فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
والسورة كلها شوط واحد مقدمتها وقصصها وتعقيبها في هذا المضمار. لذلك نقسمها إلى فقرات أو جولات بحسب ترتيبها. ونبدأ بالمقدمة قبل القصص المختار:
{طسم تلك آيات الكتاب المبين}.
طا. سين. ميم، الأحرف المقطعة للتنبيه إلى أن آيات الكتاب المبين ومنها هذه السورة مؤلفة من مثل هذه الأحرف؛ وهي في متناول المكذبين بالوحي؛ وهم لا يستطيعون أن يصوغوا منها مثل هذا الكتاب المبين. والحديث عن هذا الكتاب متداول في السورة. في مقدمتها ونهايتها. كما هو الشأن في السور المبدوءة بالأحرف المقطعة في القرآن.
وبعد هذا التنبيه يبدأ في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يهمه أمر المشركين ويؤذيه تكذيبهم له وللقرآن الكريم؛ فيسليه ويهون عليه الأمر؛ ويستكثر ما يعانيه من أجلهم؛ وقد كان الله قادرًا على أن يلوي أعناقهم كرهًا إلى الإيمان، بآية قاهرة تقسرهم عليه قسرًا:
{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين! إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين}.
وفي التعبير ما يشبه العتب على شدة ضيقه صلى الله عليه وسلم وهمه بعدم إيمانهم: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}. وبخع النفس قتلها. وهذا يصور مدى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاني من تكذيبهم، وهو يوقن بما ينتظرهم بعد التكذيب، فتذوب نفسه عليهم وهم أهله وعشيرته وقومه ويضيق صدره. فربه يرأف به، وينهنهه عن هذا الهم القاتل، ويهون عليه الأمر، ويقول له: إن إيمانهم ليس مما كلفت؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالًا، ولا انصرافًا عن الإيمان. ويصور خضوعهم لهذه الآية صورة حسية: {فظلت أعناقهم لها خاضعين} ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم، فهم عليها مقيمون!
ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة. لقد جعل آيتها القرآن. منهاج حياة كاملة. معجزًا في كل ناحية:
معجزًا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه؛ كما هي الحال في أعمال البشر. إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات. بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال.
معجزًا في بنائه الفكري، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة. كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل؛ وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى؛ ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها، وكلها مشدودة إلى محور واحد، وإلى عروة واحدة، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة. ولابد أن تكون هناك خبرة مطلقة، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان. هي التي أحاطت به هذه الإحاطة، ونظمته هذا التنظيم.
معجزًا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة.
لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها. وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان. فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب.
لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعًا يشهد، فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنًا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم لوهدوا إلى اتخاذه إمامهم ويلبي حاجاتهم كاملة؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل. وسيجد فيه من بعدنا كثيرًا مما لم نجده نحن؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته؛ ويبقى رصيده لا ينفد، بل يتجدد. ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى. فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينًا بعد حين:
{وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين}.
ويذكر اسم الرحمن هنا للإشارة إلى عظيم رحمته بتنزيل هذا الذكر، فيبدو إعراضهم عنه مستقبحًا كريهًا؛ وهم يعرضون عن الرحمة التي تتنزل عليهم، ويرفضونها، ويحرمون أنفسهم منها، وهم أحوج ما يكونون إليها!
ويعقب على هذا الإعراض عن ذكر الله ورحمته بالتهديد بعقابه وعذابه:
{فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}.
وهو تهديد مضمر مجمل مهول. وفي التعبير سخرية تناسب استهزاءهم بالوعيد. {فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}. ستأتيهم أخبار العذاب الذي يستهزئون به! وهم لن يتلقوا أخبارًا. إنما سيذوقون العذاب ذاته، ويصبحون هم أخبارًا فيه، يتناقل الناس ما حل بهم منه. ولكنهم يستهزئون فيستهزأ بهم مع التهديد المرهوب!
وإنهم يطلبون آية خارقة؛ ويغفلون عن آيات الله الباهرة فيما حولهم؛ وفيها الكفاية للقلب المفتوح والحس البصير؛ وكل صفحة من صفحات هذا الكون العجيب آية تطمئن بها القلوب.
{أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتا فيها من كل زوج كريم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين}.
ومعجزة إخراج النبات الحي من الأرض، وجعله زوجًا ذكرًا وأنثى، إما منفصلين كما في بعض فصائل النبات، وإما مجتمعين كما هو الغالب في عالم النبات، حيث تجتمع أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث في عود واحد، هذه المعجزة تتكرر في الأرض حولهم في كل لحظة: {أو لم يروا!} والأمر لا يحتاج إلى أكثر من الرؤية؟
والمنهج القرآني في التربية يربط بين القلب ومشاهد هذا الكون؛ وينبه الحس الخامد، والذهن البليد، والقلب المغلق، إلى بدائع صنع الله المبثوثة حول الإنسان في كل مكان؛ كي يرتاد هذا الكون الحي بقلب حي؛ يشاهد الله في بدائع صنعه، ويشعر به كلما وقعت عينه على بدائعه؛ ويتصل به في كل مخلوقاته؛ ويراقبه وهو شاعر بوجوده في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ويشعر أنه هو واحد من عباده، متصل بمخلوقاته، مرتبط بالنواميس التي تحكمهم جميعًا. وله دوره الخاص في هذا الكون، وبخاصة هذه الأرض التي استخلف فيها:
{أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{طسم (1)}.
يأتي في تفسيره من التأويلات ما سبق ذِكره في جميع الحروف المقطعة في أوائل السور في معان متماثلة.
وأظهر تلك المعاني أن المقصود التعريض بإلهاب نفوس المنكرين لمعارضة بعض سور القرآن بالإتيان بمثله في بلاغته وفصاحته وتحدّيهم بذلك والتورك عليهم بعجزهم عن ذلك.
وعن ابن عباس: أن {طَسم} قَسَم، وهو اسم من أسماء الله تعالى، والمقسم عليه قوله: {إن نَشَأ نُنزّل عليهم من السماء آية} [الشعراء: 4].
فقال القرظي: أقسم الله بطوله وسَنائه ومُلكه.
وقيل الحروف مقتضبة من أسماء الله تعالى ذي الطَّول، القدوس، الملك.
وقد علمت في أول سورة البقرة أنها حروف للتهجّي واستقصاء في التحدّي يعجزهم عن معارضة القرآن، وعليه تظهر مناسبة تعقيبه بآية {تلك آيات الكتاب المبين} [الشعراء: 2].
والجمهور قرأوا: {طَسمِّ} كلمة واحدة، وأدغموا النون من سين في الميم وقرأ حمزة بإظهار النون.
وقرأ أبو جعفر حروفًا مفككة، قالوا وكذلك هي مرسومة في مصحف ابن مسعود حروفًا مفككة {ط س م}.
والقول في عدم مَدّ اسم طَا مع أن أصله مهموز الآخر لأنه لما كان قد عرض له سكون السكت حذفت همزته كما تحذف للوقف، كما تقدم في عدم مدّ رَا في {الر} في سورة يونس.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
الإشارة إلى الحاضر في الأذهان من آيات القرآن المنزّل من قبلُ، وبيَّنه الإخبارُ عن اسم الإشارة بأنها آيات الكتاب.
ومعنى الإشارة إلى آيات القرآن قصد التحدّي بأجزائه تفصيلًا كما قُصد التحدي بجميعه إجمالًا.
والمعنى: هذه آيات القرآن تقرأ عليكم وهي بلغتكم وحروف هجائها فأتوا بسورة من مثلها ودونكموها.
والكاف المتصلة باسم الإشارة للخطاب وهو خطاب لغير معيّن من كل متأهل لهذا التحدي من بلغائهم.
و{المبين} الظاهر، وهو من أبان مرادف بَان، أي تلك آيات الكتاب الواضح كونه من عند الله لما فيه من المعاني العظيمة والنظْم المعجز، وإذا كان الكتاب مبينًا كانت آياته المشتمل عليها آيات مُبينة على صدق الرسل بها.
ويجوز أن يكون {المبين} من أبان المتعدي، أي الذي يُبيّن ما فيه من معاني الهدى والحق وهذا من استعمال اللفظ في معنييه كالمشترك.
والمعنى: أن ما بلغكم وتلي عليكم هو آيات القرآن المبين، أي البيّن صدقه ودلالته على صدق ما جاء به ما لا يجحده إلا مكابر.
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)}.
حُوّل الخطاب من توجيهه إلى المعاندين إلى توجيهه للرسول عليه الصلاة والسلام.
والكلام استئناف بياني جوابًا عما يثيره مضمون قوله: {تلك آيات الكتاب المبين} [الشعراء: 2] من تساؤل النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه عن استمرار إعراض المشركين عن الإيمان وتصديق القرآن كما قال تعالى: {فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا} [الكهف: 6]، وقوله: {فلا تَذْهَب نفسُك عليهم حسرات} [فاطر: 8].
ولعلّ إذا جاءت في ترجّي الشيء المخوف سميت إشفاقًا وتوقعًا.
وأظهر الأقوال أن الترجي من قبيل الخبر، وأنه ليس بإنشاء مثلَ التمني.
والترجي مستعمل في الطلب، والأظهر أنه حثّ على ترك الأسف من ضلالهم على طريقة تمثيل شأن المتكلم الحاثّ على الإقلاع بحال من يستقرب حصول هلاك المخاطب إذا استمر على ما هو فيه من الغم.
والباخع: القاتل. وحقيقة البخع إعماق الذبح.
يقال: بَخَع الشاة، قال الزمخشري: إذا بلغ بالسكين البِخَاع بالموحدة المكسورة وهو عِرق مستبطن الفَقار، كذا قال في الكشاف هنا وذكره أيضًا في الفائق.
وقد تقدم ما فيه عند قوله تعالى: {فلعلّك باخع نفسك على آثارهم} في سورة الكهف.
وهو هنا مستعار للموت السريع، والإخبار عنه ب {باخع} تشبيه بليغ.
وفي {باخع} ضمير المخاطب هو الفاعل.
و{أن لا يكونوا} في موضع نصب على نزع الخافض بعد {أنْ} والخافض لام التعليل، والتقدير: لأن لا يكونوا مؤمنين، أي لانتفاء إيمانهم في المستقبل، لأنّ {أن} تخلص المضارع للاستقبال.
والمعنى: أنَّ غمك من عدم إيمانهم فيما مضى يوشك أن يوقعك في الهلاك في المستقبل بتكرر الغم والحزن، كقول إخوة يوسف لأبيهم لما قال: {يا أسفا على يوسف} [يوسف: 84] فقالوا: {تالله تفتؤ تَذكرُ يوسف حتى تكونَ حَرَضًا أو تكون من الهالكين} [يوسف: 85]؛ فوزان هذا المعنى وزان معنى قوله في سورة الكهف {فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا}، فإن {إن} الشرطية تتعلق بالمستقبل.