فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحكى أهل اللغة أنه يقال: رجل حادِرٌ إذا كان ممتلىء اللحم؛ فيجوز أن يكون المعنى الامتلاء من السلاح.
المهدوي: الحادر القويّ الشديد.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} يعني من أرض مصر.
وعن عبد الله بن عمرو قال: كانت الجنات بحافتي النيل في الشّقتين جميعًا من أسوان إلى رشيد، وبين الجنات زروع.
والنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية، وخليج سَخا، وخليج دمياط، وخليج سَرْدُوس، وخليج مَنْف، وخليج الفيوم، وخليج المَنْهَى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزروع ما بين الخلجان كلها.
وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعًا بما دبّروا وقدّروا من قناطرها وجسورها وخلجانها؛ ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشر ذراعًا نيل السلطان، ويُخَلع على ابن أبي الردّاد؛ وهذه الحال مستمرّة إلى الآن.
وإنما قيل نيل السلطان لأنه حينئذٍ يجب الخراج على الناس.
وكانت أرض مصر جميعها تروى من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعًا، وكانت إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعًا ونودي عليه إصبع واحد من ثمانية عشر ذراعًا، ازداد في خراجها ألف ألف دينار.
فإذا خرج عن ذلك ونودي عليه إصبعًا واحدًا من تسعة عشر ذراعًا نقص خراجها ألف ألف دينار.
وسبب هذا ما كان ينصرف في المصالح والخلجان والجسور والاهتمام بعمارتها.
فأما الآن فإن أكثرها لا يروى حتى ينادى إصبع من تسعة عشر ذراعًا بمقياس مصر.
وأما أعمال الصعيد الأعلى، فإن بها ما لا يتكامل ريّه إلا بعد دخول الماء في الذراع الثاني والعشرين بالصعيد الأعلى.
قلت: أما أرض مصر فلا تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعًا وأصابع؛ لعلو الأرض وعدم الاهتمام بعمارة جسورها، وهو من عجائب الدنيا؛ وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الأرض حتى يسيح على جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب والقياسات.
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلل الله له الأنهار؛ فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجّر الله له عيونًا، فإذا انتهى إلى ما أراد الله عز وجل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
وقال قيس بن الحجاج: لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا: إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بِكر بين أبويها؛ أرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل؛ فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الإسلام؛ وإن الإسلام ليهدم ما قبله.
فأقاموا أبيب ومسرى لا يجري قليل ولا كثير، وهموا بالجلاء.
فلما أرى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأعلمه بالقصة، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإن الإسلام يهدم ما قبله ولا يكون هذا.
وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه.
وكتب إلى عمرو: إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي.
فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت إنما تجري من قِبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يُجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.
قال: فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل.
فلما ألقى البطاقة في النيل.
أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشر ذراعًا، وقطع الله تلك السيرة عن أهل مصر من تلك السنة.
قال كعب الأحبار: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا سَيْحان وجَيْحان والنيل والفرات.
فسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة، والنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة.
قال ابن لَهيعَة: الدجلة نهر اللبن في الجنة.
قلت: الذي في الصحيح من هذا حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيْحانُ وَجَيْحَانُ وَالنِّيلُ وَالْفُراتُ كُلٌّ من أنهار الجنة» لفظ مسلم.
وفي حديث الإسراء من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صَعْصَعة رجل من قومه قال: وحدّث نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: «يا جبريل ما هذه الأنهار قال أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات» لفظ مسلم.
وقال البخاريّ من طريق شَريك عن أنس: «فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يَطَّرِدان فقال ما هذان النهران يا جبريل قال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا هو الكوثر الذي خبأ لك ربُّك» وذكر الحديث.
والجمهور على أن المراد بالعيون عيون الماء.
وقال سعيد بن جبير: المراد عيون الذهب.
وفي الدخان {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ} [الدخان: 25 26].
قيل: إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أوّل مصر. إلى آخرها.
وليس في الدخان {وكنوز}.
{وكنوز} جمع كنز؛ وقد مضى هذا في سورة براءة.
والمراد بها هاهنا الخزائن.
وقيل: الدفائن.
وقال الضحاك: الأنهار؛ وفيه نظر؛ لأن العيون تشملها.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} قال ابن عمر وابن عباس ومجاهد: المقام الكريم المنابر؛ وكانت ألف مِنبر لألف جبّار يُعظّمون عليها فرعون ومُلكه.
وقيل: مجالس الرؤساء والأمراء؛ حكاه ابن عيسى وهو قريب من الأول.
وقال سعيد بن جبير: المساكن الحسان.
قال ابن لهيعة: سمعت أن المقام الكريم الفيوم.
وقيل: كان يوسف عليه السلام قد كتب على مجلس من مجالسه: لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله فسماها الله كريمة بهذا.
وقيل: مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عُدّة وزينة فصار مقامها أكرم منزل بهذا؛ ذكره الماوردي.
والأظهر أنها المساكن الحسان كانت تكرم عليها.
والمقام في اللغة يكون الموضع ويكون مصدرًا.
قال النحاس: المقام في اللغة الموضع؛ من قولك قام يقوم، وكذا المقامات واحدها مقامة؛ كما قال:
وفيهم مَقَاماتٌ حِسانٌ وجوهُهم ** وأنديةٌ ينتابُها القولُ والفعلُ

والمقام أيضًا المصدر من قام يقوم.
والمقام بالضم الموضع من أقام.
والمصدر أيضًا من أقام يقيم.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} يريد أن جميع ما ذكره الله تعالى من الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم أورثه الله بني إسرائيل.
قال الحسن وغيره: رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه.
وقيل: أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حليّ آل فرعون بأمر الله تعالى.
قلت: وكلا الأمرين حصل لهم.
والحمد لله.
{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} أي فتبع فرعون وقومه بني إسرائيل.
قال السدي: حين أشرقت الشمس بالشعاع.
وقال قتادة: حين أشرقت الأرض بالضياء.
قال الزجاج: يقال شَرَقت الشمسُ إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل على قولين: أحدهما: لاشتغالهم بدفن أبكارهم في تلك الليلة؛ لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم؛ فقوله: {مُشْرِقِينَ} حال لقوم فرعون.
الثاني: إن سحابة أظلتهم وظُلْمة فقالوا: نحن بعد في الليل فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا.
وقال أبو عبيدة: معنى {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} ناحية المشرق.
وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون: {فَاتَّبَعُوهُمْ مُشَرّقِينَ} بالتشديد وألف الوصل؛ أي نحو المشرق؛ مأخوذ من قولهم: شرّق وغرّب إذا سار نحو المشرق والمغرب.
ومعنى الكلام قدرنا أن يرثها بنو إسرائيل فاتبع قوم فرعون بني إسرائيل مشرّقين فهلكوا، وورث بنو إسرائيل بلادهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)}.
تقدم الخلاف في {أسر}، وأنه قرئ بوصل الهمزة وبقطعها في سورة هود.
وقرأ اليماني: أن سر، أمر من سار يسير.
أمر الله موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلًا من مصر إلى تجاه البحر، وأخبره أنهم سيتبعون.
فخرج سحرًا، جاعلًا طريق الشام على يساره، وتوجه نحو البحر، فيقال له في ترك الطريق، فيقول: هكذا أمرت.
فلما أصبح، علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل، فخرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر.
وذكروا أعدادًا في أتباع فرعون وفي بني إسرائيل، الله أعلم بصحة ذلك.
{إن هؤلاء لشرذمة}: أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة، ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلًا، جمع السلامة الذي هو للقلة، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل، والظاهر تقليل العدد.
قال الزمخشري: ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد، والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم، ولكنهم يفعلون أفعالًا تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه. انتهى.
قال أبو حاتم: وقرأ من لا يؤخذ عنه: {لشرذمة قليلون}، وليست هذه موقوفة. انتهى.
يعني أن هذه القراءة ليست موقوفة على أحد رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: {لغائظون}: أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها، وخرجوا هاربين.
وقرأ الكوفيون، وابن ذكوان، وزيد بن علي: {حاذرون}، بالألف، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره، وحذر متعد.
قال تعالى: {يحذر الآخرة} وقال العباس بن مرداس:
وإني حاذر أنمي سلاحي ** إلى أوصال ذيال صنيع

وقرأ باقي السبعة: بغير ألف وهو المتيقظ.
وقال الزجاج: مؤدون، أي ذوو أدوات وسلاح، أي متسلحين.