فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين}.
قال أبو عبيدة: رسول بمعنى رسالة والتقدير على هذا؛ إنا ذوو رسالة رب العالمين.
قال الهذليّ:
أَلِكْنِي إليها وخَيرُ الرَّسُو ** لِ أَعْلَمُهُمْ بنَوَاحِي الخَبَرَ

ألكني إليها معناه أرسلني.
وقال آخر:
لقد كَذَبَ الواشون ما بُحْتُ عندهمْ ** بِسِرٍّ ولا أَرسلتُهمْ برسولِ

آخر:
أَلاَ أَبْلغْ بني عمرو رسولًا ** بأنّي عن فُتَاحَتِكُمْ غنيُّ

وقال العباس بن مرادس:
أَلاَ مَن مُبلِغٌ عنّي خُفَافَا ** رسولًا بيتُ أهلِك مُنْتَهَاها

يعني رسالة فلذلك أنَّثها.
قال أبو عبيد: ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع؛ فتقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي.
ومنه قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77].
وقيل: معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين.
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} أي أطلقهم وخلّ سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين ولا تستعبدهم؛ وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفًا.
فانطلقا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البوّاب على فرعون فقال: هاهنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين.
فقال فرعون: ايذن له لعلنا نضحك منه؛ فدخلا عليه وأديا الرسالة.
وروى وهب وغيره: أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعًا من أسد ونمور وفهودٍ يتفرج عليها، فخاف سواسها أن تبطش بموسى وهارون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال: ما أنتما؟ قالا: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فعرف موسى لأنه نشأ في بيته؛ ف {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} على جهة المنّ عليه والاحتقار.
أي ربيناك صغيرًا ولم نقتلك من جملة من قتلنا {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} فمتى كان هذا الذي تدعيه.
ثم قرره بقتل القبطي بقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} والفَعْلة بفتح الفاء المرة من الفعل.
وقرأ الشعبي: {فِعلتك} بكسر الفاء والفتح أولى؛ لأنها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأن الله أرسلك.
وقال الشاعر:
كأنّ مِشيتَها من بيت جارتِها ** مرُّ السحابةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ

ويقال: كان ذلك أيام الرِّدة والرَّدة.
{وَأَنتَ مِنَ الكافرين} قال الضحاك: أي في قتلك القبطي إذ هو نفس لا يحل قتله.
وقيل: أي بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والإحسان إليك؛ قاله ابن زيد.
الحسن: {مِن الْكَافِرِينَ} في أني إلهك.
السّدي: {مِن الْكَافِرِينَ} بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه.
وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيًّا أحد عشر عامًا غير أشهر.
ف {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذًا} أي فعلت تلك الفعلة يريد قتل القبطي {وَأَنَاْ} إذ ذاك {مِنَ الضالين} أي من الجاهلين؛ فنفى عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل.
وكذا قال مجاهد؛ {مِنَ الضَّالِّينَ} من الجاهلين.
ابن زيد: من الجاهلين بأن الوكزة تبلغ القتل.
وفي مصحف عبد الله {مِن الجاهِلِين} ويقال لمن جهل شيئًا ضل عنه.
وقيل: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} من الناسين؛ قاله أبو عبيدة.
وقيل: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} عن النبوّة ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ.
وبيّن بهذا أن التربية فيهم لا تنافي النبوّة والحلم على الناس، وأن القتل خطأ أو في وقت لم يكن فيه شرع لا ينافي النبوّة.
قوله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي خرجت من بينكم إلى مَدْين كما في سورة القصص: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] وذلك حين القتل.
{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} يعني النبوّة؛ عن السّدي وغيره.
الزجاج: تعليم التوراة التي فيها حكم الله.
وقيل علمًا وفهمًا.
{وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين}.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} اختلف الناس في معنى هذا الكلام؛ فقال السّدي والطّبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة؛ كأنه يقول: نعما وتربيتك نعمة عليّ من حيث عبّدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي.
وقيل: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار؛ أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدًا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟ا أي ليست بنعمة؛ لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي؛ فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص؟ا قال معناه قتادة وغيره.
وقيل: فيه تقدير استفهام؛ أي أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش والفراء أيضًا وأنكره النحاس وغيره.
قال النحاس: وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام أم؛ كما قال الشاعر:
تَرُوحُ من الحيّ أم تَبْتَكِر

ولا أعلم بين النحويين اختلافًا في هذا إلا شيئًا قاله الفراء.
قال: يجوز حذف ألف الاستفهام في أفعال الشك، وحكى تُرَى زيدًا منطلقًا؟ بمعنى أترى.
وكان علي بن سليمان يقول في هذا: إنما أخذه من ألفاظ العامة.
قال الثعلبيّ: قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه أو تلك نعمة؟ على طريق الاستفهام؛ كقوله: {هذا رَبِّي} [الأنعام: 78] {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] قال الشاعر:
رَفَوْنِي وقالوا يا خُوَيلدُ لا تُرَعْ ** فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ هُمُ هُمُ

وأنشد الغزنوي شاهدًا على ترك الألف قولهم:
لم أنس يوم الرحيل وقفتَها ** وجفنها من دموعها شَرِقُ

وقولَها والركابُ واقفةٌ ** تَركتني هكذا وتَنطلقُ

قلت: ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم أم خلاف قول النحاس.
وقال الضحاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام؛ والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي؛ فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به.
وقيل: معناه كيف تمنّ بالتربية وقد أهنت قومي؟ ومن أهين قومه ذل.
و{أَنْ عَبَّدْتَ} في موضع رفع على البدل من {نِعْمَة} ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى: لأن عبدت بني إسرائيل؛ أي اتخذتهم عبيدًا.
يقال: عبدته وأعبدته بمعنى؛ قاله الفراء وأنشد:
عَلاَمَ يُعبِدُنِي قومي وقد كَثُرَت ** فيهم أَباعِرُ ما شاءوا وعِبْدانُ

. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقوله: {فاذهبا}، أمر لهما بخطاب لموسى فقط، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع، ولكنه قال لموسى: {اذهب أنت وأخوك} قال الزمخشري: جمع الله له الاستجابتين معًا في قوله: {كلا فاذهبا}، لأنه استدفعه بلاءهم، فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس المؤازرة بأخيه، فأجابه بقوله: اذهب، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون.
فإن قلت: علام عطف قوله اذهبا؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه كلا، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت وهارون بآياتنا، يعم جميع ما بعثهما الله به، وأعظم ذلك العصا، وبها وقع العجز.
قال ابن عطية: ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلفها، وأن هارون كان نبيًا رسولًا معينًا له ووزيرًا. انتهى.
ومعكم، قيل: من وضع الجمع موضع المثنى، أي معكما.
وقيل: هو على ظاهره من الجمع، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه.
وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى، والخطاب لموسى وهارون فقط، قال: لأن لفظة مع تباين من يكون كافرًا، فإنه لا يقال الله معه.
وعلى أنه أريد بالجمع التثنية، حمله سيبويه رحمه الله وكأنهما لشرفهما عند الله، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع، إذ كان ذلك جائزًا أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته.
قال ابن عطية: {مستمعون} اهتبالًا، ليس في صيغة سامعون، وإلا فليس يوصف الله تعالى بطلب الاستماع، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى، أو يكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع.
وقال الزمخشري: {معكم مستمعون} من مجاز الكلام، يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه. انتهى.
ويجوز أن يكون معه متعلقًا بمستمعون، وأن يكون خبرًا، ومستمعون خبر ثان.
والمعية هنا مجاز، وكذلك الاستماع، لأنه بمعنى الإصغاء، ولا يلزم من الاستماع السماع، تقول: أسمع إليه، فما سمع واستمع إليه، فسمع كما قال: {استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا} وأفرد رسول هنا ولم يثن، كما في قوله: {إنا رسولا ربك} إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة، فجاز أن يقع مفردًا خبر المفرد فما فوقه، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة، فكأنهما رسول واحد.