليه أيضا وهو الظاهر واتباع الظاهر أولى {عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} الذين لا يفهمون معناه ولا يقدرون فصاحة مبناه، بل لا يتمكنون من قراءته كما ينبغي، وهو جمع أعجمي حذفت منه ياء النسبة مثل أشعري يجمع على أشعرين وأشعرون بحذف ياء النسبة أيضا، وقرئ أعجميين ولهذا جمع بالواو والنون جمع العقلاء، ولو كان جمع أعجم لما جمع هكذا لأنه مؤنث عجماء، وافعل فعلاء لا يجمع جمع السالم {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} على أولئك الكفرة {ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} أنفة من اتباع من ليس منهم لشدة شكيمتهم في المكابرة، ولو فرض أنه قرأه عليهم باللغة العربية الفصحى بتعليم اللّه إياها كما علم آدم الأسماء كلها فيكون معجزة من جهتين لما آمنوا أيضا {كَذلِكَ} مثل هذا المسلك البديع {سَلَكْناهُ} أي التكذيب بالقرآن وعدم الإيمان به {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} فلا سبيل لتعييرهم عما جبلوا عليه، لأنهم طبعوا على ذلك، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فالمؤمنون لا يكفرون مهما كان منهم، والكافرون لا يؤمنون مهما كان منهم، لأنه لابد وأن يوفق كل منهم أن يموت على ما خلق له من إيمان وكفر ولهذا قال تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أولئك الكفرة {حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} الذي لا دافع له فيكون إيمانهم إيمان يأس وهو غير مقبول كما تقدم في الآية 157 المارة، وهذه الآيات على حد قوله تعالى {وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} ذلك العذاب الفظيع المؤلم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} به ولا بوقت إتيانه، لأنه على حين غرة وغفلة بوقت لا يتوقعونه، وإذ ذاك {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} لنؤمن ونصدق وهيهات رجوع مافات، لأن عذاب اللّه إذا جاء لا يؤخر كما أنه لا يقدم عن الوقت المقدر لنزوله، ويقال لهم {أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ} وهو آتيهم لا محالة، قال نفر من قريش حتى يأتينا هذا العذاب الذي يوعدنا به محمد فنزلت الآية الآنفة، قال تعالى يا سيد الرسل {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ} كثيرة في هذه الدنيا وما فيها من النّعم {ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ} به من العذاب الذي تهددهم به {ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ} فيها شيئا من ذلك العذاب وما هو براد عنهم شيئا وكأنهم لم يكونوا رأوا شيئا من طول العمر وطيب العيش في الدنيا {وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ} فيما سبق من الأمم الباقية {إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ} من قبلنا يخوفونهم عذابنا إن لم يؤمنوا بهم، فلم يفعلوا وكان إرسال الرسل إليهم {ذِكْرى} لئلا يقولوا {ما جاءنا نذير} الآية 41 من المائدة في ج 3 فتلزمهم الحجة وإلا فاللّه تعالى يعلم من يؤمن ومن يكفر قبل إرسال الرسل بل قبل إيجادهم وهو قادر على إهلاكهم دون ذلك، ولكن ليظهر لأمثالهم أن عذابهم كان بسبب كفرهم {وَما كُنَّا ظالِمِينَ} في تعذيب أحد لأنا تقدمنا إليهم بالمعذرة، وقدّمنا لهم الحجة، هذا وإن نفرا من المشركين لما رأوا محمدا يخبرهم بما غاب عنه مما يتقولونه في نواديهم وحينما يسألونه يقول لهم أخبرني ربي قال بعضهم لبعض كلا، فإن الشياطين تلقي إليه ذلك كما تلقي القرآن الذي يزعم أنه من ربه، فأنزل اللّه تعالى {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ} أن ينزلوا بمثله لأنهم أحقر من ذلك {وَما يَسْتَطِيعُونَ} إنزاله ولا يقدرون البتة لأنه محفوظ بحفظ اللّه وليسوا بأهل له، ولا يصح قولهم هذا ولا يستقيم {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} مبعدون عنه ومحجوبون منه وممنوعون عن استراقه بالشهب الجهنمية، ثم خاطب رسوله بما أراد به غيره على طريق ضرب المثل: إياك أعني واسمعي يا جاره فقال عز قوله: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} إذ لا إله لهذا الكون غيره فاحذر من هذا أيها الإنسان، {فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} إن أقدمت على ذلك وهذا مما لا شك فيه مراد به غيره صلّى اللّه عليه وسلم لأنه عليه محال لوجود العصمة، وإنما خاطبه به ليحذر الغير من الإشراك باللّه على طريق التعريض تحريكا لزيادة الإخلاص للّه، وإلهابا للقلوب بالتباعد عنه، وعلى فرض المحال لو أريد به حضرة الرسول فيكون ذلك على حد قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} فيكون المعنى: وإن كنت يا محمد وأنت أكرم الخلق علي اتخذت شريكا في دعائي لعذبتك، وفيه تحذير عظيم للغير قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} خصّهم بالذكر لنفي التهمة عن التساهل معهم في أمر الدين وليعلموا أنه لا يغني عنهم من اللّه شيئا إذا حل بهم عذابه وليعلم الناس كافة أن النجاة في اتباعه والتصديق لما جاء به في دينه لا في قرابته، راجع الآية 89 المارة {وَاخْفِضْ جَناحَكَ} يا سيد الرسل {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بك القريب منهم والبعيد، أما الكافرون فلا يليق أن تلين لهم جانبك، بل شدد عليهم برفض الشرك وحذرهم من تكذيبك {فَإِنْ عَصَوْكَ} أقاربك وعشيرتك وسائر قومك، ولم يقبلوا نصحك ولم يلتفتوا لإرشادك {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي والأفعال الذميمة والأحوال السافلة، واتركهم ولا تعبأ بهم الآن، لأنك لم تكلف إلا بإبلاغهم ما يوحى إليك، وذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم بعد، ولذلك اقتصر أمره على الإنذار والتبشير والتبري مما هم عليه من القبائح، لا منهم لأنه لو أمر بالتبري منهم لما بقي شفيعا للعصاة يوم القيامة.

.مطلب أن الأقارب أولى من غيرهم في كل شيء:

وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل لا قيمة له، لأن معناها صحيح قبل آية السيف وبعدها، وحكمها باق، لأن لأقربين لهم مزية على غيرهم، ولين الجانب مطلوب للجميع ومن الجميع، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حين انزل اللّه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال يا معشر قريش أو كلمة غيرها، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من اللّه شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من اللّه شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من اللّه شيئا، ويا صفية عمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا أغني عنك من اللّه شيئا ويا فاطمة بنت رسول اللّه لا أغني عنك من اللّه شيئا، سليني ما شئت من مالي.
وحديث البخاري ومسلم عن ابن عباس في هذا المعنى تقدم في سورة المسد المارة، فراجعه.
وروى مسلم عن قبيصة بنت مخارق وزهير بن عمر قال: لما نزلت وأنذر الآية انطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى رحمة جبل فعلا أعلاها ثم نادى: يا بني عبد مناف اني نذير لكم، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صاحباه، وروى محمد بن اسحق بسنده عن علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه: لما نزلت هذه الآية على رسول صلّى اللّه عليه وسلم قال يا علي إن اللّه أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها صمتة حتى جاءني جبريل، فقال يا محمد إن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربّك، فاصنع لي طعاما واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذ أربعين رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئت به فتناول صلّى اللّه عليه وسلم جذبة من بعض اللحم، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في الصفحة، ثم قال خذوا باسم اللّه، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وايم اللّه إن كان الرجل الواحد ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم، ثم قال اسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا، وأيم اللّه ان كان الرجل الواحد ليشرب مثله، فلما أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فقال الغد يا علي فان هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فأعدوا لنا الطعام مثلما صنعت ثم اجمعهم، ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثم تكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فقال يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاحجم القوم عنها جميعا، وأنا أحدثهم سنا، فقلت أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ بمرقبتي، ثم قال: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه.
هذا، وعليه أن من بدا له شيء فليفعله أولا بنفسه، ثم بدأ بالأقرب فالأقرب من أهله ومن يواليه، فيكون انفع قولا وأنجح نتيجة وأبعد عن الطعن، قال اللّه تعالى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ} الذي لا يذل من والاه ولا يعزّ من عاداه {الرَّحِيمِ} الذي ينصر من فوض إليه أمره ويرحم من لا يعرف غيره {الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ} في الليل وحدك تتهجد له بصلاتك التي خصصت بها وتتضرع إليه بدعواتك التي الهمتها منه دون أن يراك أحد غيره {وَ} يرى {تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} في أصلاب الأنبياء أجدادك، إذ تتنقل من واحد لآخر حتى اخرجك إلى هذه الأمة، وهذا من أعظم ما وفقت إليه.
واعلم أن كلمة الساجدين تشمل الأنبياء والمؤمنين، وتدل على إيمان أبويه صلّى اللّه عليه وسلم كما ذهب إليه كثير عن أجلة العلماء قال محمود الآلوسي في تفسيره روح المعاني: وأنا أخشى على من يقول فيهما رضي اللّه عنهما بغير ذلك الكفر على رغم القارئ واضرابه، وقد جاء في الخبر أن اللّه تعالى أحيا له أبويه وعمّه أبا طالب فآمنوا به، ولا يلتفت إلى قول من ضعفه، لأنه ناشيء عن ضعف إيمانه، على أن أبويه من أهل الفترة، وهم كلهم ناجون على القول الصحيح الراجح بدلالة قوله تعالى {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الآية 15 من سورة الاسراء الآتية، أو أنّ المعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه، وتفسير الساجدين من الأنبياء، رواه الطبراني والبزار وأبو نعيم عن ابن عباس، إلا أنه فصر التقلب بالتنقل كما ذكر آنفا، أما التفسير بالمصلّين وإن ذهب اليه كثير من المفسرين فهو بعيد، لأن الصلاة لم تفرض بعد، وأبعد منه من جعل الصلاة صلاة الجماعة، وهي لم تفرض بمكة وهذه السورة مكية بلا خلاف، وخاصة هذه الآية، ويجوز أن يراد تقلبك في المجتهدين لتفحص أحوالهم وتطلع عليهم وتستبطن سرائرهم وهذا القول على ضعفه لا بأس فيه، لأن اللّه تعالى فرض على نبيه صلاة ركعتين في الغداة ومثلها في العشية، وفرض عليه قيام بعض الليالي خاصة كما نص عليه أول سورة المزمل المارة، وكان يتهجد فيهن ويشاركه بعض أصحابه في ذلك، فيحتمل أنه تفقد أحوالهم ليراهم يداومون عليها اقتداء بفعله أم لا، فنزلت هذه الآية، أما ما جاء في روح المعاني من أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلّى اللّه عليه وسلم تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعتهم، فوجدها كبيوت النحل لما سمع من دندنتهم بذكر اللّه والتلاوة، فلا يتجه لان هذه الآية 20 من سورة المزمل التي عبر عنها بأنها نسخت أول السورة بشأن القيام نزلت في المدينة ولا علاقة لها بالآية المفسرة، وقد بيّنّا في المقدمة ما يتعلق بالنسخ في هذه الآية وعدمه في آخر سورة المزمل المذكورة، فراجعها {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يسمع دعاءك ويعلم عملك، ثم قل يا أكرم الرسل لهؤلاء الكفرة {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ} لتجاريهم على أقوالهم السالفة فإنها {تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ} مختلق للكفر مثل هؤلاء القائلين إن الشياطين تلقي عليك هذا القرآن وكل منهم {أَثِيمٍ} مرتكب للآثام الكثيرة كالسحرة والكهنة المتنبئين كذبا فتراهم {يُلْقُونَ السَّمْعَ} الذي يسمعونه من الملائكة فيلقونه للكهنة مع أضعافه كذبا {وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ} فيما يخبرونه به، لأن منهم من لا يسترق السمع وإن محمدا مبرا من ذلك معصوم من هذه الصفات المتلبس بها الكهنة والسحرة والمشعوذين، قيل هذا كان قبل مبعث الرسول وعليه يكون أكثر بمعنى الكل على حد قوله تعالى {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} الآية 50 من آل عمران في ج 3 يريد كله.
وذلك لأنه لا يكون أحد من الكهنة والشياطين صادقا، وسيأتي في تفسير هذه الآية أن سيدنا عيسى لم يحل لهم كل ما حرم على بني إسرائيل، لهذا فإن تفسيرها على ما جرينا عليه أولى واللّه أعلم، ومن هنا. إلى آخر السورة نزل بالمدينة، وذلك أن جماعة ممن يقول الشعر من قريش كعبد اللّه بن الزبعرى السهمي وهبيرة بن أبي لهب المخزومي ومسافع بن عبد منات وأبو عمر بن عبد اللّه الجحمي وأمية بن أبي الصلت الثقفي عليهم من اللّه ما يستحقون، صاروا يهجون حضرة الرسول ويقولون نحن نقول مثل ما يقول، وتبعهم في هذا السفهاء من قومهم.