فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)}.
والرسول: فَعُول بمعنى مُفعَل، أي مُرسل.
والأصل فيه مطابقة موصوفه، بخلاف فعول بمعنى فاعل فحقه عدم المطابقة سماعًا، وفعول بمعنى اسم المفعول قليل في كلامهم ومنه: بقرة ذَلول، وقولهم: صَبُوح، لما يشرب في الصباح، وغبوق، لما يشرب في العشي، والنَّشوق، لما ينشق من دواء ونحوه.
ولكن رسول يجوز فيه أن يُجرى مجرى المصدر فلا يطابق ما يجري عليه في تأنيث وما عدا الإفراد، وورد في كلامهم بالوجهين تارة مُلازمًا الإفراد والتذكير كما في هذه الآية، وورد مطابقًا كما في قوله تعالى: {فقولا إنّا رسولا ربك} في سورة [طَه: 47]، فذهب الجوهري إلى أنه مشترك بين كونه اسمًا بمعنى مَفعول وبين كونه اسم مصدر ولم يجعله مصدرًا إذ لا يعرف فعول مصدرًا لغير الثلاثي، واحتج بقول الأشْعَر الجعفي:
ألاَ أَبلِغ بني عَمرو رسولًا ** بأني عن فُتاحتِكُم غَنِيُّ

الفتاحة: الحكم.
وتبعه الزمخشري في هذه الآية إذ قال: الرسول يكون بمعنى المرسَل وبمعنى الرسالة فجُعل ثَمَّ أي في قوله: {إنا رسولا ربّك} في سورة [طه: 47] بمعنى المرْسَل، وجُعل هنا بمعنى الرسالة.
وقد قال أبو ذؤيب الهذلي:
ألِكْنِي إليها وخير الرسُو ** ل أعلَمُهُم بنواحي الخبر

فهل من ريبة في أن ضمير الرسول في البيت مراد به المرسلون.
وتصريح النحاة بأن فَعولًا الذي بمعنى المفعول يجوز إجراؤه على حالة المتّصِففِ به من التذكير والتأنيث فيجوز أن تقول: ناقَة رَكُوبة ورَكُوب، يقتضي أن التثنية والجمعَ فيه مثل التأنيث.
وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في سورة طه وأحلنا تحقيقه على ما هنا.
ومبادأة خطابهما فرعونَ بأن وصفا الله بصفة ربّ العالمين مجابهة لفرعون بأنه مربوب وليس بربّ، وإثبات ربوبية الله تعالى للعالمين.
والنفي يقتضي وحدانية الله تعالى لأن العالمين شامل جميعَ الكائِنات فيشمل معبودات القبط كالشمس وغيرها، فهذه كلمة جامعة لما يجب اعتقاده يومئذ.
وجملة: {أن أرسل معنا بني إسرائيل} تفسيرية لما تضمنه {رسُول} من الرسالة التي هي في معنى القول، أي هذا قول ربّ العالمين لك.
و{أَرْسِل معنا} أَطلِقْ ولا تحبسهم، فالإرسال هنا ليس بمعنى التوجيه.
وهذا الكلام يتضمن أن موسى أُمر بإخراج بني إسرائيل من بلاد الفراعنة لقصد تحريرهم من استعباد المصريين كما سيأتي عند قوله تعالى: {أن عبَّدْتَ بني إسرائيل} [الشعراء: 22]، وقد تقدم في سورة البقرة بيان أسباب سكنى بني إسرائيل بأرض مصر ومواطنهم بها وعملهم لفرعون.
{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)}.
طوي من الكلام ذهاب موسى وهارون إلى فرعون واستئذانهما عليه وإبلاغهما ما أمرهما الله أن يقولا لفرعون إيجازًا للكلام.
ووجَّه فرعون خطابه إلى موسى وحده لأنه علم من تفصيل كلام موسى وهارون أن موسى هو الرسول بالأصالة وأن هارون كان عونًا له على التبليغ فلم يشتغل بالكلام مع هارون.
وأعرض فرعون عن الاعتناء بإبطال دعوة موسى فعدل إلى تذكيره بنعمة الفراعنة أسلافه على موسى وتخويفه من جنايته حسبانًا بأن ذلك يقتلع الدعوة من جذمها ويكف موسى عنها، وقصدُه من هذا الخطاب إفحام موسى كي يتلعثم من خشيةِ فرعون حيث أوجد له سببًا يتذرع به إلى قتله ويكون معذورًا فيه حيث كفر نعمة الولاية بالتربية، واقترف جرم الجناية على الأنفس.
والاستفهام تقريري، وجعل التقرير على نفي التربية مع أن المقصود الإقرار بوقوع التربية مجاراة لحال موسى في نظر فرعون إذ رأى في هذا الكلام جرأة عليه لا تناسب حال مَن هو ممنون لأُسرته بالتربية لأنها تقتضي المحبة والبر، فكأنه يرخي له العنان بتلقين أن يجحد أنه مربًّى فيهم حتى إذا أقر ولم ينكر كان الإقرار سالمًا من التعلل بخوف أو ضغط، فهذا وجه تسليط الاستفهام التقريري على النفي في حينَ أن المقرر به ثابت.
وهذا كما تقول للرجل الذي طال عهدك برؤيته: ألستَ فلانًا، ومثله كثير.
ومنه قول الحجاج في خطبته يوم دَيْر الجماجم يهدد الخوارج ألستُم أصحابِي بالأهواز.
والتقرير مستعمل في لازمه وهو أن يقابل المقرَّر عليه بالبر والطاعة لا بالجفاء، ويجوز أن يجعل الاستفهام إنكاريًا عليه لأن لسان حال مُوسى في نظر فرعون حال من يجحد أنه مربًّى فيهم ومن يظن نِسيانهم لفعلته فأنكر فرعون عليه ذلك، وكلا الوجهين لا يخلو من تنزيل موسى منزلة من يجحد ذلك.
والتربية: كفالة الصبي وتدبير شئونه.
ومعنى {فينا} في عائلتنا، أي عائلة ملك مصر.
والوليد: الطفل من وقت ولادته وما يقاربها فإذا نمى لم يُسم وليدًا وسمي طفلًا، ويعني بذلك التقاطه من نهر النيل.
وذلك أن موسى ربّي عند رعمسيس الثاني من ملوك العائلة التاسعة عشرة من عائلات فراعنة مصر حسب ترتيب المحققين من المؤرخين.
وخرج موسى من مصر بعد أن قتل القبطّي وعمرُه أربعون سنة لقوله تعالى: {ولما بلغ أشُدَّه واستوى أتيناه حكمًا} إلى قوله: {ودخل المدينة} [القصص: 14، 15] الآية وبُعث وعمرُه ثمانون سنة حسبما في التوراة.
وكان فرعون الذي بعث إليه موسى هو منفتاح الثاني ابن رعمسيس الثاني وهو الذي خلفه في الملك بعد وفاته أواسط القرن الخامس عشر قبل المسيح، فلا جرم كان موسى مربّى والده، فلذلك قال له: ألم نُرَبِّك فينا وليدًا، ولعله رُبِّيَ مع فرعون هذا كالأخ.
والسنين التي لبثها موسى فيهم هي نحو أربعين سنة.
والفَعْلة: المرة الواحدة من الفِعل، وأراد بها الحاصل بالمصدر كما اقتضته إضافتها إلى ضمير المخاطب، وأراد بالفعلة قتلَه القبطي، قيل هو خَبَّاز فرعون.
وعبر عنها بالموصول لعلم موسى بها، وفي ذلك تهويل للفعلة يكنى به عن تذكيره بما يوجب توبيخه.
وفي العدول عن ذكر فَعلة معيَّنة إلى ذكرها مبهمة مضافةً إلى ضميره ثم وصفها بما لا يزيد على معنى الموصوف تهويلٌ مرادٌ به التفظيع وأنها مشتهرة معلومة مع تحقيق إلصاق تبعتها به حتى لا يجد تنصلًا منها.
وجملة: {وأنت من الكافرين} حال من ضمير {فعلت}.
والمراد به كفر نعمة فرعون من حيث اعتدى على أحد خاصّته وموالي آله، وكان ذلك انتصارًا لرجل من بني إسرائيل الذين يعُدُّونهم عبيدَ فرعون وعبيدَ قومه، فجَعل فرعونُ انتصارَ موسى لرجل من عشيرته كفرانًا لنعمة فرعون لأنه يرى واجب موسى أن يعُدّ نفسه من قوم فرعون فلا ينتصر لإسرائيلي، وفي هذا إعمال أحكام التبني وإهمال أحكام النسب وهو قلبُ حقائق وفسادُ وضع.
قال تعالى: {وما جَعل أدعياءَكم أبناءَكم ذلكم قولُكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4].
وليس المراد الكفر بديانة فرعون لأن موسى لم يكن يوم قتل القبطي متظاهرًا بأنه على خلاف دينهم وإن كان في باطنه كذلك لأن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوءة وبعدها.
ويجوز أن تكون جملة: {وأنت من الكافرين} عطفًا على الجُمل التي قبلها التي هي توبيخ ولوم، فوبخه على تقدم رعيه تربيتَهم إياه فيما مضى، ثم وبّخه على كونه كافرًا بدينهم في الحال، لأن قوله: {من الكافرين} حقيقة في الحال إذ هو اسم فاعل واسم الفاعل حقيقة في الحال.
ويجوز أن يكونَ المعنى: وأنت حينئذ من الكافرين بديننا، استنادًا منه إلى ما بدا من قرائنَ دلّته على استخفاف موسى بدينهم فيما مضى لأن دينهم يقتضي الإخلاص لفرعون وإهانةَ من يهينهم فرعون.
ولعل هذا هو السبب في عزم فرعون على أن يقتصّ من موسى للقبطي لأن الاعتداء عليه كان مصحوبًا باستخفاف بفرعون وقومه.
ويفيد الكلام بحذافره تعجبًا من انتصاب موسى منصب المرشد مع ما اقترفه من النقائص في نظر فرعون المنافية لدعوى كونه رسولًا من الربّ.
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)}.
كانت رباطة جأش موسى وتوكّله على ربّه باعثةً له على الاعتراف بالفعلة وذكر ما نشأ عنها من خيرٍ له، ليدل على أنه حَمِد أثرها وإن كان قد اقترفها غير مُقَدِّر ما جرّته إليه من خير؛ فابتدأ بالإقرار بفعلته ليعلم فرعون أنه لم يجد لكلامه مدخل تأثير في نفس مُوسى.
وأخر موسى الجواب عن قول فرعون {ألم نربّك فينا وليدًا ولبثت فينا من عمرك سنين} [الشعراء: 18] لأنه علم أن القصد منه الإقصارُ من مواجهته بأن ربًّا أعلى من فرعون أرسل موسى إليه.
وابتدأ بالجواب عن الأهم من كلام فرعون وهو {وفعلتَ فعلتك} [الشعراء: 19] لأنه علم أنه أدخل في قصد الإفحام، وليظهر لفرعون أنه لا يَوْجَل من أن يطالبوه بذَحل ذلك القتيل ثقة بأن الله ينجيه من عدوانهم.
وكلمة {إذًا} هنا حرف جواب وجزاء، فنونُه الساكنة ليست تنوينًا بل حرفًا أصليًا للكلمة، وقدم {فعلتها} على {إذن} مبادرةً بالإقرار ليَكون كناية عن عدم خشيته من هذا الإقرار.
ومعنى المجازاة هنا ما بيّنه في الكشاف: أن قول فرعون {فعلتَ فعلتك} [الشعراء: 19] يتضمن معنى جازيتَ نعمتنا بما فعلتَ؛ فقال له موسى: نعم فعلتها مُجازيا لك، تسليمًا لقوله، لأن نعمته كانت جديرة بأن تجازى بمثل ذلك الجزاء.
وهذا أظهر ما قيل في تفسير هذه الآية.
وقال القزويني في حاشية الكشاف قال بعض المحققين: {إذًا} ظرف مقطوع عن الإضافة مُؤْثَرًا فيه الفتح على الكسر لخفته وكثرةِ الدوران، ولعله يعني ببعض المحققين رضي الدِّين الاسترابادي في شرح الكافية الحاجبية فإنه قال في باب الظروف: والحق أن إذْ إذا حذف المضاف إليه منه وأبدل منه التنوين في غير نحو يومئذ، جاز فتحه أيضًا، ومنه قوله تعالى: {فعلتها إذًا وأنا من الضالين} أي فعلتها إذْ ربَّيتني، إذ لا معنى للجزاء ههنا. اهـ.
فيكون متعلقًا ب {فعلتُها} مقطوعًا عن الإضافة لفظًا لدلالة العامل على المضاف إليه.
والمعنى: فعلتُها زمنًا فعلتُها، فتذكيري بها بعد زمن طويل لا جدوى له.
وهذا الوجه في {إذًا} في الآية هو مختار ابن عطية والرضي في شرح الحاجبية والدماميني في المزج على المغني، وظاهر كلام القزويني في الكشف على الكشاف أنه يختاره.
ومعنى الجزاء في قوله: {فعلتها إذًا} أن قول فرعون {وفعلتَ فعلتك التي فعلت} [الشعراء: 19] قصد به إفحام موسى وتهديده، فجعل موسى الاعتراف بالفعلة جزاء لذلك التهديد على طريقة القول بالموجَب، أي لا أتهيّب ما أردت.
وجعل مُوسى نفسه من الضالين إن كان مراد كلامه الذي حكت الآية معناه إلى العربية المعنَى المشهورَ للضلال في العربية وهو ضلال الفساد فيكون مراده: أن سَوْرة الغضب أغفلته عن مراعاة حرمة النفس وإن لم يكن يومئذ شريعة فإن حفظ النفوس مما اتفق عليه شرائع البشر وتوارثوه في الفِتَر، ويؤيد هذا قوله في الآية الأخرى.