فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي أية أخرى يقول تعالى على لسان امرأة فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} [القصص: 9] وكأن الله تعالى يقول: ستأخذونه ليكون قُرَّة عين لكم، إنما هو سيكون عدوًا.
والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] ففرعون في حين كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل، ويستحيي البنات، جاءه هذا الطفل بهذه الطريقة اللافتة للنظر، فكان عليهم أنْ يفهموا أن مَنْ أُلقِي في التابتوت وفي اليمِّ بافتعال، هو بهدف نجاته من القتل، فلو كان فرعون إلهًا، فكيف مرّت عليه هذه الحيلة وجازتْ عليه؟
وهذا يدل على أن الله تعالى إذا أراد إنفاذ أمر سلب من ذوي العقول عقولهم، وحال بين المرء وقلبه، ويدل على غباء قومه؛ لأنهم لو تأملوا هذه المسألة لظهر لهم كذب فرعون في ادعائه الألوهية.
فكان ردّ فرعون على موسى عليه السلام: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} يريد فرعون أنْ يُذكِّر موسى بما كان من أمر تربيته في بيته لعدة سنوات، حتى شَبَّ وكبر، وكأنه يُوبِّخه كيف يقف منه هذا الموقف العدائي بعدما كان منه.
{وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] ويقال: إن موسى لبث في بيت فرعون حتى سِنِّ الثامنة عشرة، أو سِنِّ الثلاثين، فالمعنى أنه ربَّاه ولبث معه أيضًا عدة سنوات.
والمتأمل في هذه الحجة التي يظنها فرعون لصالحه يجد أنها ضده، وأنها تكشف عن غبائه، فلو كان إلهًا كما يدعي لعرف أن هلاكه سيكون على يدي هذا الطفل الذي ضَمَّه إليه ورعاه.
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)}.
والمراد بالفِعْلة قتل موسى عليه السلام للرجل الذي وكزه فمات {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} [الشعراء: 19] يصح من الكافرين بألوهية فرعون، أو من الجاحدين لنعمنا عليك وتربيتنا لك.
لذلك العقلاء يروْنَ أن الإنسان حين يربي الأولاد ويراهم كما يحب، فليعلم أنه توفيق وعناية من الله تعالى، بدليل أن الأبناء يُربَّون في بيئة واحدة، وربما كانا توأميْن، ومع ذلك ترى أحدهما صالحًا والآخر طالحًا، فالمسألة عناية إلهية عليا، وقد التقط أحد الشعراء هذا المعنى فقال:
إِذَا لَمْ تُصاَدِفَ في بَنيكَ عِنَايةً ** فقَدْ كذَبَ الراجي وخَابَ المؤَمَّلُ

فمُوسى الذِي رَبَّاه جِبْريلُ كَافِرٌ ** ومُوسَى الذي رَبَّاهُ فِرْعَونُ مُرْسَلُ

والمراد موسى السامري صاحب العجل، وقد وضعته أمه في صحراء وماتت، فأرسل الله إليه جبريل عليه السلام يرعاه ويُربِّيه. ولا تأتي هذه المفارقات إلا بعناية الله سبحانه.
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)}.
يقول موسى عليه السلام: أنا لا أنكر أنني قتلتُ، لكنني قتلتُ وأنا من الضالين. يعني: الجاهلين بما يترتب على عملية القتل، وما كنت أعتقدُ أبدًا أن هذه الوَكْزة ستقضي على الرجل.
فكلمة {الضالين} [الشعراء: 20] هنا لا تعني عدم الهدى، فمن هذا المعنى للضلال قولهم: ضَلَّ الطريق، وهو لم يتعمد أن يضل، إنما تاه رَغْمًا عنه.
ومنه قوله تعالى في الشهادة: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} [البقرة: 282].
وقوله تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَآلًا فهدى} [الضحى: 7] أي: متحيرًا بين الباطل الذي يمارسه قومه، وبين الحق الذي لا يجد له بينة.
{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)}.
{حُكْمًا} [الشعراء: 21] أي: أنْ أضع الأشياء في مواضعها، وجاءت هذه الكلمة بعد {فَعَلْتُهَآ إِذًا وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] كأنه يقول: أنا وكزتُ الرجل، هذا صحيح، فمات، وهذا خطأ غير مقصود وإنني مظلوم فيه؛ لأن الله قد أعطاني حكمًا وقدرة لأضع الأشياء في محلها.
ليس هذا فحسب، إنما أيضًا: {وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين} [الشعراء: 21].
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)}.
يعني: ما مَّن به فرعون على موسى من قوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} [الشعراء: 18- 19].
كأنه يقول له: أتمُنُّ عليَّ بهذه الأشياء، وتذكر هذه الحسنة، وهي لا تساوي شيئًا لو قارنتَها بما حدث منك من استعباد بني إسرائيل وتذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم، وتسخيرهم في خدمتك.
وقتل الذّكْران واستحياء الإناث، لا يعني الرأفة بهن، إنما يعني لَهُنَّ الذلة والهوان، حين لا تجد المرأة من محارمها مَنْ يحميها أو يدافع عنها، فتبقى بعد الرجال في هوان وذِلَّة في خدمة فرعون. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
قوله: {طسم} قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي، وخلف بإمالة الطاء، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الباقون بالفتح مشبعًا.
وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من طسم في الميم وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها.
قال الثعلبي: الإدغام اختيار أبي عبيد، وأبي حاتم.
قال النحاس: وحكى الزجاج في كتابه: فيما يجري وما لا يجري أنه يجوز أن يقال: طاسين ميم بفتح النون وضم الميم كما يقال: هذا معدى كرب.
وقرأ عيسى ويروى عن نافع بكسر الميم على البناء.
وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {ط س م} هكذا حروفًا مقطعة، فيوقف على كل حرف وقفة يتميز بها عن غيره، وكذلك قرأ أبو جعفر، ومحله الرفع على الابتداء إن كان اسمًا للسورة كما ذهب إليه الأكثر، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير: اذكر، أو اقرأ.
وأما إذا كان مسرودًا على نمط التعديد كما تقدّم في غير موضع من هذا التفسير، فلا محلّ له من الإعراب.
وقد قيل: إنه اسم من أسماء الله سبحانه، وقيل: اسم من أسماء القرآن، والإشارة بقوله: {تِلْكَ ءَايَاتُ الكتاب المبين} إلى السورة، ومحلها الرفع على أنها وما بعدها خبر للمبتدأ إن جعلنا {طسم} مبتدأ، وإن جعلناه خبرًا لمبتدأ محذوف، فمحلها الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من {طسما} والمراد بالكتاب هنا: القرآن، والمبين: المبين المظهر، أو البين الظاهر إن كان من أبان بمعنى بان.
{لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} أي قاتل نفسك ومهلكها {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: لعدم إيمانهم بما جئت به والبخع في الأصل: أن يبلغ بالذبح النخاع بالنون: قاموس، وهو عرق في القفا، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف، وقرأ قتادة: {باخع نفسك} بالإضافة.
قرأ الباقون بالقطع قال: الفراء: {أن} في قوله: {أن لاَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} في موضع نصب: لأنها جزاء قال النحاس: وإنما يقال: إن مكسورة لأنها جزء هكذا التعارف، والقول في هذا ما قاله الزجاج في كتابه في القرآن إنها في موضع نصب مفعول لأجله، والمعنى: لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حريصًا على إيمان قومه شديد الأسف لما يراه من إعراضهم، وجملة: {إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً} مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية، والمعنى: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان، ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك، ومعنى {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين}: أنهم صاروا منقادين لها أي: فتظلّ أعناقهم إلخ، قيل: وأصله، فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير، لأن الأعناق موضع الخضوع.
وقيل: إنها لما وضعت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم، ووصفت بما يوصفون به.
قال عيسى بن عمر: خاضعين، وخاضعة هنا سواء، واختاره المبرد، والمعنى: أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها، ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأوّل، ويخبر عن الثاني، ومنه قول الراجز:
طول الليالي أسرعت في نقضي ** طوين طولي وطوين عرضي

فأخبر عن الليالي، وترك الطول، ومنه قول جرير:
أرى مرّ السنين أخذن مني ** كما أخذ السرار من الهلال

وقال أبو عبيد والكسائي: إن المعنى: خاضعيها هم، وضعفه النحاس، وقال مجاهد: أعناقهم: كبراؤهم، قال النحاس: وهذا معروف في اللغة، يقال: جاءني عنق من الناس أي: رؤساء منهم.
وقال أبو زيد والأخفش: أعناقهم: جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس أي: جماعة.
{وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} بيّن سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالًا بعد حال، وأن لا يجدّد لهم موعظة وتذكيرًا إلاّ جدّدوا ما هو نقيض المقصود، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء، و{من} في: {مّن ذِكْرِ} مزيدة لتأكيد العموم، و{من} في {مّن رَّبّهِمُ} لابتداء الغاية، والاستثناء مفرغ من أعمّ العامّ محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم، وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء {فَقَدْ كَذَّبُواْ} أي: بالذكر الذي يأتيهم تكذيبًا صريحًا، ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض، وقيل: إن الإعراض بمعنى التكذيب، لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله، فقد كذّبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأوّل أولى، فالإعراض عن الشيء: عدم الالتفات إليه.
ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشدّ منه، وهو التصريح بالتكذيب، ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشدّ منه، وهو الاستهزاء كما يدلّ عليه قوله: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أنباؤا مَا كَانُواْ بِه يَسْتَهْزِءونَ}، والأنباء هي: ما يستحقونه من العقوبة آجلًا وعاجلًا.
وسمّيت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن، وقال: {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ}، ولم يقل: ما كانوا عنه معرضين، أو ما كانوا به يكذّبون، لأن الاستهزاء أشدّ منهما، ومستلزم لهما، وفي هذا وعيد شديد، وقد مرّ تفسير مثل هذا في سورة الأنعام.
ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته من الأمور الحسية التي يحصل بها للمتأمل فيها، والناظر إليها، والمستدلّ بها أعظم دليل، وأوضح برهان، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} الهمزة للتوبيخ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، فنبّه سبحانه على عظمته وقدرته، وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد، والمراد بالزوج هنا: الصنف.
وقال الفراء: هو اللون، وقال الزجاج: معنى زوج نوع، وكريم: محمود، والمعنى: من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلاّ ربّ العالمين، والكريم في الأصل: الحسن الشريف، يقال: نخلة كريمة: أي كثيرة الثمرة، ورجل كريم: شريف فاضل، وكتاب كريم: إذا كان مرضيًا في معانيه، والنبات الكريم هو المرضي في منافعه، قال الشعبي: الناس مثل نبات الأرض، فمن صار منهم إلى الجنة، فهو كريم، ومن صار منهم إلى النار، فهو لئيم، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} إلى المذكور قبله أي: إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالة بينة، وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته، ثم أخبر سبحانه: بأن أكثر هؤلاء مستمرّ على ضلالته مصمم على جحوده، وتكذيبه، واستهزائه، فقال: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا، وقال سيبويه: إن {كان} هنا صلة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي: الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم مع كونه كثير الرحمة، ولذلك أمهلهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة، أو المعنى: أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه.
وجملة {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} إلخ، مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض، والتكذيب، والاستهزاء، والعامل في الظرف محذوف تقديره: واتل إذ نادى أو اذكر، والنداء: الدعاء، و{أن} في قوله: {أَنِ ائت القوم الظالمين} يجوز أن تكون مفسرة، وأن تكون مصدرية، ووصفهم بالظلم.