فصل: قال القرطبي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قال} مجيبًا إلى ما سألوا {نعم} لكم ذلك، وقرأ الكسائي بكسر العين، والباقون بالفتح وزادهم بما لا أحسن منه عند أهل الدنيا مؤكدًا بقوله: {وإنكم إذًا} أي: إذا غلبتم {لمن المقربين} أي: عندي، وزاد إذًا هنا زيادة في التأكيد، ولما قال لهم فرعون ذلك قالوا لموسى {إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين} [الأعراف].
{قال لهم موسى} أي: مريدًا لإبطال سحرهم لأنه لا يتمكن منه إلا بإلقاءهم {ألقوا ما أنتم ملقون} فإن قيل: كيف أمرهم بفعل السحر؟
أجيب: بأنه لم يرد بذلك أمرهم بالسحر والتمويه بل الأذن بتقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلًا به إلى إظهار الحق.
{فألقوا} أي: فتسبب عن قول موسى ج وتعقبه أن ألقوا {حبالهم وعصيهم} أي: التي أعدّوها للسحر {وقالوا} مقسمين {بعزة فرعون} وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله، ولا يصح في الإسلام إلا الحلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته كقولك والله والرحمن ورب العرش وعزة الله وقدرة الله وجلال الله وعظمة الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالطواغيت ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» ولقد استحدث الناس في هذا الباب في إسلامهم جاهلية نسبت لها الجاهلية الأولى، وذلك أن الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها وصفاته على شيء لم يقبل منه ولم يعتد بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف، ثم إنهم أكدوا يمينهم بأنواع من التوكيد بقولهم: {إنا لنحن} أي: خاصة لا نستثني {الغالبون} وذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.
{فألقى} أي: فتسبب عن صنع السحرة وتعقبه أن ألقى {موسى عصاه} التي جعلت آية له وتسبب عن إلقائه قوله تعالى: {فإذا هي تلقف} أي: تبتلع في الحال بسرعة وهمة {ما يأفكون} أي: ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم ويزوّرونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى بالتمويه على الناظرين أو إفكهم، سمى تلك الأشياء إفكًا مبالغة، وقرأ حفص بسكون اللام وتخفيف القاف، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد القاف، وشدّد البزي التاء في الوصل وخففها الباقون.
{فألقى السحرة} أي: عقب فعلها من غير تلبث {ساجدين} أي: فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقيًا ألقاهم من قوة إسراعهم علمًا منهم بأنّ هذا من عند الله فأمسوا أتقياء بررة بعدما جاءوا في صبح ذلك اليوم سحرة كفرة.
روي أنهم قالوا إن يك ما جاء به موسى سحرًا فلن نغلب وإن يك من عند الله فلن يخفى علينا، فلما قذف عصاه فتلقفت ما أتوا به علموا أنه من عند الله فآمنوا. وعن عكرمة أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وإنما عبر عن الخرور بالإلقاء لأنه ذكر مع الإلقاآت فسلك به طريقة المشاكلة، وفيه أيضًا: مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحًا، فإن قيل: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟.
أجيب: بأنه الله تعالى بما خوّلهم من التوفيق أو إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة، قال الزمخشري: ولك أن لا تقدر فاعلًا لأنّ ألقوا بمعنى خرّوا وسقطوا، ولما كان كأنه قيل: هذا فعلهم فما كان قولهم: قيل.
{قالوا آمنا برب العالمين} أي: الذي دعا إليه موسى عليه السلام أول ما تكلم وقولهم:
{رب موسى وهارون} عطف بيان لرب العالمين، لأنّ فرعون كان يدعي الربوبية وأرادوا أن يعذلوه، ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا إليه موسى وهارون عليهما السلام، ولما آمن السحرة بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول قومه أنّ هؤلاء السحرة على كثرتهم وبصيرتهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون طريقهم، فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى من وجوه: أحدها: أن.
{قال آمنتم له} أي: لموسى {قبل أن آذن} أي: أنا {لكم} فمسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه.
تنبيه:
ههنا همزتان مفتوحتان، قرأ الجميع بإبدال الثانية ألفًا، وحقق الثانية حمزة والكسائي وشعبة، وسهلها الباقون غير حفص فإنه أسقط الأولى والثانية عنده هي المبدوء بها.
ثانيها: قوله: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وهذا تصريح بما رمز به أولًا وتعريض منه بأنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى وقصروا في السحر ليظهروا أمر موسى وإلا ففي قوة السحر أن تفعلوا مثل ما يفعل.
ثالثها: قوله: {فلسوف تعلمون} وهو وعيد وتهديد شديد، رابعها: قوله: {لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف} أي: يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى {ولأصلبنكم أجمعين} وهذا الوعيد من أعظم الإهلاكات، ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين: الأول: قولهم:
{قالوا لا ضير} أي: لا ضرر علينا وخبر لا محذوف تقديره في ذلك {إنا} أي: بفعلك ذلك فينا إن قدّرك الله تعالى عليه {إلى ربنا} الذي أحسن إلينا بالهداية بعد موتنا بأي وجه كان {منقلبون} أي: راجعون في الآخرة، الثاني: قولهم:
{إنا نطمع} أي: نرجو {أن يغفر} أي: يستر سترًا بليغًا {لنا ربنا خطايانا} أي: التي قدمناها على كثرتها ثم عللوا طمعهم مع كثرة الخطايا بقولهم: {أن كنا} أي: كونا هو لنا كالجبلة {أول المؤمنين} أي: من أهل هذا المشهد أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم ولما ظهر من أمر فرعون ما شاهدوه وخيف أن يقع منه ببني إسرائيل وهم الذين آمنوا وكانوا في قوم موسى ما يؤدّى إلى الاستئصال أمره الله تعالى أن يسري بهم كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)}. اهـ.

.قال القرطبي في الآيات السابقة:

ثم لما كان عند موسى عليه السلام من أمر الله تعالى ما لا يرعه توعُد فرعون {فقَالَ} له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} فيتضح لك به صدقي، فلما سمع فرعون ذلك طمع في أن يجد أثناءه موضع معارضة {قَالَ} له {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين}.
ولم يحتج الشرط إلى جواب عند سيبويه؛ لأن ما تقدّم يكفي منه.
{فألقى موسى عَصَاهُ} من يده فكان ما أخبر الله من قصته.
وقد تقدّم بيان ذلك وشرحه في الأعراف إلى آخر القصة.
وقال السحرة لما توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل {لاَ ضَيْرَ} أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا؛ أي إنما عذابك ساعة فنصبر لها وقد لقينا الله مؤمنين.
وهذا يدلّ على شدّة استبصارهم وقوّة إيمانهم.
قال مالك: دعا موسى عليه السلام فرعون أربعين سنة إلى الإسلام، وأن السحرة آمنوا به في يوم واحد.
يقال: لا ضَيْر ولا ضَوْر ولا ضَرَّ ولا ضَرَرَ ولا ضارُورة بمعنى واحد؛ قاله الهَرَويّ.
وأنشد أبو عبيدة:
فإنكَ لا يَضُوركَ بعدَ حَوْلٍ ** أظبيٌ كان أُمُّكَ أَم حِمَارُ

وقال الجوهري: ضَارَه يَضُوره ويضيره ضَيْرًا وضَوْرًا أي ضَرَّه.
قال الكسائي: سمعت بعضهم يقول لا ينفعني ذلك ولا يَضُورني.
والتّضور الصياح والتلوّي عند الضرب أو الجوع.
والضُّورَة بالضم الرجل الحقير الصغير الشأن.
{إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} يريد ننقلب إلى رب كريم رحيم {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين}.
{أَنْ} في موضع نصب أي لأن كنا.
وأجاز الفراء كسرها على أن تكون مجازاة.
ومعنى: {أَوَّلَ المؤمنين} أي عند ظهور الآية ممن كان في جانب فرعون.
الفراء: أول مؤمني زماننا.
وأنكره الزجاج وقال: قد روي أنه آمن معه ستمائة ألف وسبعون ألفًا، وهم الشِّرذمة القليلون الذين قال فيهم فرعون: {إِنَّ هَؤلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} روي ذلك عن ابن مسعود وغيره. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وبعزة فرعون}:
الظاهر أن الباء للقسم، والذي تتعلق به الباء محذوف، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيمًا، كما يقال للملوك: أمروا رضي الله عنهم بكذا، فيخبر عنه إخبار الغائب، وهذا من نوع إيمان الجاهلية.
وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية، لا يرضون بالقسم بالله، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف، فحينذ يستوثق منه.
قال ابن عطية: بعد أن ذكر أنه قسم قال: والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه، إذ كانوا يعبدونه؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء: بسم الله، وعلى بركة الله، ونحو هذا.
وبين قوله: {قال لهم موسى}، وقوله: {لمن المقربين}، كلام محذوف، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى.
قال الزمخشري: فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عز وجل، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة، ولك أن لا تقدر فاعلًا، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. انتهى.
وهذا القول الآخر ليس بشيء.
لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه، أما أنه لا يقدر فاعل، فقول ذاهب عن الصواب.
قال ابن عطية: قرأ البزي، وابن فليح، عن ابن كثير: بشد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يحذف همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. انتهى.
كأنه يخيل أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل، وليس ذلك بلازم كثيرًا ما يكون الوصل مخالفًا للوقف، والوقف مخالفًا للوصل، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك.
{قالوا لا ضير}: أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه.
يقال: ضاره يضيره ضيرًا، وضاره يضوره ضورًا.
{إنا إلى ربنا}: أي إلى عظيم ثوابه، أو: لا ضير علينا، إذ انقلابنا إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه.
وقال أبو عبد الله الرازي: لما آمنوا بأجمعهم، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون، فبالغ في التنفير من جهة قوله: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} موهمًا أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل.
وبقوله: {إنه لكبيركم}، صرح بما رمزه أولًا من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم، وبقوله: {فلسوف تعلمون}، حيث أوعدهم وعيدًا مطلقًا، وبتصريحه بما هددهم به من العذاب، فأجابوا بأن ذلك إن وقع، لن يضير، وفي قولهم: {إنا إلى ربك منقلبون}، نكتة شريفة، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته. انتهى ملخصًا.
ويدفع هذا الأخير قولهم: {إنا نطمع}. إلى آخره، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا.
والظاهر بقاء الطمع على بابه كقوله: {ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} وقيل: يحتمل اليقين.
قيل: كقول إبراهيم عليه السلام: {والذي أطمع}.
وقرأ الجمهور: {أن كنا}، بفتح الهمزة، وفيه الجزم بإيمانهم.
وقرأ أبان بن تغلب، وأبو معاذ: إن كنا، بكسر الهمزة.
قال صاحب اللوامح على الشرط: وجاز حذف الفاء من الجواب، لأنه متقدم، وتقديره: {إن كنا أول المؤمنين} فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان. انتهى.
وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه.
وقال الزمخشري: هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين.
ونظيره قول العامل لمن يؤخر.
جعله إن كنت عملت فوفني حقي، ومنه قوله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي} مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك.
قال ابن عطية بمعنى: أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى.
ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون، فلا يحتمل النفي، والتقدير: إن كنا لأول المؤمنين.
وجاء في الحديث: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل، أي ليحب.
وقال الشاعر:
ونحن أباة الضيم من آل مالك ** وإن مالك كانت كرام المعادن

أي: وإن مالك لكانت كرام المعادن، وأول يعني أول المؤمنين من القبط، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك المجمع.
وقال الزمخشري: وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة. اهـ.