فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن ابن عباس وابن جبير والضحاك وغيرهم أن الحاذر التام السلاح وفسروا ما في الآية بذلك، وكأنه بمعنى صاحب حذر وهي آلة الحرب سميت بذلك مجازًا، وحمل على ذلك قوله تعالى: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} [النساء: 71].
وقرأ سميط بن عجلان وابن أبي عمار وابن السميقع {حادرون} بالألف والدال المهملة من قولهم: عين حدرة أي عظيمة وفلان حادر أي متورم.
قال ابن عطية: والمعنى ممتلئون غيظًا وأنفة.
قال ابن خالويه: الحادر السمين القوي الشديد والمعنى أقوياء أشداء.
ومنه قول الشاعر:
أحب الصبي السوء من أجل أمه ** وأبغضه من بغضها وهو حادر

وقيل: المعنى تامو السلاح على هذه القراءة أيضًا أخذًا من الجدارة بمعنى الجسامة والقوة فإن تام السلاح يتقوى به كما يتقوى بأعضائه، و{لَّمَّا جَمِيعٌ} على جميع القراآت والمعاني بمعنى الجمع وليست التي يؤكد بها كما أشرنا إليه ولو كانت هي المؤكدة لنصبت.
{فأخرجناهم} أي فرعون وجنوده أي خلقنا فيهم داعية الخروج بهذا السبب الذي تضمنته الآيات الثلاث فحملتهم عليه أو خلقنا خروجهم {مّن جنات وَعُيُونٍ} كانت لهم بحافتي النيل كما روى عن ابن عمر وغيره.
{وَكُنُوزٍ} أي أموال كنزوها وخزنوها تحت الأرض.
وخصت بالذكر لأن الأموال الظاهرة أمور لازمة لهم لأنها من ضروريات معاشهم فإخراجهم عنها معلوم بالضرورة.
وقيل: لأن أموالهم الظاهرة قد انطمست بالتدمير.
وتعقب بأن الإخراج قبل الانطماس إذ من جملة الأموال الظاهرة الجنات والاخبار عنهم بأنهم أخرجوا منها بعنوان كونها جنات والأصل فيه الحقيقة.
وعلى تقدير تسليم أنه بعد يرد أن المدمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وهو مفسر بالقصور والعمارات والجنات فيبقى ما سوى ذلك غير محكوم عليه بالتدمير من الأموال الظاهرة مع أنهم أخرجوا منه أيضًا فيحتاج توجيه عدم التعرض له بغير ما ذكر.
وقيل: المراد بالكنوز أموالهم الباطنة والظاهرة وأطلق عليها ذلك لأنها لم ينفق منها في طاعة الله تعالى، ونقل ذلك عن مجاهد والأول أوفق باللغة.
وأكثر جهلة أهل مصر يزعمون أن هذه الكنوز في المقطم من أرض مصر وأنها موجودة إلى الآن وقد بذلوا على إخراجها أموالًا كثيرة لشياطين المغاربة وغيرهم فلم يظفروا إلا بالتراب أو حجر الكذاب، وقال ابن جبير: المراد بالعيون عيون الذهب وهو خلاف المتبادر، ومثله ما قاله الضحاك من أن المراد بالكنوز الأنهار.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} هي المساكن الحسان كما قال النقاش، وعن ابن لهيعة أنها كانت بالقيوم من أرض مصر، وقيل: مجالس الأمراء والأشراف والحكام التي تحفها الأتباع، وقيل: الأسرة في الكلل، وحكى الماوردي أنها مرابط الخيل، وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنها المنابر للخطباء وقرأ قتادة والأعرج {وَمَقَامٍ} بضم الميم من أقام.
{كذلك} إما في موضع نصب على أن يكون صفة لمصدر مقدر أي إخراجًا مثل ذلك الإخراج أخرجنا، والإشارة إلى مصدر الفعل أو في موضع جر على أن يكون صفة لمقام أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، وعلى الوجهين لا يرد أنه يلزم تشبيه الشيء بنفسه كما زعم أبو حيان لما مر تحقيقه أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، والمراد تقرير الأمر وتحقيقه.
واختار هذا الطيبي فقال: هو أقوى الوجوه ليكون قوله تعالى: {وأورثناها بَنِى إسرائيل} أي ملكناها لهم تمليك الإرث عطفًا عليه، والجملتان معترضتان بين المعطوف عليه وهو {فأخرجناهم} [الشعراء: 57] والمعطوف وهو قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم} لأن الاتباع عقب الإخراج لا إلا يرث.
قال الواحدي: إن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار والمساكن، وعلى غير هذا الوجه يكون {أَوْرَثْنَا} [الشعراء: 59] عطف على {أَخْرَجْنَا} ولابد من تقدير نحو فاردنا إخراجهم وإيراث بني إسرائيل ديارهم فخرجوا وأتبعوهم انتهى، ويفهم من كلام بعض أن جملة {أورثناها} [الشعراء: 59] الخ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأوجه، وما ذكر عن الواحدي من أن الله رد بني إسرائيل إلى مصدر بعدما أغرق فرعون وقومه ظاهره وقوع ذلك بعد الغرق من غير تطاول مدة.
وأظهر منه في هذا ما روى عن الحسن قال: كما عبروا البحر ورجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم؛ ورأيت في بعض الكتب أنهم رجعوا مع موسى عليه السلام وبقوا معه في مصر عشر سنين، وقيل: إنه رجع بعضهم بعد إغراق فرعون وهم الذين أورثوا أموال القبط وذهب الباقون مع موسى عليه السلام إلى أرض الشام.
وقيل: إنهم بعد أن جاوزوا البحر ذهبوا إلى الشام ولم يدخلوا مصر في حياة موسى عليه السلام وملكوها زمن سليمان عليه السلام، والمذكور في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم صريح في أنهم بعد أن جاوزوا البحر توجهوا إلى أرض الشام وقد فصلت قصة ذهابهم إليها وأكثر التواريخ على هذا وظواهر كثير من الآيات تقتضي ما ذكره الواحدي والله تعالى أعلم، ومعنى {والذين اتبعوهم} لحقوهم يقال: تبعت القوم فاتبعهم أي تلوتهم فلحقتهم كأن المعنى فجعلتهم تابعين لي بعدما كنت تابعًا لهم مبالغة في اللحوق، وضمير الفاعل لقوم فرعون والمفعول لبني إسرائيل.
وقرأ الحسن {فَأَتْبَعُوهُم} بوصل الهمزة وشد التاء {مُشْرِقِينَ} أي داخلين في وقت شروق الشمس أي طلوعها من أشرق زيد دخل في وقت الشروق كأصبح دخل في وقت الصباح وأمسى دخل في وقت المساء، وقال أبو عبيدة: هو من أشرق توجه نحو الشرق كأنجد توجه نحو نجد وأعرق توجه نحو العراق أي فاتبعوهم متوجهين نحو الشرق، والجمهور على الأول، وعن السدي أن الله تعالى ألقى على القبط الموت ليلة خرج موسى عليه السلام بقومه فمات كل بكر رجل منهم فشغلوا عن طلبهم بدفنهم حتى طلعت الشمس ومثل ذلك في التوراة بزيادة موت أبكار بهائمهم أيضًا، والوصف حال من الفاعل، وقيل: هو حال من المفعول.
ومعنى {مُشْرِقِينَ} في ضياء بناء على ما روى أن بني إسرائيل كانوا في ضياء، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ولا يكاد يصح ذلك لقوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)}.
هذه قصة أخرى من أحوال موسى في دعوة فرعون، فالواو لعطف القصة ولا تفيد قرب القصة من القصة، فقد لبث موسى زمنًا يطالب فرعون بإطلاق بني إسرائيل ليخرجُوا من مصر، وفرعون يماطل في ذلك حتى رأى الآياتتِ التسعَ كما تقدم في سورة الأعراف.
ونظير بعض هذه الآية تقدم في سورة طه.
وزادت هذه بقوله: {إنكم متبعون}، أي أعلم الله موسى أن فرعون سيتبعهم بجنده كما في آية سورة طه.
والقصد من إعلامه بذلك تشجيعه.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر {اِسْرِ} بهمزة وصل فعلَ أمر من سَرى وبكسر نون {أن}.
لأجل التقاء الساكنين.
وقرأ الباقون بهمزة قطع وسكون نون {أنْ} وفعلا سرى وأسرى متحدان كما تقدم في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى} [الإسراء: 1].
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)}.
ظاهر ترتيب الجمل يقتضي أن الفاء للتعقيب على جملة: {وأوحينا إلى موسى} [الشعراء: 52] وأن بين الجملتين محذوفًا تقديره: فأسرى موسى وخرج بهم فأرسل فرعون حَاشرين، أي لما خرج بنو إسرائيل خشي فرعون أن ينتشروا في مدائن مصر فأرسل فرعون في المدائن شُرَطًا يحشرون الناس ليلْحقوا بني إسرائيل فيردُّوهم إلى المدينة قاعدة الملك.
و{المدائن}: جمع مدينة، أي البلد العظيم.
ومدائن القطر المصري يومئذ كثيرة.
منها مانوفرى أو منفيس هي اليوم ميت رهينة بالجيزة وتيبة أو طيبة هي بالأقصر وأبودو وتسمى اليوم العَرابة المدفونة، وابو وهي بو وهي ادنو، واون رميسي، وأرمنت وسنَى وهي أسناء وساورت وهي السيوط، وخمونو وهي الاشمونيين، وبامازيت وهي البهنسا، وخسوُو وهي سخا، وكاريينا وهي سد أبي قيرة، وسودو وهي الفيوم، وكويتي وهي قفط.
والتعريف في {المدائن} للاستغراق، أي في مدائن القطر المصري، وهو استغراق عرفي، أي المدائن التي لحكم فرعون أو المظنون وقوعها قرب طريقهم.
وكان فرعون وقومه لا يعلمون أين اتجه بنو إسرائيل فأراد أن يتعرض لهم في كل طريق يظن مرورهم به.
وكان لا يدري لعلهم توجهوا صوبَ الشام، أو صوبَ الصحراء الغربية، وما كان يظن أنهم يقصدون شاطىء البحر الأحمر بحر القلزم وكان يومئذ يسمى بحر سُوف.
وجملة {إن هؤلاء لشرذمة قليلون} مقول لقول محذوف لأن {حاشرين} يتضمن معنى النداء، أي يقولون إن هؤلاء لَشِرْذِمة قليلون.
والإشارة ب {هؤلاء} إلى حاضر في أذهان الناس لأن أمر بني إسرائيل قد شاع في أقطار مصر في تلك المدة التي بين جمع السحرة وبين خروج بني إسرائيل، وليست الإشارة للسحرة خاصة إذ لا يلتئم ذلك مع القصة.
وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير لشأنهم أكده التصريح بأنهم شرذمة قليلون.
والشرذمة: الطائفة القليلة من الناس، هكذا فسره المحققون من أئمة اللغة، فإتْباعه بوصف {قليلون} للتأكيد لدفع احتمال استعمالها في تحقير الشأن أو بالنسبة إلى جنود فرعون، فقد كان عدد بني إسرائيل الذين خرجوا ستمائة ألف، هكذا قال المفسرون، وهو موافق لما في سفر العدد من التوراة في الإصحاح السادس والعشرين.
و{قليلون} خبر ثان عن اسم الإشارة، فهو وصف في المعنى لمدلول {هؤلاء} وليس وصفًا لشرذمة ولكنه مؤكد لمعناها، ولهذا جيء به بصيغة جمع السلامة الذي هو ليس من جموع الكثرة.
وقليل إذا وصف به يجوز مطابقته لموصوفه كما هنا، ويجوز ملازمته الإفرادَ والتذكير كما قال السموأل أو الحارثي:
وما ضرّنا أنا قَليل

البيت.
ونظيره في ذلك لفظ كثير وقد جمعهما قوله تعالى: {إذ يُريكهم الله في منامك قليلًا ولو أراكهم كثيرًا لَفَشِلْتم} [الأنفال: 43].
و{غائظون} اسم فاعل من غاظه الذي هو بمعنى أغاظه، أي جعله ذا غيظ.
والغيظ: أشد الغضب.
وتقدم في قوله تعالى: {عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ} في آل عمران (119)، وقوله: {ويذهب غيظ قلوبهم} في سورة براءة (15)، أي وأنهم فاعلون ما يغضبنا.
واللام في قوله: {لنا} لام التقوية واللام في {لغائظون} لام الابتداء، وتقديم {لنا} على {لغائظون} للرعاية على الفاصلة.
وقوله: {وإنا لجميع حاذرون} حثّ لأهل المدائن على أن يكونوا حَذِرين على أبلغ وجه إذ جعل نفسه معهم في ذلك بقوله: {لجميع} وذلك كناية عن وجوب الاقتداء به في سياسة المملكة، أي إنا كلَّنا حَذرُون، ف {جميع} وقع مبتدأ وخبرُه {حاذرون}، والجملة خبر {إنَّ}، وجميع بمعنى: كل كقوله تعالى: {إليه مرجعكم جميعًا} في سورة يونس (4).
و{حَاذِرون} قرأه الجمهور بدون ألف بعد الحاء فهو جمع حَذِر وهو من أمثلة المبالغة عند سيبويه والمحققين.