فصل: تفسير الآيات (45- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (45- 51):

قوله تعالى {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قدم إضمار اسم موسى عليه السلام في الإلقاء الأول لأن الكلام كان معه، فلم يكن إلباس في أنه الفاعل.
وكان الكلام هنا في السحرة، وختموا بذكر فرعون وعزته، صرح باسم موسى عليه الصلاة والسلام لنفي اللبس فقال: {فألقى} أي فتسبب عن صنع السحرة وتعقبه أن ألقى {موسى} وقابل جماعة ما ألقوه بمفرد ما ألقى، لأنه أدل على المعجزة، فقالك {عصاه} أي التي جعلناها آية له، وتسبب عن إلقائه قوله: {فإذا هي تلقف} أي تبتلع في الحال بسرعة ونهمة {ما يأفكون} أي يصرفونه عن وجهه وحقيقته التي هي الجمادية بحيلهم وتخييلهم إلى ظن أنه حيات تسعى {فألقي} أي عقب فعلها من غير تلبث {السحرة ساجدين} أي فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقيًا ألقاهم بغير اختيارهم من قوة إسراعهم، علمًا منهم بأن هذا من عند الله، فأمسوا أتقياء بررة، بعد ما جاءوا في صبح ذلك اليوم سحرة.
ولما كان كأنه قيل: هذا فعلهم، فما كان قولهم؟ قيل: {قالوا آمنا برب العالمين} أي الذي دعا إليه موسى عليه السلام أو ما تكلم؛ ثم خصوه كشفًا لتلبيس فرعون بما لا يحتمل غيره فقالوا بيانًا: {رب} ولم يدع داع هنا إلى العدول عن الأصل، فقال عبارة عن كلامهم: {موسى وهارون} أي اللذين أحسنا إلينا بالتنبيه عليه، والهداية إليه، وصدقهما بما أجرى على أيديهما.
ولما خاف فرعون اتباع الناس لهم، لما يرون مما هالهم من أمرهم، وكان قد تقدم ما يعرف أن المنكر عليهم فرعون نفسه، قال تعالى مخبرًا عنه: {قال} من غير ذكر الفاعل- أي فرعون- لعدم اللبس، ومقصود السورة غير مقتض للتصريح كما في الأعراف بل ملائم للإعراض عنه والإراحه منه، منكرًا مبادرًا موهمًا لأنه إنما يعاقب على المبادرة بغير إذن، لا على نفس الفعل، وأنه ما غرضه إلا التثبت ليؤخر بهذا التخييل الناس عن المبادرة بالإيمان إلى وقت ما {آمنتم له} أي لموسى عليه السلام، أفرده بالضمير لأنه الأصل في هذه الرساله، وحقيقة الكلام: أوقعتم التصديق بما أخبر به عن الله لأجله إعظامًا له بذلك {قبل أن ءاذن لكم} أي في الإيمان؛ ثم علل فعلهم بما يقتضي أنه عن مكر وخداع، لا عن حسن اتباع، فقال: {إنه} أي موسى عليه السلام {لكبيركم}.
ولما كان هذا مشعرًا بنسبته له إلى السحر، وأنه أعلم منهم به، فلذلك غلبهم، أوضحه بقوله: {الذي علمكم السحر} فتواعدتم معه على هذا الفعل، لتنزعوا الملك من أربابه، هذا وكل من سمعه يعلم كذبة قطعًا، فإن موسى عليه السلام ما ربي إلا في بيته، واستمرّ حتى فر منهم إلى مدين، لا يعلم سحرًا، ولا ألم بساحر، ولا سافر إلا إلى مدين، ثم لم يرجع إلا داعيًا إلى الله، ولكن الكذب غالب على قطر مصر، وأهلها اسرع شيء سماعًا له وانقيادًا به.
ولما أوقف السامعين بما خيلهم به من هذا الباطل المعلوم البطلان لكل ذي بصيرة، أكد المنع بالتهديد فقال: {فلسوف تعلمون} أي ما أفعل بكم، أي فتسبب عما فعلتم أني أعاقبكم عقوبة محققة عظيمة، وأتى بأداة التنفيس خشية من أن لا يقدر عليهم فيعلم الجميع عجزه فيؤمنوا، مع ما فيها في الحقيقة على السحرة من التأكيد في الوعيد الذي لم يؤثر عندهم في جنب ما أشهدهم الله من الآية التي مكنتهم في مقام الخضوع؛ ثم فسر ما أبهم بقوله: {لأقطعن} بصيغة التفعيل لكثرة القطع والمقطوعين {أيديكم وأرجلكم} ثم بين كيفية تقطيعها فقال: {من خلاف} وزاد في التهويل فقال: {ولأُصلبنكم أجمعين} ثم استأنف تعالى حكاية جوابهم بقوله: {قالوا}.
ولما كان قد تقدم هنا أنهم أثبتوا له عزة توجب مزيد الخوف منه، حسن قولهم: {لا ضير} أي لا ضرر أصلًا علينا تحصل به المكنة منا فيما هددتنا به، بل لنا في الصبر عليه إن وقع أعظم الجزاء من الله، ورد النفي الشامل في هذه السورة إيذانًا بأنه لم يقدر فرعون على عذابهم، تحقيقًا لما في أول القصة من الإشارة إلى ذلك ب {كلا} و{مستمعون} فإن الإمكان من تابعي موسى عليه السلام يؤذيه ويضيق صدره، ولما يأتي من القصص من صريح العبارة في قوله: {أنتما ومن اتبعكما الغالبون}.
ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنا} أي بفعلك ذلك فينا إن قدرك الله عليه {إلى ربنا} أي المحسن إلينا وحده {منقلبون} أي ولابد لنا من الموت، فلنكن على ما حكم به ربنا من الحالات، وإنما حكمك على هذا الجسد ساعة من نهار، ثم لا حكم على الروح إلا الله الذي هو جدير بأن يثيبنا على ذلك نعيم الأبد.
وذلك معنى قولهم معللين ما قبله: {إنا نطمع أن يغفر} اي يستر سترًا بليغًا {لنا ربنا} الذي أحسن إلينا بالهداية {خطايانا} أي التي قدمناها على كثرتها؛ ثم عللوا طمعهم مع كثرة الخطايا بقولهم: {أن كنا} أي كونًا هو لنا كالجبلة {أول المؤمنين} أي من أهل هذا المشهد، وعبروا بالطمع إشارة إلى أن جميع أسباب السعادة منه تعالى، فكأنه لا سبب منهم أصلًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله: {فألقى موسى عصاه فَإِذَا هي تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}.
فالمراد من قوله: {مَا يَأْفِكُونَ} ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم ويزورونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، بالتمويه على الناظرين أو إفكهم وسمى تلك الأشياء إفكًا مبالغة.
أما قوله: {فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين} فالمراد خروا سجدًا لأنهم كانوا في الطبقة العالية من علم السحر، فلا جرم كانوا عالمين بمنتهى السحر، فلما رأوا ذلك وشاهدوه خارجًا عن حد السحر علموا أنه ليس بسحر، وما كان ذلك إلا ببركة تحقيقهم في علم السحر، ثم إنهم عند ذلك لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحًا، فإن قيل فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ جوابه: هو الله تعالى بما حصل في قلوبهم من الدواعي الجازمة الخالية عن المعارضات ولكن الأولى أن لا نقدر فاعلًا لأن ألقى بمعنى خر وسقط.
أما قوله: {رَبّ موسى وهارون} فهو عطف بيان لرب العالمين لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا موسى وهرون عليهما السلام إليه.
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
اعلم أنهم لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول الناس إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وتظاهرهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون مثل طريقهم فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى عليه السلام من وجوه: أولها: قوله: {ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لكم} وهذا فيه إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على أنكم كنتم مائلين إليه، وذلك يطرق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله وثانيها: قوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} وهذا تصريح بما رمز به أولًا، وغرضه منه أنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى عليه السلام وقصروا في السحر ليظهر أمر موسى عليه السلام، وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل ما فعل موسى عليه السلام، وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله وثالثها: قوله: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وهو وعيد مطلق وتهديد شديد ورابعها: قوله: {لأَقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} وهذا هو الوعيد المفصل وقطع اليد والرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والصلب معلوم، وليس في الإهلاك أقوى من ذلك وليس في الآية أنه فعل ذلك أو لم يفعل، ثم إنه أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين: الأول: قولهم: {لاَ ضَيْرَ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} الضر والضير واحد، وليس المراد أن ذلك إن وقع لم يضر وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عرفوه من دار الجزاء.
واعلم أن قولهم: {إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} فيه نكتة شريفة وهي أنهم قد بلغوا في حب الله تعالى أنهم ما أرادوا شيئًا سوى الوصول إلى حضرته، وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، وإنما مقصودهم محض الوصول إلى مرضاته والاستغراق في أنوار معرفته، وهذا أعلى درجات الصديقين الجواب الثاني: قولهم: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا} فهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما، والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقول إبراهيم {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيجيء من بعد.
أما قوله: {أَن كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين} فالمراد لأن كنا أول المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف، أو يكون المراد من السحرة خاصة، أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم، وقرئ {إن كنا} بالكسر، وهو من الشرط الذي يجيء به المدل بأمره لصحته وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين، ونظيره قول القائل لمن يؤخر جعله: إن كنت عملت لك فوفني حقي. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)}.
تقدم في غير هذه السورة ما ذكر الناس في عظم الحية حين ألقى موسى عصاه، وفي هذه الآيات متروك كثير يدل عليه الظاهر، وقد ذكر في مواضع أخر وهي خوف موسى من ظهور سحرهم واسترهابهم للناس وتخييلهم في حبالهم وعصيهم أنها تسعى بقصد، ثم إن الحية التي خلق الله في العصا التقمت لك الحبال والعصي عن آخرها وأعدمها الله تعالى في جوفها وعادت العصا إلى حالها حين أخذ موسى بالفرجة التي في رأسها فأدخل يده في فمها فعادت عصا بإذن الله عز وجل. وقرأ جمهور القراء {تَلَقّف} بفتح التاء خفيفة واللام وشدّ القاف، وقرأ حفص عن عاصم {تلْقَف} بسكون اللام وتخفيف القاف، وروى البزي وفليح عن ابن كثير شد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يجلب همزة الوصل وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة كما لا تدخل على أسماء الفاعلين، وقوله: {ما يأفكون}، أي ما يكذبون معه وبسببه في قولهم إنها معارضة لموسى ونوع من فعله، والإفك الكذب، ثم إن السحرة لما رأوا العصا، خالية من صناعة السحر ورأوا فيها بعد من أمر الله ما أيقنوا أنه ليس في قوة بشر أذعنوا ورأوا أن الغنيمة هي الإيمان والتمسك بأمر الله عز وجل فسجدوا كلهم لله عز وجل مقرين بوحدانيته وقدرته، ووصلوا إيمانهم بسبب موسى وهارون، وصرحوا بأن ذلك على أيديهما لأن قولهم {رب العالمين} مغن فلم يكرروا البيان في قولهم {رب موسى وهارون} إلا لما ذكرناه فلما رأى فرعون وملؤه إيمان السحرة وقامت الحجة بإيمان أهل علمهم ومظنة نصرتهم وقع فرعون في الورطة العظمى، فرجع إلى السحرة بهذه الحجة الأخرى، فوقفهم موبخًا على إيمانهم بموسى قبل إذنه، وفي هذه اللفظة مقاربة عظيمة وبعض إذعان لأن محتملاتها أنهم لو طلبوا إذنه في ذلك أذن، ثم توعدهم بقطع الأيدي والأرجل {من خلاف} والصلب في جذوع النخل فقالوا له {لا ضير} أي لا يضرنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله ورضوانه.
وروي أنه أنفذ فيهم ذلك الوعيد وصلبهم على النيل، قال ابن عباس أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وقولهم {أن كنا أو المؤمنين} يريدون من القبط وصنيفتهم وإلا فقد كانت بنو إسرائيل آمنت، وقرأ الناس {أن كنا} بفتح الألف، وقرأ أبان بن تغلب {إن} بكسر الألف بمعنى أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فلسوف تَعْلَمون}.
قال الزجاج: اللام دخلت للتوكيد.
قوله تعالى: {لا ضَيْرَ} أي: لا ضرر.
قال ابن قتيبة: هو من ضَارَه يَضُوره ويَضيره؛ بمعنى: ضَرَّه.
والمعنى: لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا، لأنّا ننقلب إِلى ربِّنا في الآخرة مؤمِّلين غفرانه.
قوله تعالى: {أنْ كُنَّا} أي: لأن كنا {أوَّلَ المؤمِنين} بآيات موسى في هذه الحال. اهـ.