فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}.
التفسير:
لما أمر في الآية المتقدمة بالتقوى، أمر في هذه الآية بأشق أقسامها على النفس وهو المقاتلة في سبيل الله. عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يقاتل في سبيل الله فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا يقاتل رياء ولا سمعة» {الذين يقاتلونكم} الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين أعني الذين هم بصدد القتال بالفعل دون التاركين. قيل: وعلى هذا يكون منسوخًا بقوله: {وقاتلوا المشركين كافة} [التوبة: 36] ومنع بأن الأمر بقتال من يقاتل لا يدل على المنع من قتال من لا يقاتل. وكذا ما روي عن الربيع بن أنس: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف. أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أي المستعدين للقتال سوى من جنح للسلم، أو الكفرة كلهم لأنهم جميعًا مضادون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم مستحلون لها فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقيل في سبب نزول الآية إنه صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه لإرادة الحج، فلما نزل بالحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء صدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهرًا لا يقدر على ذلك، فصالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل ويتركوا له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدى ويفعل ما يشاء، فرضي صلى الله عليه وسلم بذلك وصالحهم عليه وعاد إلى المدينة. وتجهز في السنة القابلة ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم. وكانوا كارهين لقتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم. فأنزل الله هذه الآيات وبيّن له كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها فقال: {وقاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا} بابتداء القتال. وإنما كان ذلك في أول الأمر لقلة المسلمين ولكون الصلاح في استعمال الرفق واللين، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع وأقام من أقام منهم على الشرك بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حصل اليأس من إسلامهم، فأمروا بالقتال على الإطلاق.
أو لا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من غير المستعدين كالنساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد، أو بالمثلة، أو المفاجأة من غير دعوة إلى الإسلام. وهذه المعاني الثلاثة بإزاء التفاسير الثلاثة في {الذين يقاتلونكم}.
{إن الله لا يحب المعتدين} المتجاوزين عما شرع الله لهم. في الصحاح: ثقفته أي صادفته. وفي الكشاف، الثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجل ثقف أي سريع الأخذ لأقرانه قال:
فإما تثقفوني فاقتلوني ** فمن أثقف فليس إلى خلود

أمر في الآية الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على القتال، وفي هذه الآية زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا. واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام، وسمي حرامًا لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما منع من فعله وأصل الحرمة المنع {من حيث أخرجوكم} أي من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح. أو أخرجوهم من منازلهم كما أخرجوكم من منازلكم، وقد أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين من المدينة بل قال: «لا يجمع دينان في جزيرة العرب» والمراد بالإخراج تكليفهم الخروج قهرًا أو تخويفهم وتشديد الأمر عليهم حتى اضطروا إلى الخروج {والفتنة} عن ابن عباس أنها الكفر بالله لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج وفيه الفتنة. وأيضًا الكفر ذنب يستحق العقاب الدائم بالاتفاق والقتل ليس كذلك والكفر يخرج به صاحبه عن الأمة دون القتل.
روي أن صحابيًا قتل رجلًا من الكفار في الشهر الحرام فعابه المؤمنون على ذلك فنزلت. أن لا تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك. وقيل الفتنة أصلها عرض الذهب على النار للخلاص من الغش، ثم صار اسمًا لكل محنة. والمعنى إن إقدام الكفار على تخويف المؤمنين وعلى تشديد الأمر عليهم حتى صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والأوطان هربًا من إضلالهم في الدين وإبقاء على مهجهم وحرمهم، أشد من القتل الذي أوجبته عليكم جزاء عن تلك الفتنة لأنه يقتضي التخلص، من غموم الدنيا وآفاتها.
لقتل بحد السيف أهون موقعًا ** على النفس من قتل بحد فراق

وقيل: الفتنة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل: اقتلوهم حيث ثقفتموهم، واعلموا أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه قال عز من قائل: {يوم هم على النار يفتنون} [الذاريات: 13] وقيل: فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام لأنه سعي في المنع عن الطاعة التي ما خلق الجن والإنس إلا لها، أشد من قتلكم إياهم في الحرم.
وقيل: ارتداد المؤمن أشد من أن يقتل محقًا. فالمعنى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم من أن ترتدوا على أدباركم أو تتكاسلوا عن طاعة معبودكم. يروى أن الأعمش قال لحمزة: أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولًا فبعد ذلك كيف يصير قاتلًا لغيره؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا، وإذا ضرب منهم واحد قالوا ضربنا، وذلك أن وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم. {فإن انتهوا} قيل: أي عن القتال لأن المقصود من الإذن في القتال منع المقاتلة عن ابن عباس. وقيل: أي عن الشرك بدليل قوله: {فإن الله غفور رحيم} الدال على أنه يغفر لهم ويرحهم والكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال بل بترك الكفر، عن الحسن. قلت: إن أريد بالقتال استحلالهم قتل المسلمين تلازم القولان، والانتهاء عن الكفر ظاهره التلفظ بكلمة الإسلام وأنه مؤثر في حقن الدم وعصمة المال، وباطنه هو التشبث بأركان الإسلام جميعًا ويؤثر في استحقاق الرحمة والغفران. وقد يستدل بقوله: {والفتنة أشد من القتل} على أن التوبة عن قتل العمد بل من كل ذنب. مقبولة لأن الشرك أعظم الذنوب، فإذا قبل الله تعالى توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى. وأيضًا الكافر القاتل مقبول التوبة بالاتفاق إذا أسلم، فالقاتل غير الكافر أولى. ويمكن أن يجاب بأن حق الله تعالى مبني على المساهلة فظهر الفرق. وأيضًا الإيمان يجب ما قبله، فلا يلزم من عدم مؤاخذة الكافر بقتله إذا أسلم أن لا يؤاخذ المسلم بقتله، ولهذا يجب قضاء الصلوات الفائتة على المسلم إذا تاب عن ترك الصلاة، ولا يجب على الكافر إذا أسلم.
قوله تعالى: {وقاتلوهم} وقيل: إنه ناسخ لقوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} وهو وهم لأن البداءة بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته. غاية ما في الباب أن هذه الآية عامة وما قبلها مخصصة إياها وهذا جائز، فإن القرآن ليس على ترتيب النزول، ولو كان على الترتيب أيضًا فلا يضرنا لجواز نزول الخاص قبل العام عندنا وذلك أن الخاص قاطع في دلالته تقدم أو تأخر، والعام دلالته على ما يدل عليه الخاص غير مقطوع بها فلابد من التخصيص جمعًا بينهما {حتى لا تكون فتنة} قيل: أي شرك وكفر. وعلى هذا فالآية محمولة على الأغلب. فإن قتالهم لا يزيل الكفر رأسًا، وإنما الغالب الإزالة لأن من قتل منهم فقد زال كفره ومن لم يقتل كان خائفًا من الثبات على كفره. والحاصل قاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وهو المراد أيضًا من قوله: {ويكون الدين لله} أي ليس للشيطان فيه نصيب لوضوح شأنه وسطوع برهانه كما قال تعالى: {ليظهره على الدين كله} [الصف: 9] ولا يعبأ بالمخالف لقلة شوكته وسقوطه عن درجة الاعتداد به، أو محمولة على قصد إزالة الكفر فترتب هذا العزم على القتال كلي لا يتخلف عنه. وقيل: فتنتهم أنهم كانوا يضربون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذونهم حتى ذهب بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة، أي قاتلوهم حتى تظهروا عليهم ولا يفتنوكم عن دينكم. وعن أبي مسلم: معناه قاتلوهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدأوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار. ولا يخفى أن قوله: {ويكون الدين لله} يرجح القول الأول ليكون المعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويظهر الإسلام {فإن انتهوا} عن الأمر الذي وجب قتالهم لأجله وهو إما الكفر أو القتال {فلا عدوان إلاّ على الظالمين} أي فلا تعدوا على المنتهين فيكون مجموع قوله: {إلاّ على الظالمين} قائمًا مقام على المنتهين. لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فنهوا عنه بدليل انحصاره في غير المنتهين. أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين. وعلى الوجهين سمي جزاء الظلم ظلمًا للمشاكلة كما يجيء في قوله تعالى: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} أو أريد إنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيتسلط عليكم من يعدو عليكم. قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة سنة ست من الهجرة وصدّوهم عن البيت. فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذاك في ذي القعدة سنة سبع {الشهر الحرام بالشهر الحرام} أي هذا الشهر بذاك الشهر، وهتكه بهتكه. فلما لم تمنعكم حرمته عن الكفر والأفعال القبيحة فكيف تمنعنا عن القتال معكم دفعًا لشروركم وإصلاحًا لفسادكم؟ والحرمة ما لا يحل انتهاكه، والقصاص المساواة أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أيّ حرمة كانت، اقتص منه بأن يهتك له حرمة. والحرمات الشهر الحرام والبيت الحرام والإحرام، فلما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وفقتكم حتى قضيتموها على رغمهم في سنة سبع، وإن أقدموا على مقاتلتكم فقد أذنت لكم في قتالهم فافعلوا بهم مثل ما فعلوا ولا تبالوا. ثم أكد ذلك بقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله} حين تنتصرون ممن اعتدى عليكم حتى لا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم {واعلموا أن الله مع المتقين} بالنصر والتأييد والتقوية والتسديد، فإن الاستصحاب بالعلم أو بالمكان إن جاز شامل للمتقين وغيرهم.
قوله عز من قائل: {وأنفقوا} وجه اتصاله بما قبله أنه تعالى لما أمر بالقتال وأنه يفتقر إلى العدد والعدد قد يكون ذو المال عاجزًا عن القتال، وقد يكون القوي على القتال عديم المال فلهذا أمر الله الأغنياء بالإنفاق في سبيله إعدادًا للرجال وتجهيزًا للأبطال ويروى أنه لما نزل: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} قال رجل من الحاضرين: والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا.
فأمر صلى الله عليه وسلم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة ولو بمشقص يحمل في سبيل الله فيهلكوا فنزلت هذه الآية على وفق قول الرسول صلى الله عليه وسلم. والإنفاق صرف المال في وجوه المصالح. فلا يقال للمضيع: إنه منفق وإنما يقال: مبذر. وسبيل الله دينه فيشمل الإنفاق فيه الإنفاق في الحج والعمرة والجهاد والتجهيز والإنفاق في صلة الرحم وفي الصدقات أو على العيال أو في الزكاة والكفارات أو في عمارة بقاع الخير وغير ذلك. الأقرب في هذه الآية. وقد تقدم ذكر القتال. أن يراد به الإنفاق في الجهاد، ولكنه تعالى عبر عنه بقوله: {في سبيل الله} ليكون كالتنبيه على السبب في وجوب هذا الإنفاق. فالمال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز نفسه ونشط وهان عليه ما دعي إليه. والباء في {بأيديكم} مزيدة مثلها في أعطى بيده للمنقاد والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل: الأيدي الأنفس كقوله: {فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] {بما قدمت يداك} [الأنفال: 51] أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. وقيل: بل هاهنا حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده إذا تسبب لهلاكها.
عن أبي عبيدة والزجاج: إن التهلكة والهلاك والهلك واحد. لم يوجد مصدر على تفعلة بضم العين سوى هذا، إلا ما حكاه سيبويه من قولهم التضرة والتسرة ونحوها في الأعيان التنضبة لشجر والتتفلة لولد الثعلب. ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة بالكسر كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر من هلك مشدد العين، فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار. وليس الغرض من هذا التكلف على ما ظن تصحيح لفظ القرآن كيلا تنخرم فصاحته فإنه أجل من أن يحتاج في تصحيحه إلى الاستشهاد بكلام الفصحاء من البشر، وكيف لا وهو حجة على غيره وليس لغيره أن يكون حجة عليه. وإنما الغرض الضبط والتسهيل ما أمكن فتنبه. وللمفسرين في هذا الإلقاء خلاف فمنهم من قال إنه راجع إلى الإنفاق. وروى البخاري في صحيحه عن حذيفة قال: نزلت هذه الآية في النفقة. وذلك أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم، أو ينفقوا كل مالهم فيحتاجوا ويجتاحوا فيكون نهيًا عن التقتير والإسراف وعنهما جميعًا {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا} [الفرقان: 67] أو المعنى: أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إن أنفقنا نهلك ذلًا وفقرًا.
نهوا عن أن يحكموا على أنفسهم بالهلاك للإنفاق، أو أنفقوا ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط منا أو أذى أو رياء وسمعة مثل {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33] ومنهم من قال: إنه راجع إلى غير الإنفاق أي لا تخلوا بالجهاد فتتعرضوا للهلاك الذي هو سخط الله وعذاب النار، أو لا تقحموا في الحرب حيث لا ترجون النفع ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل كما روي عن البراء بن عازب أنه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقتل بين الصفين. وإنما يجب أن يتقحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل.
روى الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله إن قُتلتُ صابرًا محتسبًا؟ قال: «لك الجنة». فانغمس في جماعة العدو فقتلوه.
وأن رجلًا من الأنصار ألقى درعًا كان عليه حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجنة. ثم انغمس في العدو فقتلوه بين يدي الرسول.
وروي أن رجلًا من الأنصار تخلف من أصحاب بئر معونة فرأى الطير عكوفًا على من قتل من أصحابه. فقال لبعض من معه: سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ففعل ذلك. فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولًا حسنًا.
وروى أسلم أبو عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفًا عظيمًا من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس، إنكم تؤوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرًا دون النبي صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه. فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. وقيل: إن الآية من تمام ما قبلها أي إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فإن الحرمات قصاص، ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال.
وعن النعمان بن بشير: كان الرجل يذنب فيقول: لا يغفر لي فأنزل الله تعالى هذه الآية. وذلك أنه يرى أنه لا ينفعه معه عمل فيترك العبودية ويصر على الذنب فنهى عن القنوط من رحمة الله {وأحسنوا} في الإنفاق بأن يكون مقرونًا بطلاقة الوجه أو على قضية العدالة بين التقتير والإسراف أو في فرائض الله عن الحسن {إن الله يحب المحسنين} إذ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وهذا مقام القرب، والقرب يقتضي الإرادة الذاتية وهذا رمز والله ولي كل خير. اهـ.