فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

والفاء في قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الوعد الكريم، وليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب لأن معناه الوصول إلى المأتي لا مجرد التوجه إلى المأتي كالذهاب.
وأفرد الرسول هنا لأنه مصدر بحسب الأصل وصف به كما يوصف بغيره من المصادر للمبالغة كرجل عدل فيجري فيه كما يجري فيه من الأوجه، ولا يخفى الأوجه منها، وعلى المصدرية ظاهر قول كثير عزة:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ** بسر ولا أرسلتهم برسول

وأظهر منه قول العباس بن مرداس:
إلا من مبلغ عنى خفافا ** رسولًا بيت أهلك منتهاها

أو لاتحادهما للأخزة أو لوحدة المرسل أو المرسل به أو لأن قوله تعالى: {أَنَاْ} بمعنى إن كلامنا فصح إفراد الخبر كما يصح في ذلك، وفائدته الإشارة إلى أن كلًا منهما مأمور بتبليغ ذلك ولو منفردًا، وفي التعبير برب العالمين رد على اللعين ونقض لما كان أبرمه من ادعاء الألوهية وحمل لطيف له على امتثال الأمر، و{إن} في قوله تعالى: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل} مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، وجوز أبو حيان كونها مصدرية على معنى أنا رسوله عز وجل بالأمر بالإرسال وهو بمعنى الإطلاق والتسريح كما في قولك: أرسلت الحجر من يدي وأرسل الصقر، والمراد خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما عليهما السلام، وكان بنو إسرائيل قد استعبدوا أربعمائة سنة وكانت عدتهم حين أرسل موسى عليه السلام ستمائة وثلاثين ألفًا على ما ذكره البغوي.
{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)}.
{قَالَ} أي فرعون لموسى عليه السلام بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به، ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هاهنا إنسانًا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه فأذن له فدخلا فاديًا إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فقال عند ذلك: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيدًا} وفي خبر آخر أنهما أتيا ليلًا فقرع الباب ففزع فرعون وقال: من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى: إنا رسول رب العالمين فأتى فرعون وقال: إن هاهنا إنسانًا مجنونًا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال: أدخله فدخل فقال ما قص الله تعالى، وأراد اللعين من قوله: {أَلَمْ نُرَبّكَ} الخ الامتنان، و{فِينَا} على تقدير المضاف أي منازلنا، والوليد فعيل بمعنى مفعول يقال لمن قرب عهده بالولادة، وإن كان على ما قال الراغب: يصح في الأصل لمن قرب عهده أو بعد كما يقال لما قرب عهده بالاجتناء جنى فإذا كبر سقط عنه هذا الاسم، وقال بعضهم: كان دلالته على قرب العهد من صيغة المبالغة، وكون الولادة لا تفاوت فيها نفسها {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} قيل: لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين وأقام به عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين، وقيل: لبث فيهم اثنتي عشرة سنة ففر بعد أن وكز القبطي إلى مدين فأقام به عشر سنين يرعى غنم شعيب عليه السلام ثم ثماني عشرة سنة بعد بنائه على امرأته بنت شعيب فكمل له أربعون سنة فبعثه الله تعالى وعاد إليهم يدعوهم إليه عز وجل والله تعالى أعلم.
وقرأ أبو عمرو في رواية {مِنْ عُمُرِكَ} بإسكان الميم، والجار والمجرور في موضع الحال من {سِنِينَ} كما هو المعروف في نعت النكرة إذا قدم.
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} يعني قتل القبطي وبخه به بعد ما امتن وعظمه عليه بالإبهام الذي في الموصول، وأراد في ذلك القدح في نبوته عليه السلام.
وقرأ الشعبي {فَعْلَتَكَ} بكسر الفاء يريد الهيئة وكانت قتلة بالوكز، والفتح في قراءة الجمهور لإرادة المرة {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} أي بنعمتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي كما روي عن ابن زيد أو وأنت حينئذٍ من جملة القوم الذين تدعي كفرهم الآن كما حكي عن السدي، وهذا الحكم منه بناءً على ما عرفه من ظاهر حاله عليه السلام إذ ذاك لاختلاطه بهم والتقية معهم بعدم الإنكار عليهم وإلا فالأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها، وقيل: كان ذلك افتراء منه عليه عليه السلام، واستبعد بأنه لو علم بإيمانه أولًا لسجنه أو قتله، والجملة على الاحتمالين في موضع الحال من إحدى التائين في الفعلين السابقين.
وجوز أن يكون ذلك حكمًا مبتدأ عليه عليه السلام بأنه من الكافرين بإلهيته كما روي عن الحسن أو ممن يكفرون في دينهم حيث كانت لهم آلهة يعبدونهم أو من الكافرين بالنعم المعتادين لغمطها ومن اعتاد ذلك لا يكون مثل هذه الجناية بدعًا منه، فالجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها، والأولى عندي ما تقدم من جعل الجملة حالًا لتكون مع نظيرتها في الجواب على طرز واحد لتعين الحالية هناك ولما يتضمن كلام اللعين أمرين تصدى عليه السلام لردهما على سبيل اللف والنشر المشوش فرد أولًا ما وبخه به قدحًا في نبوته أعني قوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} الخ اعتناءً بذلك واهتمامًا به وذلك بما حكاه سبحانه عنه بقوله جل وعلا: {قَالَ فَعَلْتُهَا} أي تلك الفعلة {إِذَا} أي إذ ذاك على ما آثره بعض المحققين سقي الله تعالى ثراه من أن {إِذَا} ظرف مقطوع عن الإضافة مؤثرًا فيه الفتحة على الكسرة لخفتها وكثرة الدور، وأقر عليه السلام بالقتل لثقته بحفظ الله تعالى له، وقيد الفعل بما يدفع كونه قادحًا في النبوة وهو جملة {وَأَنَاْ مِنَ} أي من الجاهلين وقد جاء كذلك في قراءة ابن عباس وابن مسعود كما نقله أبو حيان في البحر لكنه قال: ويظهر أن ذاك تفسير للضالين لا قراءة مريوة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأراد عليه السلام بذلك على ما روي عن قتادة أنه فعل ذلك جاهلًا به غير متعمد إياه فإنه عليه السلام إنما تعمد الوكز للتأديب فأدى إلى ما أدى، وفي معنى ما ذكر ما روي عن ابن زيد من أن المعنى وأنا من الجاهلين بأن وكزتي تأتي على نفسه، وقيل: المعنى فعلتها مقدمًا عليها من غير مبالاة بالعواقب على أن الجهل بمعنى الإقدام من غير مبالاة كما فسر بذلك في قوله:
ألا لا يجلهن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وهذا مما يحسن على بعض الأوجه في تقرير الجواب المذكور، قيل: إن الضلال هاهنا المحبة كما فسر بذلك في قوله تعالى: {تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} [يوسف: 95] وعنى عليه السلام أنه قتل القبطي غيرة لله تعالى حيث كان عليه السلام من المحبين له عز وجل وهو كما ترى، ومثله ما قيل أراد من الجاهلين بالشرائع، وفسر الضلال بذلك في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فهدى} [الضحى: 7]، وقال أبو عبيدة: من الناسين، وفسر الضلال بالنسيان في قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى} [البقرة: 282] وعليه قيل المراد فعلتها ناسيًا حرمتها، وقيل: ناسيًا أن وكزي ذلك مما يفضي إلى القتل عادة؛ والذي أميل إليه من بين هذه الأقوال ما روي عن قتادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة القصص ما يتعلق بهذا المقام.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن جريج عن ابن مسعود أنه قرأ: {فَعَلْتُهَا وَأَنَاْ مِنَ الضالين}.
{فَفَرَرْتُ} أي خرجت هاربًا {مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي حين توقعت مكروهًا يصيبني منكم وذلك حين قيل له: {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} [القصص: 20] ومن هنا يعلم وجه جمع ضمير الخطاب، وقرأ حمزة في رواية لما بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام حرف جر وما مصدرية أي لخوفي إياكم {فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْمًا} أي نبوة أو علمًا وفهمًا للأشياء على ما هي عليه والأول مروى عن السدي، وتأول بعضهم ذلك بأنه أراد علمًا هو من خواص النبوة فيكون الحكم بهذا المعنى أخص منه بالمعنى الثاني، وقرأ عيسى {حُكْمًا} بضم الكاف {وَجَعَلَنِى مِنَ المرسلين} إشارة على ظاهر الأول من تفسيري الحكم إلى تفضله تعالى عليه برتبة هي فوق رتبة النبوة أعني رتبة الرسالة ولم يقل فوهب لي ربي حكمًا ورسالة أو وجعلني رسولًا إعظامًا لأمر الرسالة وتنبيهًا لفرعون على أن رسالته عليه السلام ليس أمرًا مبتدعًا بل هو مما جرت به سنة الله تعالى شأنه، وحاصل الرد أن ما ذكرت من نسبة القتل إلى مسلم لكنه ليس مما أوبخ به ويقدح في نبوتي لأنه كان قبل النبوة من غير تعمد حيث كان الوكز للتأديب وترتب عليه ذلك، ورد ثانيًا امتنانه الذي تضمنه قوله: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18] الخ فقال: {وَتِلْكَ} أي التربية المفهومة من قوله: {أَلَمْ نُرَبّكَ} [الشعراء: 18] الخ {نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} أي تنعم بها {عَلَىَّ} فهو من باب الحذف والإيصال، وتمن من المنة بمعنى الإنعام والمضارع لاستحضار الصورة، وجوز أن يكون من المن والمعنى تلك نعمة تعدها علي فليس هناك حذف وإيصال، والمضارع قيل على ظاهره من الاستقبال وفيه منع ظاهر {أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إسرائيل} أي ذللتهم واتخذتهم عبيدًا يقال: عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدًا قال الشاعر:
علام يعبدني قومي وقد كثرت ** فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان

وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة حالية أو مفسرة أو على أنه بدل من {تِلْكَ} أو نعمة أو عطف أو منصوب على أنه بدل من الهاء في {تَمُنُّهَا} أو مجرور بتقدير الباء السببية أو اللام على أحد القولين في محل أن وما بعدها بعد حذف الجار، والقول الآخر أن محله النصب، وحاصل الرد إن ما ذكرت نعمة ظاهرًا وهي في الحقيقة نقمة حيث كانت بسبب إذلال قومي وقصدك إياهم بذبح أبنائهم ولولا ذلك لم أحصل بين يديك ولم أكن في معهد تربيتك، وقيل: {تِلْكَ} إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بتفسيرها و{أَنْ عَبَّدتَّ} عطف بيان لها، والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي، وحاصل الرد إنكار ما امتن به أيضًا.
ويريد حمل الكلام على رد كون ذلك نعمة في الحقيقة قراءة الضحاك {وتلك نعمة مالك أن تمنها علي}، وإلى ذلك ذهب قتادة وكذا الأخفش والفراء إلا أنهما قالا بتقدير همزة الاستفهام للإنكار بعد الواو، والأصل وأتلك نعمة الخ، وأبى بعض النحاة حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع.
قال أبو حيان: الظاهر أن هذا الكلام إقرار منه عليه السلام بنعمة فرعون كأنه يقال: وتربيتك إياي نعمة على من حيث أنك عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدًا لكن لا يدفع ذلك رسالتي وإلى هذا التأويل ذهب السدي والطبري ولس بذاك وأيًا ما كان فالآية ظاهرة في أن كفر الكافر لا يبطل نعمته.
وذهب بعضهم أن الكفر يبطل النعمة لئلا يجتمع استحقاق المدح واستحقاق الذم، وفيه أنه لا ضير في ذلك لاختلاف جهتي الاستحقاقين.
هذا وذهب الزمخشري إلى أن {إِذَا} في قوله تعالى {فَعَلْتُهَا إِذًا} [الشعراء: 20] جواب وجزاء بين وجه كون الكلام جزاء بقوله: قول {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} [الشعراء: 19] فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت فقال له موسى عليه السلام: نعم فعلتها مجازيًا لك تسليمًا لقوله كان نعمته عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء.
واعترض بأن هذا لا يلائم قوله: {وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] لأنه يدل على أنه اعترف بأنه فعل ذلك جاهلًا أو ناسيًا.
وفي الكشف تحقيق ما ذكره الزمخشري أن الترتيب الذي هو معنى الشرط والجزاء حاصل ولما كانا ماضيين كان ذلك تقديريًا كأنه قال: إن كان ذلك كفرانًا بنعمتك فقد فعلته جزاء، ولكن الوصف أي كونه كفرانًا غير مسلم.
وأمده بقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} وفيه القول بالموجب أيضًا.
وقوله: {وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] على هذا كأنه اعتذار ثان أي كنت تستحق ذلك عندي وأيضًا كنت من الحائدين عن منهج الصواب لا في اعتقاد استحقاق مكافأة صنيعك بمثل تلك ولكن في الإقدام قبل الإذن من الملك العلام، والحاصل أنه نسبه إلى مقابلة الإحسان بالإساءة وقررها بكونه كافرًا، فأجاب عليه السلام بأن المقابلة حاصلة ولكن أين الإحسان وما كنت كافرًا بك فإنه عين الهدى بل ضالًا في الإقدام على الفعل وما كنت كافرًا لنعمة منعم أصلًا ولكن كنت فاعلًا لذلك خطأ، ومنه ظهر أن قوله: {وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] لا ينافي تقرير الزمخشري بل يؤيده. اهـ.
ولا يخفى أن الأوفق بحديث الجزاء أن يكون المراد بقوله: فعلتها وأنا من الضالين فعلتها مقدمًا عليها من غير مبالاة على أن الضلال بمعنى الجهل المفسر بالإقدام من غير مبالاة لكن التزام كون {إِذَا} هنا للجواب والجزاء التزام ما لا يلزم فإن الصحيح الذي قال به الأكثرون أنها قد تتمحض للجواب، وفي البحر أنهم حملوا ما في هذه الآية على ذلك، وتوجيه كونها للجزاء فيها بما ذكر لا يخلو عن تكلف، والأظهر عندي معنى ما آثره بعض أفاضل المحققين من أنها ظرف مقطوع عن الإضافة ولا أرى فيه ما يقال سوى أنه معنى لم يذكره أكثر علماء العربية.
وهم لم يحيطوا بكل شيء علمًا، وإن أبيت هذا فهي للجواب فقط، ومن العجيب قول ابن عطية: إنها هنا صلة في الكلام ثم قوله: وكأنها بمعنى حينئذٍ ولو اكتفى به على أنه تفسير معنى لكان له وجه فتأمل، والله تعالى أعلم. اهـ.