فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

ولما لم يجد فرعون في هذا الطريق من تقريره على التنزيه وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله: {رسول رب العالمين} فاستفهمه استفهامًا عن مجهور من الأشياء قال مكي كما يستفهم عن الأجناس، فلذلك استفهم ب {ما} وقد ورد له استفهام ب {من} في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن، فأتى موسى عليه السلام بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها وهي ربوبية السماوات والأرض، وهذه المجادلة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد فقال فرعون عند ذلك {ألا تستمعون} على وجه الإغراء والتعجب من شنعة المقالة، إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك وهذه ضلالة منها في مصر وديارها إلى اليوم بقية فزاد موسى في البيان بقوله: {ربكم ورب آبائكم الأولين}، فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} وقرأ جمهور الناس على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حميد الأعرج ومجاهد {أرسل} على بناء الفعل للفاعل، فزاد موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون وتبين له أنه في غاية البعد عن القدرة عليها وهي ربوبية {المشرق والمغرب}، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية، وفي قراءة ابن مسعود وأصحابه {رب المشارق والمغارب وما بينهما}.
{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)}.
لما انقطع فرعون في الحجة رجع إلى الاستعلاء، والتغلب، وهذه أبين علامات الانقطاع، فتوعّد موسى عليه السلام بالسجن حين أعياه خطابه، وفي توعده بالسجن ضعف لأنه خارت طباعه معه، وكان فيما روي يفزع منه فزعًا شديدًا حتى كان لا يمسك بوله، وروي أن سجنه كان أشد من القتل في مطبق لا ينطلق منه أبدًا فكان مخوفًا.
قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة دار النبود إلى اليوم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قال فرعونُ وما ربُّ العالَمين} سأله عن ماهيَّةِ مَنْ لا ماهيَّة له، فأجابه بما يدلُّ عليه من مصنوعاته.
وفي قوله: {إِنْ كنتم موقِنين} قولان.
أحدهما: أنّه خَلَقَ السموات والأرض.
والثاني: إِن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه، فكذلك، فأيقنوا أن ربَّ العالمين ربُّ السماوات والأرض.
{قال} يعني: فرعون {لِمَنْ حوله} من أشراف قومه {ألا تَستمعونَ} معجِّبًا لهم.
فإن قيل: فأين جوابهم؟
فالجواب: أنه أراد: ألا تستمعون قول موسى؟ فردَّ موسى، لأنه المراد بالجواب، ثم زاد في البيان بقوله: {ربُّكم وربُّ آبائكم الأوَّلِين}، فأعرض فرعون عن جوابه ونسبه إِلى الجنون، فلم يَحْفِل موسى بقول فرعون، واشتغل بتأكيد الحُجَّة، ف {قال ربُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بينهما إِن كنتم تَعْقِلُونَ} أي: إِن كنتم ذوي عقول، لم يَخْفَ عليكم ما أقول. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين}.
لما غلب موسى فرعون بالحجة ولم يجد اللعين من تقريره على التربية وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله: {رسول رب العالمين} فاستفهمه استفهامًا عن مجهول من الأشياء.
قال مكيّ وغيره: كما يستفهم عن الأجناس فلذلك استفهم ب {ما}.
قال مكي: وقد ورد له استفهام ب {من} في موضع آخر ويشبه أنها مواطن؛ فأتى موسى بالصفات الدالّة على الله من مخلوقاته التي لا يشاركه فيها مخلوق، وقد سأل فرعون عن الجنس ولا جنس لله تعالى؛ لأن الأجناس محدثة، فعلم موسى جهله فأضرب عن سؤاله وأعلمه بعظيم قدرة الله التي تبيِّن للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها.
فقال فرعون: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} على معنى الإغراء والتعجب من سفه المقالة إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك.
فزاد موسى في البيان بقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} فجاء بدليل يفهمونه عنه؛ لأنهم يعلمون أنه قد كان لهم آباء وأنهم قد فنوا وأنه لابد لهم من مغيِّر، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا، وأنهم لابد لهم من مكوِّن.
فقال فرعون حينئذٍ على جهة الاستخفاف: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أي ليس يجيبني عما أسأل؛ فأجابه موسى عليه السلام عن هذا بأن قال: {رَبُّ المشرق والمغرب} أن ليس ملكه كملكك؛ لأنك إنما تملك بلدًا واحدًا لا يجوز أمرك في غيره، ويموت من لا تحب أن يموت، والذي أرسلني يملك المشرق والمغرب؛ {وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}.
وقيل: علم موسى عليه السلام أن قصده في السؤال معرفة من سأل عنه، فأجاب بما هو الطريق إلى معرفة الرب اليوم.
ثم لما انقطع فرعون لعنه الله في باب الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فتوعد موسى بالسجن، ولم يقل ما دليلك على أن هذا الإله أرسلك؛ لأن فيه الاعتراف بأن ثَمَّ إلهًا غيره.
وفي توعده بالسجن ضعف.
وكان فيما يروى أنه يفزع منه فزعًا شديدًا حتى كان اللعين لا يمسك بوله.
وروي أن سجنه كان أشد من القتل.
وكان إذا سجن أحدًا لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مَخُوفًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين، لم يسأل إذ ذاك فيقول: {وما رب العالمين}؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي.
فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل، وكان في قوله: {رسول رب العالمين} دعاء إلى الإقرار بربوبية الله، وإلى طاعة رب العالم، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده.
والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة، وكان عالمًا بالله.
ويدل عليه: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} ولكنه تعامى عن ذلك طلبًا للرياسة ودعوى الإلهية، واستفهم بما استفهامًا عن مجهول من الأشياء.
قال مكي: كما يستفهم عن الأجناس، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن. انتهى.
والموضع الآخر قوله: {فمن ربكما يا موسى} ولما سأله فرعون، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية، ولم يمكن الجواب بالماهية، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما.
وقال الزمخشري: وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، {ليس كمثله شيء} وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشًا عن حقيقة الخاصة ما هي، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالًا بأفعاله الخاصة على ذلك؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق.
والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام، أن كون سؤاله إنكارًا لأن يكون للعالمين رب سواه، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم يدعّ الإلهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنه لم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام؟ وأنه كان مقرًا بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله: {وما بينهما} على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتبارًا للجنسين: جنس السماء، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله:
بين رماحي مالك ونهشل

اعتبارًا للجنسين: وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال: كان عالمًا بالله ولكنه قال ما قال طلبًا للملك والرياسة.
وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفًا بالله، وهو قوله: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء} الآية.
ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم.
ويحتمل أن يقال: كان على مذهب الحلولية القائلين: بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهًا. انتهى.
ومعنى: {إن كنتم موقنين}: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفعكم؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله.
وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد.
{قال لمن حوله}: هم أشراف قومه.
قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور، وكانت للملوك خاصة.
{ألا تستمعون}: أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجبًا، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم.
قال ابن عطية: والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية. انْتَهَى.
يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية، وأقاموا ملوكًا بمصر، من زمان المعز إلى زمان العاضد، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها: فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام، كان النصارى مستولين عليها، فاستنقذها منهم.
{قال ربكم ورب آبائكم الأولين}: نبههم على منشئهم ومنشيء آبائهم، وجاء في قوله: {الأولين} دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم.