فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما ما قاله في تزييف ما قيل فليس بشيء أيضًا لأن نسبة التكذيب إلى كل قوم من الأقوام الذين نسب إليهم إنما هي باعتبار الأكثر كما يرشد إليه قوله تعالى في قصة قوم نوح عليه السلام حكاية عنهم بعد أن قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} [الشعراء: 105] {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الارذلون} [الشعراء: 111] وقوله عز وجل بعد ذلك حكاية عن نوح عليه السلام ما قال في جوابهم {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} [الشعراء: 114] فيكون ضمير {أَكْثَرُهُمْ} راجعًا إلى القوم غير ملاحظ فيهم ذلك.
ومثله كثير في الكلام؛ ويراد بالأكثر في المواضع السبعة جمع موصوفون بزيادة الكثرة سواء كان البعض المؤمن واحدًا أو أكثر فلا يرد أنه كيف يعبر عن قوم إبراهيم عليه السلام بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن لو لوط عليه السلام فتأمل انتهى، ولا يخفى ما فيه من الغث والسمين.
وأنا أختار كما اختار شيخ الإسلام رجوع الضمير إلى قوم نبينا عليه الصلاة والسلام وأول السورة الكريمة وآخرها في الحديث عنهم وتسليته صلى الله عليه وسلم عما قالوه في شأن كتابه الأكرم ونهيه صريحًا وإشارة عن أن يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات وكل ذلك يقتضي اقتضاءً لا ريب فيه رجوع الضمير إلى قومه عليه الصلاة والسلام ويهون أمر عدم رجوعه إلى الأقرب لفظًا ويكون الارتباط على هذا بين الآيات أقوى.
واختار أن الإشارة إلى ما تضمنته القصة وأن المعنى أن فيما تضمنته هذه القصة لآية عظيمة دالة على ما يجب على قومك الإيمان به من شئونه عز وجل وما كان أكثرهم مؤمنين بذلك وكذا يقال في جميع ما يأتي إن شاء الله تعالى وكل ذلك على نمط ما تقدم وكذا الكلام في {كَانَ} وما يتعلق بالجملة.
والكلام في قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} كالكلام فيما تقدم أيضًا، ولعل تخريج ما ذكر على هذا الوجه أحسن من تخريج شيخ الإسلام فتأمل والله تعالى أعلم بحقائق ما أنزله من الكلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)} أي لما بلغ فرعون وجنوده قريبًا من مكان جموع بني إسرائيل بحيث يرى كل فريق منهما الفريق الآخر.
فالترائي تَفاعل لأنه حصول الفعل من الجانبين.
وقولهم: {إنا لمُدْرَكون} بالتأكيد لشدة الاهتمام بهذا الخبر وهو مستعمل في معنى الجزع.
و{كَلاَّ} ردع.
وتقدم في سورة مريم (79) {كلا سنكتب ما يقول} ردع به موسى ظنهم أنهم يدركهم فرعون، وعلَّل رَدْعهم عن ذلك بجملة: {إن معي ربي سيهدين}.
وإسناد المعية إلى الرب في {إن معي ربي} على معنى مصاحبة لطف الله به وعنايته بتقدير أسباب نجاته من عدوه.
وذلك أن موسى واثق بأن الله منجيه لقوله تعالى: {إنّا معكم مستَمعون} [الشعراء: 15]، وقوله: {اسْرِ بعبادي إنكم مُتَّبعون} [الشعراء: 52] كما تقدم آنفًا أنه وعد بضمان النجاة.
وجملة: {سيهدين} مستأنفة أو حال من {ربّي}.
ولا يضر وجود حرف الاستقبال لأن الحال مقدرة كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {قال إني ذاهب إلى ربّي سَيَهْدِين} [الصافات: 99].
والمعنى: أنه سيبيّن لي سبيل سلامتنا من فرعون وجنده.
واقتصر موسى على نفسه في قوله: {إن معي ربي سيهدين} لأنهم لم يكونوا عالمين بما ضَمن الله له من معيّة العناية فإذا علموا ذلك علموا أن هدايته تنفعهم لأنه قائدهم والمرسل لفائدتهم.
ووجه اقتصاره على نفسه أيضًا أن طريق نجاتهم بعد أن أدركهم فرعون وجنده لا يحصل إلا بفعل يقطع دابر العدوّ، وهذا الفعل خارق للعادة فلا يقع إلا على يد الرسول.
وهذا وجه اختلاف المعية بين ما في هذه الآية وبين ما في قوله تعالى في قصة الغار {إذ يقول لصاحبه لا تحزَنْ إن الله معنا} [التوبة: 40] لأن تلك معية حفظهما كليهما بصرف أعين الأعداء عنهما، وقد أمره الله أن يضرب بعصاه البحر وانفلق البحر طُرقًا مرّت منها أسباط بني إسرائيل، واقتحم فرعون البحر فمدّ البحرُ عليهم حين توسطوه فغرق جميعهم.
والفِرْق بكسر الفاء وسكون الراء: الجزء المفروق منه، وهو بمعنى مفعول مثل الفِلق.
والطود: الجبل.
و{أزلفنا} قربنا وأدنينا، مشتق من الزلف بالتحريك وهو القرب.
والظاهر أن فعله كفرح.
ويقال: ازدلف: اقترب، وتزلف: تقرب، فهمزة {أزلفنا} للتعدية.
والمعنى أن الله جرأهم حتى أرادوا اقتحام طرق البحر كما رأوا فعل بني إسرائيل يظنون أنه ماء غير عميق.
والآخرون: هم قوم فرعون لوقوعه في مقابلة فريق بني إسرائيل.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)}.
تقدم القول في نظيره آنفًا قبل قصة موسى.
وكانت هذه القصة آية لأنها دالة على أن ذلك الانقلاب العظيم في أحوال الفريقين الخارج عن معتاد تقلبات الدول والأمم دليل على أنه تصرف إلهي خاص أيد به رسوله وأمته وخضّد به شوكة أعدائهم ومن كفروا به، فهو آية على عواقب تكذيب رسل الله مع ما تتضمنه القصة من دلائل التوحيد.
ووجه تذييل كل استدلال من دلائل الوحدانية وصدق الرسل في هذه السورة بجملة: {إن في ذلك لآية}. إلى آخرها تقدم في طالعة هذه السورة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)}.
معنى: {تراءا الجمعان} [الشعراء: 61] أي: صار كل منهما يرى الآخر، وحدثتْ بينهما المواجهة، وعندها {قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] فالحال أن البحر من أمامهم وجنود فرعون من خلفهم، فلا مناصَ ولا مهرب، لكن موسى عليه السلام وقد سبق أن تعلم كلمة {كلا} من ربه تعالى، حينما قال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 14] فردّ عليه ربه: {كَلاَّ} [الشعراء: 62] عندها تعلَّمها موسى، وعرف كيف ومتى يقوله قَوْلةَ الواثق بها.
{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)}.
لكن كيف يقول موسى عليه السلام هذه الكلمة {كلا} بملء فِيهِ، والأمر بقانون الماديات أنه عُرْضة لأنْ يُدْرَك قبل أن يكملها؟
والإجابة في بقية الآية: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] فلم يقُلْ موسى: كَلاّ اعتمادًا على قوته واحتياطه للأمر، إنما قالها اعتمادًا على ربه الذي يكلؤه بعينه، ويحرسه بعنايته.
فالواقع أنني لا أعرف ماذا أفعل، ولا كيف أتصرف، لكن الشيء الذي أثق منه {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] لذلك يأتي الفرج والخلاص من هذا المأزق مباشرة: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى}.
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)}.
ذلك لأن البحر هو عائقهم من أمامهم، والبحر مياه لها قانونها الخاص من الاستطراق والسيولة، فلما ضرب موسى بعصاه البحر انفلق وانحصر الماء على الجانبين، كل فِرْقٍ أي: كل جانب كالطودْ يعني الجبل العظيم.
لكن بعد أن صار الماء إلى ضِدِّه وتجمّد كالجبل، وصنع بين الجبلين طريقًا، أليس في قاع البحر بعد انحسار الماء طين ورواسب وأوحال وطمي يغوص فيها الإنسان؟
إننا نشاهد الإنسان لا يكاد يستطيع أن ينقل قدمًا إذا سار في وحل إلى ركبتيه مثلًا، فما بالك بوحْل البحر؟
لذلك قال له ربه: {لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تخشى} [طه: 77].
فالذي جعل الماء جبلًا، سيجعل لك الطريق يابسًا.
والحق تبارك وتعالى لم يُبيِّن لنا في انفلاق البحر، إلى كَمْ فلقة انفلق، لكن العلماء يقولون: إنه انفلق إلى اثنتي عشرة فلقة بعدد الأسباط، بحيث يمر كل سَبْط من طريق.
وفي لقطة أخرى من القصة أراد موسى عليه السلام أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى طبيعته، فيسُدُّ الطريق في وجه فرعون وجنوده على حَدِّ تفكيره كبشر، لكن الحق تبارك وتعالى نهاه عن ذلك: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ واترك البحر رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 23- 24].
اتركه على حاله ليُغري الطريق اليابس فرعون وجنوده، لذلك قال سبحانه: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين}.
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)} أي: قرّبناهم من منتصف البحر، ثم أطبقه الله عليهم حين أمر الماء أن يعود إلى سيولته وقانون استطراقه، وهكذا يُنجِّي الله ويُهلِك بالشيء الواحد و{الآخرين} [الشعراء: 64] يعني: قوم فرعون، و{ثَمَّ} [الشعراء: 64] أي: هناك وسط البحر.
وللعصا مع موسى عليه السلام تاريخ طويل منذ أن سأله ربه {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] فأخبر بما يعرفه عنها {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18].
وقوله: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] لا تعني كما يظن البعض أنها مجرد الإشارة بها إلى الغنم أو ضربها، فأهشُّ تعني أضرب بها أوراقَ الشجر لتتساقط، فتأكلها الأغنام الصغار التي لا تطول أوراقَ الشجر، أو الكبار التي أكلتْ ما طالته أعناقها وتحتاج المزيد.
ولما وجد موسى نفسه قد أطال في هذا المقام قال: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] كأنْ أدافع بها عن نفسي ليلًا، إنْ تعرَّض لي كلب أو ذئب مثلًا، أو أغرسها في الأرض وأُلقي عليها بثوبي لأستظلَّ به وقت القيلولة، أو أجعلها على كتفي وأُعلِّق عليها متاعي حين أسير. إلخ.
هذه مهمة العصا كما يراها موسى عليه السلام لكن للعصا مهمة أخرى لا يعلمها، فهي حُجّته وآية من الآيات التي أعطاه الله، فبها انتصر في معركة الحجة مع السَّحَرة، وبها انتصر في معركة السلاح حين ضرب بها البحر فانفلق.
ومن العجيب في أمر العصا أن يضرب بها البحر، فيصر جبلًا، ويضرب بها الحجر فينفجر بالماء، وهذه آيات باهرات لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
لذلك جعلوا عصا موسى حجة ودليلًا وعَلَمًا على الانتصار في كل شيء، فلما كان الخصيب واليًا على مصر، وتمرد عليه بعض قُطَّاع الطرق، وكانت لديه القوة التي قهرهم بها، لذلك قال:
فَإِنْ يَكُ بَاقٍ إِفْكُ فِرْعوْنَ فيكُمْ ** فَإنَّ عَصَا مُوسَى بكَفِّ خَصِيبِ

وفي هذا المعنى يقول شاعر آخر:
إذَا جَاءَ مُوسَى وأَلْقَى العَصَا ** فَقَدْ بَطُلَ السِّحْرُ والسَّاحِرُ

إذن: صارتْ عصا موسى عليه السلام مثَلًا وعَلَمًا للغَلبة في أيِّ مجال من مجالات الحياة.
{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)}.
فقد حُسِمتْ هذه المعركة لصالح موسى ومَنْ معه دون إراقة دماء، ودون خسارة جندي واحد، في حين أن المعارك على فرض الانتصار فيها لابد أن تكون لها نسبة خسائر في الأرواح وفي العَتَاد، أما هذه فلا.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} أي: بنفس السبب الذي أنجى الله به موسى وقومَه أهلك فرعون وقومه؛ لأنه وحده سبحانه القادر على أن يُنجِي، وأنْ يُهلِك بالشيء الواحد.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)}.
قوله سبحانه {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 67] أي: فيما حدث {لآيَةً} [الشعراء: 67] وهي الأمر العجيب الذي يخرج عن المألوف وعن العادة، فيثير إعجاب الناس، ويستوجب الالتفات إليه والنظر فيه، والآية تُقنِع العقل بأن الله هو مُجْريها على يَدَيْ موسى، وتدل على صِدْق رسالته وبلاغة عن الله، وإلا فهي مسألة فوق طاقة البشر.
ومع ذلك {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 67] أي: أن المحصلة النهائية للذين آمنوا كانوا هم القلة مع هذه الآيات، حتى الذين آمنوا مع موسى عليه السلام واتبعوه وأنجاهم الله من آل فرعون ومن الغرق، سرعان ما تراجعوا وانتكسوا، كما يحكي القرآن عنهم:
{وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
سبحان الله، لقد كفروا بالله، وما تزال أقدامهم مُبتلَّة من عبور البحر، وما زالوا في نَشوة النصر وفرحة الغلبة!!.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} أي: بعد ما مرّ من حيثيات فإن الله تعالى هو العزيز، أي: الذي لا يُغلَب ولا يُقهَر، إنماهو الغالب وهو القاهر، فهو سبحانه يغلِب ولا يُغلب، ويُطعِم ولا يُطعَم، ويُجير ولا يُجار عليه. ومع عِزته سبحانه وقوته بحيث يغلب ولا يُغلب هو أيضًا {الرحيم} [الشعراء: 68] لأنه رب الخَلْق أجمعين، يرحمهم إنْ تابوا، ويقبلُهم إنْ رجعوا إلى ساحته، كما جاء في الحديث الشريف: «لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح». اهـ.