فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر وخلف بألف بعد الحاء جمع حَاذر بصيغة اسم الفاعل.
والمعنى: أن الحَذَر من شيمته وعادته فكذلك يجب أن تكون الأمة معه في ذلك، أي إنا من عادتنا التيقظ للحوادث والحَذرُ مما عسى أن يكون لها من سيّىء العواقب.
وهذا أصل عظيم من أصول السياسة وهو سدّ ذرائع الفساد ولو كان احتمالُ إفضائها إلى الفساد ضعيفًا، فالذرائع الملغاة في التشريع في حقوق الخصوص غير ملغاة في سياسة العموم، ولذلك يقول علماء الشريعة: إن نظر ولاة الأمور في مصالح الأمة أوسع من نظر القضاة، فالحذر أوسع من حفظ الحقوق وهو الخوف من وقوع شيء ضار يمكن وقوعه، والترصدُ لِمنع وقوعه، وتقدم في قوله: {يَحْذَر المنافقون} في براءة (64).
والمحمود منه هو الخوف من الضارّ عند احتمال حدوثه دون الأمر الذي لا يمكن حدوثه فالحذرُ منه ضرب من الهوس.
وهذا يرجح أن يكون المحذور هو الاغترار بإيمان السحرة بالله وتصديق موسى ويبعِّد أن يكون المراد خروج بني إسرائيل من مصر لأنه حينئذ قد وقع فلا يحذر منه وإنما يكون السعي في الانتقام منهم.
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)}.
إن جريت على ما فسّر به المفسرون قولَه: {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين} [الشعراء: 53] لزمك أن تجعل الفاء في قوله: {فأخرجناهم} لتفريع الخروج على إرسال الحاشرين، أي ابتدأ بإرسال الحاشرين وأعقب ذلك بخروجه، فالتعقيب الذي دلت عليه الفاء بحسب ما يناسب المدة التي بين إرسال الحاشرين وبين وصول الأنباء من أطراف المملكة بتعيين طريق بني إسرائيل إذ لا يخرج فرعون بجنده على وجهه، غير عالم بطريقهم.
وضمير النصب عائد إلى فرعون ومن معه مفهومًا من قوله: {إنكم متَّبَعون} [الشعراء: 52].
وإنْ جريت على ما فسرنا به قوله تعالى: {فأرسل فرعون} [الشعراء: 53] ولا إخالك إلا منشرح الصدر لاختيار ذلك، فلْتَجعَلْ الفاءَ في {فأخرجناهم} تفريعًا على جملة: {إنكم متَّبَعون} [الشعراء: 52].
والتقدير: فأسرى موسى ببني إسرائيل فأخرجنا فرعون وجنده من بلادهم في طلب بني إسرائيل فاتَّبعوا بني إسرائيل.
وضمير: {أخرجناهم} على كل تقدير عائد إلى ما يفهم من المقام، أي أخرجنا فرعون وجنده.
والجنات: جنات النخيل التي كانت على ضفاف النيل.
والعيون: منابع تحفر على خِلجان النيل.
والكنوز: الأموال المدخرة.
والمقام: أصله محل القيام أو مصدر قَام.
والمعنى على الأول: مساكن كريمة، وعلى الثاني: قيامهم في مجتمعهم، والكريم: النفيس في نوعه.
وذلك ما كانوا عليه من الأمن والثروة والرفاهية، كل ذلك تركه فرعون وجنوده الذين خرجوا منه لمطاردة بني إسرائيل لأنهم هلكوا فلم يرجعوا إلى شيء مما تركوا.
{كذلك} تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى: {كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبْرًا} في سورة الكهف (91).
فهو بمنزلة الاعتراض.
وجملة: {وأورثناها بني إسرائيل} معترضة أيضًا والواو اعتراضية وليست عطفًا لأجزاء القصة لما ستعلمه.
والإيراث: جعل أحد وارثًا.
وأصله إعطاء مال الميت ويطلق على إعطاء ما كان ملكًا لغير المعطَى بفتح الطاء كما قال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارقَ الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} [الأعراف: 137]، أي أورثنا بني إسرائيل أرض الشام، وقال: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [فاطر: 32].
والمعنى: أن الله أرزأ أعداء موسى ما كان لهم من نعيم إذ أهلكهم وأعطى بني إسرائيل خيرات مثلها لم تكن لهم، وليس المراد أنه أعطى بني إسرائيل ما كان بيد فرعون وقومه من الجنات والعيون والكنوز، لأن بني إسرائيل فارقوا أرض مصر حينئذ وما رجعوا إليها كما يدل عليه قوله في سورة الدخان (28) {كذلك وأورثناها قومًا آخرين} ولا صحة لما يقوله بعض أهل قصص القرآن من أن بني إسرائيل رجعوا فملكوا مصر بعد ذلك، فإن بني إسرائيل لم يملكوا مصر بعد خروجهم منها سائر الدَّهر فلا محيص من صرف الآية عن ظاهرها إلى تأويل يدل عليه التاريخ ويدل عليه ما في سورة الدخان.
فضمير {أورثناها} هنا عائد للأشياء المعدودة باعتبار أنها أسماء أجناس، أي أورثنا بني إسرائيل جناتتٍ وعيونًا وكنوزًا، فعَود الضمير هنا إلى لفظ مستعمل في الجنس وهو قريب من الاستخدام وأقوى منه، أي أعطيناهم أشياء ما كانت لهم من قبل وكانت للكنعانيين فسلط الله عليهم بني إسرائيل فغلبوهم على أرض فلسطين والشام.
وقد يعود الضمير على اللفظ دون المعنى كما في قولهم: عندي درهم ونصفُه، وقوله تعالى: {إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثُها إن لم يكن لها ولد} [النساء: 176]، إذ ليس المراد أن المرء الذي هلك يرث أخته التي لها نصف ما ترك بل المراد: والمرء يرث أختًا له إن لم يكن لها ولد، ويجوز أن يكون نصب الضمير لفعل {أورثنا} على معنى التشبيه البليغ، أي أورثنا أمثَالها.
وقيل ضمير: {أورثناها} عائد إلى خصوص الكنوز لأن بني إسرائيل استعاروا ليلة خروجهم من جيرانهم المصريين مصوغهم من ذهب وفضة وخرجوا به كما تقدم في سورة طه.
ويجوز عندي وجه آخر وهو أن تكون جملة {فأخرجناهم من جنات} إلى قوله: {وأورثناها} حكاية لكلام من الله معترض بين كلام فرعون.
وضمير {فأخرجناهم} عائد إلى قوم فرعون المفهوم من قوله: {في المدائن} [الشعراء: 53]، أي فأخرجنا أهل المدائن.
وحذف المفعول الثاني لفعل {أورثناها}.
والتقدير: وأورثناها غيرهم، ويكون قوله: {بني إسرائيل} بيانًا لاسم الإشارة في قوله: {إن هؤلاء} [الشعراء: 54] سلك به طريق الإجمال ثم البيان ليقع في أنفس السامعين أمكن وقْع.
وجملة: {فأتبعوهم مشرقين} مفرعة على جملة: {فأخرجناهم} وما بينهما اعتراض.
والتقدير: فأخرجناهم فأتبعوهم.
والضمير المرفوع عائد إلى ما عاد عليه ضمير النصب من قوله: {فأخرجناهم}، وضمير النصب عائد إلى {عبادي} [الشعراء: 52] من قوله: {أن اسْرِ بعبادي} [الشعراء: 52].
و{أتْبعوهم} بهمزة قطع وسكون التاء بمعنى تَبع، أي فلحقوهم.
و{مشرقين} حال من الضمير المرفوع يجوز أن يكون معناه قاصدين جهة الشرق يقال: أشرق، إذا دخل في أرض الشرق، كما يقال: أنجد وأتهم وأعرق وأشأم، ويعلم من هذا أن بني إسرائيل توجهوا صوب الشرق وهو صوب بحر القلزم وهو البحر الأحمر وسمي يومئذ بحر سُوف وهو شرقي مصر.
ويجوز أن يكون المعنى داخلين في وقت الشروق، أي أدركوهم عند شروق بعد أن قضوا ليلة أو ليالي مشيًا فما بصر بعضهم ببعض إلا عند شروق الشمس بعد ليالي السفر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)}.
قلنا: الوحي لغةَ: إعلام بخفاء، وشرعًا: إعلام من الله لرسول من رسله بمنهج خير لخَلْقه.
ومن الوحي المطلق قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتًا} [النحل: 68].
وقوله سبحانه: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121].
وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7].
فالوحي العام إذن لا نسأل عن الموحِي، أو الموحَى إليه، أو موضوع الوحي، فقد يكون الوحي من الشيطان، والموحَى إليه قد يكون الأرض أو الملائكة أو الحيوان، على خلاف الوحي الشرعي، فهو محدد ومعلوم.
لقد قام فرعون بحملة دعاية لهذه المعركة مع موسى عليه السلام وحشد الناس لمشاهدة هذه المباراة، وهذا دليل على أنه قدَّر أنه سيغَلِب، لكن خيَّب الله ظنه، وكانت الجولة لمصلحة موسى عليه السلام، فآمن السحرة بالله تعالى رب موسى وهارون، فأخذ يهددهم ويتوعدهم، وهو يعلم أنَّ ما رأوْه من الآيات الباهرات يستوجب الإيمان.
ومع ذلك لما غُلِب فرعون وضاعتْ هيبته وجباريته وقاهريته سكت جمهور الناس، فلم ينادوا بسقوطه، واكتفوا بسماع أخبار موسى، وظل هذا الوضع لمدة طويلة من الزمن حدث فيها الآيات التسع التي أنزلها الله ببني إسرائيل.
ومن غباء فرعون أن ينصرف عن موسى بعد أن أصبح له أتباع وأنصار، ولم يحاول التخلص منه حتى لا يزداد أتباعه وتقوى شوكته، فكأن مسألة الآيات التسع التي أرسلها الله عليهم قد هَدَّتْ كيانه وشغلته عن التفكير في آمر موسى عليه السلام.
وهكذا استشرى أمر موسى وأصبحت له إغلبية وشعبية، حتى إن الأقباط أتباع فرعون كانوا يعطفون على أمر موسى وقومه؛ لذلك استعاروا من القبط حُليَّ النساء قبل الخروج مع موسى، ومن هذه الحلي صنع السامري العجل الذي عبدوه فيما بعد.
وهنا يقول تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} [الشعراء: 52] وقبل ذلك نبَّهه ربه للخروج بعد أن قتل الرجل: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين} [القصص: 20].
أما الآن، فالمؤامرة عليه وعلى مَنْ معه من المؤمنين.
ومعنى {أَسْرِ} [الشعراء: 52] الإسراء: المشي ليلًا {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} [الشعراء: 52] يعني: سيتبعكم جنود فرعون ويسيرون خلفكم.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن} الفاء هنا للتعقيب، فوَحْى الله لموسى أن يَسْري ببني إسرائيل تَمَّ قبل أن يبعثَ فرعون في المدائن حاشرين، وكأن الله تعالى يحتاط لنبيه موسى ليخرج قبل أن يهيج فرعونُ الناسَ، ويجمعهم ضد موسى ويُجري لهم ما نسميه نحن الآن غسيل مخ، أو يعلن على موسى وقومه حرب الأعصاب التي تؤثر على خروجهم.
و{حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] من الحشر أي: الجمع، لكن جمع هذه المرة للجنود لا للسحرة، لأنهم هُزِموا في مُباراة السحرة، فأرادوا أنْ يستخدموا سلاحًا آخر هو سلاح الجبروت والتسلُّط والحرب العسكرية، فإنْ فشلت الأولى فلعلّ الأخرى تفلح، لكن الحق تبارك وتعالى أخبر نبيه موسى بما يُدبِّر له وأمره بالخروج ببني إسرائيل.
وقَوْل فرعون عن أتباع موسى: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] يريد أن يُهوِّن من شأنهم ويُغري قومه بهم، ويُشجِّعهم على مواجهتهم، لكن مع ذلك يُحذِّرهم من خطرهم، فيقول: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} [الشعراء: 55] فأَعِدُّوا لهم العدة، ولا تستهينوا بأمرهم.
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)}.
يعني: لابد أن نأخذ حذرنا ونحتاط للأمر.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ} أي: لم ينفعه احتياطه، ولم يُجْدِ حذره، فلا يمنع حَذَر من قَدَر {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ} [الشعراء: 57] أي: بساتين وحدائق {وَعُيُونٍ} [الشعراء: 57] أي: عيون تجري بالماء {وَكُنُوزٍ} [الشعراء: 58] كانت عندهم {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] يعني: عيشة مُتْرفة في سَعَةٍ ورَغَدٍ من الحياة، وخدَم وحَشَم.
ثم يقول الحق سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ}.
{كَذَلِكَ} [الشعراء: 59] أي: الأمر كما أقول لكم وكما وصفتُ {وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] أي: أورثنا هذا النعيم من بعدهم لبني إسرائيل، وهنا قد يسأل سائل: كيف وقد ترك بنو إسرائيل مصر وخرجوا منها، ولم يأخذوا شيئًا من هذا النعيم؟
قالوا: المعنى أورثهم الله أرضًا مثلها، قد وعدهم بها في الشام.
{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)} أي: عند الشروق، وعادةً ما تكون الغارة على الجيش عند الصباح، ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ المنذرين} [الصافات: 177].
وعادةً ما يقوم الإنسان من النوم كسولًا غير نشيط، فكيف بمَنْ هذه حاله إِن التقى بعدوه؟. اهـ.