فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)}.
تقدم قريب منه في سورة الأعراف وفي سورة طه.
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)}.
قصد فرعون إرهابهم بهذا الوعيد لعلهم يرجعون عن الإيمان بالله.
ونظير أول هذه الآية تقدم في سورة الأعراف، ونظير آخرها تقدم فيها وفي سورة طه.
وهنالك ذكرنا عدد السحرة وكيف آمنوا.
واللام في {فلسوف} لام القسم.
{قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)}.
الضّير: مرادف الضرّ، يقال: ضَاره بتخفيف الراء يضِيره، ومعنى {لا ضير} لا يضرنا وعيدك.
ومعنى نفي ضره هنا: أنه ضر لحظة يحصل عقبه النعيم الدائم فهو بالنسبة لما تعقبه بمنزلة العدم.
وهذه طريقة في النفي إذا قامت عليها قرينة.
ومنها قولهم: هذا ليسَ بشيء، أي ليس بموجود، وإنما المقصود أن وجوده كالعدم.
وجملة: {إنا إلى ربنا منقلبون} تعليل لنفي الضير، وهي القرينة على المراد من النفي.
والانقلاب: الرجوع، وتقدم في سورة الأعراف.
وجملة: {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطيانا} بيان للمقصود من جملة: {إنا إلى ربنا منقلبون}.
والطمع: يطلق على الظن الضعيف، وعُرِّف بطلب ما فيه عسر.
ويطلق ويراد به الظن كما في قول إبراهيم {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} [الشعراء: 82]، فهذا الإطلاق تأدّب مع الله لأنه يفعل ما يريد.
وعلّلوا ذلك الطمع بأنهم كانوا أول المؤمنين بالله بتصديق موسى عليه السلام، وفي هذا دلالة على رسوخ إيمانهم بالله ووعده. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)}.
ولم يَأْت إلقاء موسى عليه السلام لعصاه مباشرة بعد أن ألقى السحرة، إنما هنا أحداث ذُكِرتْ في آيات أخرى، وفي لقطات أخرى للقصة، يقول تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66].
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا إِنَّمَا صَنَعُواْ} [طه: 67- 69].
هكذا كانت الصورة، فلما خاف موسى ثبَّته ربه، وأيّده بالحق وبالحجة، وتابعه فيما يفعل لحظةً بلحظة؛ ليوجهه وليُعدِّل سلوكه، ويشدّ على قلبه، وما كان الحق تبارك وتعالى ليرسله ثم يتخلى عنه، وقد قال له ربه قبل ذلك: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] فالحق سبحانه يعطي نبيه موسى الأوامر، ويعطيه الحجة لتنفيذها، ثم يتابعه بعنايته ورعايته.
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه نوح: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37].
فحينما تجمع هذه اللقطات تجدها تستوعب الحدث، ويُكمّل بعضها بعضًا، وهذا يظنه البعض تكرارًا، وليس هو كذلك.
إذن: جاء إلقاء موسى لعصاه بعد توجيه جديد من الله أثناء المعركة: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 69] وهنا: {فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45] ومعنى {تَلْقَفُ} [الشعراء: 45] تبتلع وتلتهم في سرعة وقوة، أما السرعة واختصار الزمن والقوة، فتدل على الأخذ بشدة وعُنْف، وفي هذا دليل على أنه خاض المعركة بقوة، فلم تضعف قوته لما رأى من ألاعيب السَّحَرة.
ومعنى {مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45] من الإفك يعني: قلْب الحقائق؛ لذلك سَمَّوْا الكذب إفْكًا؛ لأنه يقلب الحقيقة ويُغير الواقع.
ومنها {والمؤتفكة أهوى} [النجم: 53] وهي القرى الظالمة التي أهلكها الله، فجعل عاليها سافلها.
وسبق أن أوضحنا أن الكذب وقَلْب الحقائق يأتي من أنك حين تتكلم، فللكلام نِسَبٌ ثلاث: نسبة في الذِّهْن، ونسبة على اللسان، ونسبة في الواقع. فإنْ طابقتْ النسبةُ الكلامية الواقع، فأنت صادق، وإنْ خالفتْه فأنت كاذب.
وسَمَّى ما يفعله السحرة إفكًا؛ لأنهم يُغيِّرون الحقيقة، ويُخيِّلون للناس غيرها.
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)}.
لم يقُل الحق سبحانه: فسجد السحرة، إنما {فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} [الشعراء: 46] والإلقاء يدل على سرعة الاستجابة، وأن السجود تَمَّ منهم دون تفكير؛ لأنه أمر فوق إرادتهم، وكأن جلال الموقف وهيبته وروعة ما رَأوْا ألقاهم على الأرض ساجدين لله، صاحب هذه الآية الباهرة؛ لذلك لم يقولوا عندها آمنَّا بربِّ موسى وهارون، إنما قالوا: {قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين} وحين نتأمل ردَّ فِعْل السحرة هنا نجد أنهم خرُّوا لله ساجدين أولًا، ثم أعلنوا إيمانهم ثانيًا، ومعلوم أن الإيمان يسبق العمل، وأن السجود لا يتأتي إلا بعد إيمان، فكيف ذلك؟
قالوا: هناك فَرْق بين وقوع الإيمان، وبين أنْ تخبر أنت عن الإيمان، فالمتأخر منهم ليس الإيمان بل الإخبار به؛ لأنهم ما سجدوا إلا عن إيمان واثق ينجلي معه كل شكٍّ، إيمان خطف ألبابهم وألقاهم على الأرض ساجدين لله، حتى لم يمهلهم إلى أنْ يعلنوا عنه، لقد أعادهم إلى الفطرة الإيمانية في النفس البشرية، والمسائل الفطرية لا علاجَ للفكر فيها.
وكأن سائلًا سألهم: لِمَ تسجدون؟ قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47- 48].
وقالوا: ربّ موسى وهارون بعد رب العالمين، ليقطعوا الطريق على فرعون وأتباعه أن يقول مثلًا: أنا رب العالمين، فأزالوا هذا اللبْس بقولهم {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 48].
ومثال ذلك قول بلقيس عندما رأت عرشها عند سليمان عليه السلام لم تقل: أسلمت لسليمان، إنما قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44] فأنا وأنت مسلمان لإله واحد هو الله رب العالمين، وهكذا يكون إسلام الملوك، وحتى لا يظن أحد أنها إنما خضعتْ لسليمان؛ لذلك احتاطتْ في لفظها لتزيل هذا الشك.
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إذن: فهو لا يشك في أن ما رآه السحرة موجب للإيمان، ولا يُشَكّك في ذلك، لكن المسألة كلها {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الشعراء: 49] فما يزال حريصًا على ألوهيته وجبروته، حتى بعد أن كُشِف أمره وظهر كذبه، وآمن الملأ بالإله الحق.
ثم أراد أنْ يبرر موقفه بين دهماء العامة حتى لا يقول أحد: إنه هزم وضاعت هيبته، فقال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} [الشعراء: 49] في حين أن القوم يعلمون أن موسى عليه السلام لم يجلس طيلة عمره إلى ساحر، لكن فرعون يأخذها ذريعة، لينقذ ما يمكن إنقاذه من مركزه الذي تهدّم، وألوهيته التي ضاعت.
ثم يُهدِّدهم بأسلوب ينمّ عن اضطرابه، وأنه فقد توازنه، اختلّ حتى في تعبيره، حيث يقول: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 49] وسوف تدل على المستقبل مع أنه لم يُؤخّر تهديده لهم بدليل أنه قال بعدها: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 49] {مِّنْ خِلاَفٍ} [الشعراء: 49] يعني: اليد اليمنى مع الرِّجْل اليُسْرى، أو اليد اليسرى مع الرِّجْل اليمنى.
وقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ} [الشعراء: 49] أوضحه في آية أخرى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71].
فما كان جواب المؤمنين برب العالمين؟ {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} أي: لا ضررَ علينا إنْ قتلتنا؛ لأن مصير الجميع إلى الموت، لكن إنْ كانت نهايتنا على يديك فوسف نسعد نحن بلقاء ربنا، وتَشْقى أنت بجزاء ربك. كالطاغية الذي قال لعدوه: لأقتلنك فضحك، فقال له: أتسخر مني وتضحك؟ قال: كيف لا أضحك من أمر تفعله بي يُسعدني الله به، وتشقى به أنت؟
إذن: لا ضررَ علينا إنْ قُتِلْنا؛ لأننا سنرجع إلى الله ربنا، وسنخرج من ألوهية باطلة إلى لقاء الألوهية الحقة، فكأنك فعلتَ فينا جميلًا، وأسديتَ لنا معروفًا إذْ أسرعتَ بنا إلى هذا اللقاء، وما تظنه في حقنا شَرٌّ هو عين الخير، لذلك فَهِم الشاعر هذا المعنى، فقال عنه:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ** عَلى أَيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصْرعي

يعني: ما دُمْتُ قد مُتُّ في سبيل الإسلام، فلا يُهم بعد ذلك، ولا أبالي أيّ موتة هي.
والمؤمنون هنا حريصون على أمرين: الأول: نَفْي الضرر؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصحلة، والثاني: التأكيد على النفع الذي سينالونه من هذا القتل.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ} لأنك أكرهتنا على السحر، وحملْتنا على الكذب، ومكثنا عمرًا نعتقد أنك إله، فلعلَّ مبادرتنا إلى الإيمان وكوْننا أولَ المؤمنين يشفع لنا عند ربنا، فيغفر لنا خطايانا، وفي موضع آخر: {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} [طه: 73].
فذكر هناك مسألة الإكراه، وذكر هنا العلة: {أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين} [الشعراء: 51]. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قول الله سبحانه وتعالى: {طسم} قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر، بإمالة الطاء.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالتفخيم، وهما لغتان معروفتان عند العرب، ويجوز كلاهما، وقرأ نافع بين ذلك، وقرأ حمزة بإظهار النون، والباقون بالإدغام لتقارب مخرجهما، ومن لم يدغم أراد التبيين، وكلاهما جائز.
وأما التفسير، فروى معمر عن قتادة أنه قال: اسم من أسماء القرآن.
ويقال: والطاء طوْله، والسين سَنَاؤُهُ، والميم ملكه، ومجده، ويقال: الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة المنتهى، والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: عجزت العلماء عن تفسيرها.
وقال بعضهم: هو قسم قسم الله تعالى به {تِلْكَ ءايات الكتاب} يعني: هذه آيات الكتاب.
ويقال: تلك آيات الكتاب التي كنت وعدت في التوراة أن أنزلها على محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {المبين} يعني: القرآن بيّن لكم الحق من الباطل {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} يعني: مهلك نفسك.
ويقال: قاتل نفسك بالحزن {أَن لا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} يعني: إذا لم يصدقوا بالقرآن، وذلك حين كذبه أهل مكة شقّ ذلك عليه، وحزن بذلك فقال له: ليس عليك سوى التبليغ، ولا تقتل نفسك إن لم يؤمنوا.
ثم قال عز وجل: {إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً} يعني: علامة {فَظَلَّتْ} يعني: فصارت {أعناقهم لَهَا خاضعين} يعني: وننزل عليهم آية تضطرهم إلى أن يؤمنوا، ولكنه لم يفعل، لأنه لو فعل ذلك لذهبت المحنة، فلم يستوجبوا الثواب إذا آمنوا بعد معاينة العذاب، كمن آمن يوم القيامة لا ينفعه إيمانه، لأنه قد ظهر له بالمعاينة.
ويقال: فظلت أعناقهم يعني: ساداتهم وكبراؤهم، والأعناق الكبراء، فإن قيل: جمع الأعناق مؤنث.
قال: خاضعين، ولم يقل: خاضعات.
قيل له: لأن الكلام انصرف إلى المعنى، فكأنه قال هم لها خاضعون قوله: {وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ} وقد ذكرناه {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} يعني: مكذبين معرضين عن الإيمان به {فَقَدْ كَذَّبُواْ} يعني: كذبوا بالقرآن، كما قال في آية أُخرى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: 5] يعني: {فَقَدْ كَذَّبُواْ} يعني: أخبار {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} يعني: يوم القيامة.