فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكان أبو جهل يقول: زقّمونا، استهزاء.
ويجوز كون {ما} مصدرية، أي أنباء كون استهزائهم، أي حصوله، وضمير {به} عائدًا إلى معلوم من المقام، وهو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بأنباء استهزائهم أنباءُ جزَائه وعاقبته وهو ما توعدهم به القرآن في غير ما آية.
والقول في إقحام فعل {كانوا} هنا كالقول في إقحامه في قوله آنفًا {كانوا عنه معرضين} [الشعراء: 5] ولكن أوثر الإتيان بالفعل المضارع وهو {يستهزءون} دون اسم الفاعل كالذي في قوله: {كانوا عنه معرضين} لأن الاستهزاء يتجدد عند تجدد وعيدهم بالعذاب، وأما الإعراض فمتمكّن منهم.
ومعنى {فسيأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون} على الوجه الأول أن يكون الإتيان بمعنى التحقق كما في قوله: {أتى أمر الله} [النحل: 1]، أي تحقّق، أي سوف تتحقّق أخبار الوعيد الذي توعدهم به القرآن الذي كانوا يستهزئون به.
وعلى الوجه الثاني سوف تبلغهم أخبار استهزائهم بالقرآن، أي أخبار العقاب على ذلك.
وأوثر إفراد فعل {يأتيهم} مع أن فاعله جمع تكسير لغير مذكر حقيقي يجوز تأنيثه لأن الإفراد أخف في الكلام لكثرة دورانه.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)}.
الواو عاطفة على جملة: {وما يأتيهم من ذِكر من الرحمن مُحدَث إلا كانوا عنه معرضين} [الشعراء: 5]؛ فالهمزة الاستفهامية منه مقدمة على واو العطف لفظًا لأن للاستفهام الصدارةَ، والمقصود منه إقامة الحجة عليهم بأنهم لا تغني فيهم الآيات لأن المكابرة تصرفهم عن التأمل في الآيات، والآياتُ على صحة ما يدعوهم إليه القرآن من التوحيد والإيمان بالبعث قائمة متظاهرة في السماوات والأرض وهم قد عَمُوا عنها فأشركوا بالله، فلا عجب أن يضلوا عن آيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وكون القرآن منزلًا من الله فلو كان هؤلاء متطلعين إلى الحق باحثين عنه لكان لهم في الآيات التي ذُكِّروا بها مقنع لهم عن الآيات التي يقترحونها قال تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء} [الأعراف: 185]، وقال: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101] أي عن قوم لم يعدوا أنفسهم للإيمان.
فالمذكور في هذه الآية أنواع النبات دالة على وحدانية الله لأن هذا الصنع الحكيم لا يصدر إلاّ عن واحد لا شريك له.
وهذا دليل من طريق العقل، ودليل أيضًا على إمكان البعث لأن الإنبات بعد الجَفاف مثيل لإحياء الأموات بعد رفاتهم كما قال تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحيَيْناها} [يس: 33].
وهذا دليل تقريبي للإمكان فكان في آية الإنبات تنبيه على إبطال أصلي عدم إيمانهم وهما: أصل الإشراك بالله، وأصل إنكار البعث.
والاستفهام إنكار على عدم رؤيتهم ذلك لأن دلالة الإنبات على الصانع الواحد دلالة بينة لكل من يراه؛ فلما لم ينتفعوا بتلك الرؤية نزلت رؤيتهم منزلة العدم فأنكر عليهم ذلك.
والمقصود: إنكار عدم الاستدلال به.
وجملة: {كم أنبتنا} بَدل اشتمال من جملة {يروا} فهي مصبّ الإنكار.
وقوله: {إلى الأرض} متعلق بفعل {يروا}، أي ألم ينظروا إلى الأرض وهي بمرأى منهم.
و{كم} اسم دال على الكثرة، وهي هنا خبرية منصوبة ب {أنبتنا}.
والتقدير: أنبتنا فيها كثيرًا من كل زوج كريم.
و{مِن} تبعيضية.
ومورد التكثير الذي أفادته {كم} هو كثرة الإنبات في أمكنة كثيرة، ومورد الشمول المفاد من {كل} هو أنواع النبات وأصنافه وفي الأمرين دلالة على دقيق الصنع.
واستغني بذكر أبعاض كل زوج عن ذكر مميز {كم} لأنه قد عُلم من التبعيض.
والزوج: النوع، وشاع إطلاق الزوج على النوع في غير الحيوان قال تعالى: {ومن كل الثمرات جَعَلَ فيها زوجَيْن اثنين} على أحد احتمالين تقدما في سورة الرعد (3)، وتقدم قوله تعالى: {فأخرجنا به أزواجًا من نبات شَتى} في طَه (53).
والكريم: النفيس من نوعه قال تعالى: {ورزق كريم} في الأنفال (4)، وتقدم عند قوله تعالى: {مَرُّوا كِرَامًا} في سورة الفرقان (72).
وهذا من إدْماج الامتنان في ضمن الاستدلال لأن الاستدلال على بديع الصنع يحصل بالنظر في إنبات الكريم وغيرِه.
ففي الاستدلال بإنبات الكريم من ذلك وفاءٌ بغرض الامتنان مع عدم فوات الاستدلال.
وأيضًا فنظر الناس في الأنواع الكريمة أنفذُ وأشهرُ لأنه يبتدىء بطلب المنفعة منها والإعجاب بها فإذا تطلبها وقع في الاستدلال فيكون الاقتصار على الاستدلال بها في الآية من قبيل التذكير للمشركين بما هم ممارسون له وراغبون فيه.
والمشار إليه بذلك هو المذكور من الأرض، وإنبات الله الأزواج فيها، وما في تلك الأزواج من منافع وبهجة.
والتأكيد بحرف {إنَّ} لتنزيل المتحدّث عنهم منزلة من ينكر دلالة ذلك الإنبات وصفاته على ثبوت الوحدانية التي هي باعث تكذيبهم الرسول لما دعاهم إلى إثباتها، وإفراد {آية} لإرادة الجنس، أو لأن في المذكور عدةَ أشياء في كل واحد منها آية فيكون على التوزيع.
وجملة: {وما كان أكثرهم مؤمنين} عطف على جملة: {إن في ذلك لآية} إخبارًا عنهم بأنهم مصرّون على الكفر بعد هذا الدليل الواضح، وضمير {أكثرهم} عائد إلى معلوم من المقام كما عاد الضمير الذي في قوله: {ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3]، وهم مشركو أهل مكة وهذا تحدَ لهم كقوله: {ولن تفعلوا} [البقرة: 24].
وأسنِد نفي الإيمان إلى أكثرهم لأن قليلًا منهم يؤمنون حينئذ أو بعد ذلك.
و{كان} هنا مقحمة للتأكيد على رأي سيبويه والمحققين.
وجملة: {وإن ربك لهو العزيز الرحيم} تذييل لهذا الخبر: بوصف الله بالعزة، أي تمام القدرة فتعلمون أنه لو شاء لعجّل لهم العقاب، وبوصف الرحمة إيماء إلى أن في إمهالهم رحمة بهم لعلهم يشكرون، ورحيم بك.
قال تعالى: {وربُّك الغفور ذو الرحمة لو يُؤاخذهم بما كسبوا لعجَّل لهم العذاب} [الكهف: 58].
وفي وصف الرحمة إيماء إلى أنه يرحم رسله بتأييده ونصره.
واعلم أن هذا الاستدلال لما كان عقليًا اقتصر عليه ولم يكرر بغيره من نوع الأدلة العقلية كما كررت الدلائل الحاصلة من العبرة بأحوال الأمم من قوله: {وإذ نادى ربُّك موسى} [الشعراء: 10]. إلى آخر قصة أصحاب لَيْكة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{طسم (1)}.
سبق أن تكلمنا عن الحروف المقطعة في أوائل السور، وقلنا فَرْق بين اسم الحرف ومُسمّى الحرف، مُسمّى الباء مثلًا: بَا أو بُو أو بِي أو إبْ في حالة السكون، إنما اسمها: باءٌ مفتوحة، أو مضمومة، أو ساكنة، لكن حين تنطق هذا الحرف في كَتَب مثلًا تقول: كَتَبَ فتنطق مُسمَّى الحرف لا اسمه.
وقُلْنا: في هذه المسألة معانٍ كثيرة، أيسرها: أن القرآن، وهو كلام الله المعجز مُنزَّل من حروف مثل حروفكم التي تتكلمون بها، وكلمات مثل التي في لغتكم، لكن ما الذي جعله متميزًا بالإعجاز عن كلامكم؟ نقول: لأنه كلام الله، هذا هو الفَرْق، أمّا الحروف فواحدة.
ولو تأملتَ لوجدتَ أن الحروف المقطعة في أوائل السور مجموعها أربعة عشر حرفًا، هي نصف الحروف الهجائية، مرة يأتي حرف واحد، ومرة حرفان، ومرة ثلاثة أحرف، ومرة أربعة أحرف، ومرة خمسة أحرف. وهذا يدُّلنا على أن القرآن مُعْجِز، مع أنه بنفس حروفكم، وبنفس كلماتكم.
وسبق أن ضربنا لتوضيح هذه المسألة مثلًا: هَبْ أنك أردت أن تختبر جماعة في إجادة النسج مثلًا، فأعطيت أحدهم صوفًا، وللثاني حريرًا، وللثالث قطنًا، وللرابع كتانًا، فهل تستطيع أن تحكم على دِقَّة نَسْج كل منهم وأيهما أرقّ وأجمل؟ بالطبع لا تستطيع؛ لأن الحرير أنعم وأرقّ من القطن، والقطن أرقّ من الصوف، والصوف أرقّ من الكتان، فإنْ أردتَ تمييز الدقة والمهارة في هذه الصنعة فعليك أنْ تُوحِّد النوع.
إذن: سِرّ الإعجاز في القرآن أن تكون مادته ومادة غيره من الكلام واحدة، حروفًا وكلمات؛ لذلك كثيرًا ما يقول الحق تبارك وتعالى بعد الحروف المقطعة: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} أي: أن الكتاب المبين مُكوَّن من مثل هذه الحروف، ولله تعالى معَانٍ أخرى، فيها مرادات له سبحانه، لعلّ الزمن يكشف لنا عنها، والقرآن كلام الله، وصفاته لا تتناهى في الكمال، فإنِ استطعتَ أن تصف الأشياء، هذا كذا، وهذا كذا فهذه طاقة البشر والعقل البشري. أمّا آيات الله في كتابه المبين فهي الآيات الفاصلة التي لها بَدْء ولها ونهاية، وتتكوّن منها سور القرآن.
ومعنى {المبين} [الشعراء: 2] الواضح المحيط بكل شيء، كما قال سبحانه في آية أخرى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
ثم يقول الحق سبحانه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} هذه هي التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حمّل نفسه في تبليغ الرسالة فوق ما يُطيق، وفوق ما يطلبه الله منه حِِرْصًا منه على هداية الناس، وإرجاعهم إلى منهج الله؛ ليستحقوا الخلافة في الأرض، ولأن من شروط الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك.
والحق تبارك وتعالى يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال له في سورة الكهف: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [لكهف: 6].
كأن ترى ولدك يُرهق نفسه في المذاكرة، فتشفق عليه أنْ يُهلك نفسه، فأنت تعتب عليه لصالحه، كذلك الحق تبارك وتعالى يعتب على رسوله شفقة وخوفًا عليه أنْ يُهلِك نفسه.
ومعنى {بَاخِعٌ} [الشعراء: 3] البخع: الذَّبْح الذي لا يقتصر على قَطْع المرىء والودجين، إنما يبالغ فيه حتى يفصل الفقرات، ويخرج النخاع من بينها، والمعنى: تحزن حزنًا عميقًا يستولي على نفسك حتى تهلك، وهذا يدل على المشقة التي كان يعانيها الرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه له.
وفي موضع آخر، يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] فهذا أمر نهائي واضح، ونَهْي صريح، بعد أنْ لفتَ نظره بالإنكار، فقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} [الشعراء: 3].
وقد نبّه الله تعالى رسوله في عِدّة مواضع حتى لا يُحمِّل نفسه فوق طاقتها، فقال الحق سبحانه وتعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40].
وقال: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22].
وقال: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45].
فالحق تبارك وتعالى يقول لرسوله: يسِّر على نفسك، ولا تُكلِّفها تكليفًا شاقًّا مُضْنيًا، والعتاب هنا لصالح الرسول، لا عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السماء} والآية هنا ليست آيةَ إقناع للعقول، إنما آية تُرْغمهم وتُخضع رقابهم، وتُخضع البنية والقالب، وهذا ليس كلامًا نظريًا يُقال للمكذبين، إنما حقائق وقعتْ بالفعل في بني إسرائيل. واقرأ إنْ شئت قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171].
فأخذوا ما آتيناهم بقوة، لماذا؟ بالآية التي أرغمتهم وأخضعتْ قوالبهم، لكن الحق تبارك وتعالى كما قلنا لا يريد بالإيمان أنْ يُخضع القوالب، إنما يريد أن يُخضع القلوب باليقين والاتباع.
فلو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلهم جميعًا، لا يتخلف منهم أحد، بدليل أنه سبحانه خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وبدليل أنه سبحانه بعث رسلًا وعصمهم، ولم يجعل للشيطان سبيلًا عليهم، وبدليل أن الشيطان بعد أن تعهّد أن يُغوي بني آدم ليكونوا معه سواء في المعصية قال له: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].
والشيطان نفسه يقول: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82- 83].