فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
التفسير: قال جار الله: معنى طسم إن آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين وقد مر مثله في أول يوسف. والبخع الإهلاك وقد مر في اول الكهف. عزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا ينفع كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا ينفع. ثم بين أنه قادر على تنزيل آية ملجئة إلى الإيمان ولكن المشيئة والحكمة تقتضيان بناء الأمر على صورة الاختبار. قال صاحب الكشاف: وجه عطف {فظلت} على {ننزل} كما قيل في قوله: {فاصدق وأكن} [المنافقون: 10] كأنه قيل: أنزلنا فظلت. وأقول: الظاهر أن الفاء في {فظلت} لسببية بدليل عدم المستتر فيه كما في {ننزل}. ووجه العدول إلى الماضي كما قيل في {ونادى} [الأعراف: 48] {وسيق} [الزمر: 73] وجه مجيء {خاضعين} خبرًا عن الأعناق إذ الأعناق تكون مقحمًا لبيان موضع الخضوع. وأصل الكلام: فظلوا لها خاضعين أي حين وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل {خاضعين} كقوله: {والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين} [يوسف: 4] وقيل: أعناقهم رؤساؤهم كما يقال لهم الرءوس والصدور. وقيل: اراد جماعاتهم. يقال: جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. عن ابن عباس: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة. ومعنى {ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث} قد مر في سورة الأنبياء. نبه سبحانه بذلك على أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين غلى الإيمان حكيم يأتيهم بالقرآن حالًا بعد حال رعاية لقاعدة التكليف.
ثم ذكر أنه تعالى لا يحدد لهم توجيه موعظة وتذكير إلا جددوا ما هو نقيض المقصود، وذلك النقيض هو الإعراض والتكذيب والاستهزاء وهذا ترتيب في غاية الحسن كأنه قيل حين أعرضوا عن الذكر: فقد كذبوا به وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره حتى صار عرضة للاستهزاء. وهذه درجات من أخذ في الشقاء فإنه يعرض أوّلًا، ثم يصرح بالتكذيب ثانيًا، ثم يبلغ في التكذيب والإنكار إلى حيث يستهزئ. وفي قوله: {فسيأتيهم} وعيد لهم بعذاب بدر أو يوم القيامة وقد مر مثله في أول الأنعام. ثم بين أنه مع حكمته في إنزال القرآن حالًا بعد حال رحيم يظهر من الدلائل الحسية ما يكفي للمتأمل في باب النظر والاستدلال. والزوج الصنف والكريم نعت لكل ما يرضى ويحمد في بابه منه وجه كريم إذا رضي في حسنه وجماله، وكتاب كريم مرضي في مبانيه، ونبات كريم مرضي فيما يتعلق به من المنافع، فما من نبت إلا وفيه نفع وفائدة من جهة وإن كانت فيه مضرة من جهة أخرى. ويحتمل أن يراد بالكريم النافع منه وتكون المضارّ مسلوبة عنه. قال جار الله: معنى الجمع بين كم وكل دون أن يقول كم أنبتنا فيها من زوج كريم هو أن كلا قد دل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، وكم دل على أن هذا محيط مفرط الكثرة. قلت: فالحاصل أن خلق النوع يصدق بخلق فرد واحد منه كما يصدق بخلق أفراد كثيرة. فقوله: {كل زوج} إشارة إلى خلق كل نوع من أنواع النبات، وقوله: {كم أنبتنا} إشارة إلى كثرة افراد كل نوع منه وفيه تنبيه على كمال القدرة ونهاية الجود والرحمة ولهذا ختم الكلام بقوله: {إن في ذلك} الإنبات أو في كل واحد من تلك الأزواج {لآية} على الإبداء والإعادة {وما كان أكثرهم مؤمنين} لأن الله تعالى طبع على قلوبهم {وإن ربك لهو العزيز الرحيم} فمن عزته قدر على عقوبتهم ومن رحمته بين لهم الدلائل ليتفكروا ويعتبروا، والرحمة إذا صدرت عن القدرة كانت أعظم موقعًا، واعلم أنه سبحانه كرر بعض الآيات في هذه السورة لأجل التأكيد والتقرير؛ فمن ذلك أنه كرر قوله: {إن في ذلك لآية} إلى قوله: {الرحيم} في ثمانية مواضع: أولها في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية في قصة موسى، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب. ومن ذلك قوله: {ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} وهو مذكور في خمسة مواضع: في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
ومن ذلك أنه كرر {فاتقوا الله وأطيعون} في قصة نوح وهود وصالح وليس في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاَّ على رب العالمين} [الشعراء: 109] لذكرها في مواضع من غير هذه السورة. وليس في قصة موسى لأنه رباه فرعون حيث قال: {ألم نربك فينا وليدًا} ولا في قصة إبراهيم لأن اباه في المخاطبين حيث يقول: {إذ قال لأبيه وقومه} [الأنبياء: 52] وهو قد ربَّاه فاستحيا موسى وإبراهيم أن يقولا {وما أسألكم عليه من أجر} وإن كانا منزهين من طلب الأجر.
ثم إنه تعالى أعاد في هذه السورة قصص الأنبياء المشهورين مع أممهم اعتبارًا لهذه الأمة، وبدأ بقصة موسى لما فيها من غرائب الأحوال وعجائب الأمور. والنداء المسموع عند الأشعري هو الكلام القديم الذي لا يشبه الحروف والأصوات، وعند المعتزلة وإليه ميل أبي منصور الماتريدي أنه من جنس الحروف والأصوات وأنه وقع على وجه علم به موسى أنه من قبل الله تعالى وقد عرفه أنه سيظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك. قال جار الله: قوله: {ألا يتقون} كلام مستأنف فيه تعجيب لموسى من حالهم الشنعاء في قلة خوفهم وكثرة ظلمهم، أو حال أدخلت عليه همزة الإنكار. ثم إن موسى خاف أن يذكب عند أداء الرسالة فاستظهر بهارون. وفي قراءة النصب خاف التكذيب المستتبع لضيق الصدر المستلزم لاحتباس اللسان عن الجريان في الكلام، ولعله اراد بهذه الحبسة عقدة في لسانه قبل إجابة دعوته أو بقية يروى أنها بقيت بعد الإجابة كما مر في طه. ومعنى {فأرسل إلى هارون} أرسل إليه جبريل واجعله نبيًا يصدقني في أمري فاختصر الكلام اختصارًا. ثم ذكر أن لهم عليه ذنبًا فسمى جزاء الذنب ذنبًا، أو المضاف محذوف اي تبعه ذنب وهو قود قتل القبطي كما سيجيء تفصيله في سورة القصص. فيمكن أن يقتل قبل أداء الرسالة فلا يتمكن من المقصود، وهذا قد جوزه الكعبي وغيره من البغداديين. وقال الأكثرون: الأقرب من حال الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه يمكنهم من أدائها فلا معنى للخوف من القتل قبل الأداء. نعم لو خاف بعد الأداء جاز وذلك لما جبل عليه طبع الإنسان من التنفر عن القتل فيسأل الله الأمان من ذلك وقد جمع الله له بقوله: {كلا} الكلاءة وبقوله: {فاذهبا} استنباء أخيه كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون {ومعكم ومستمعون} خبران لأن أو الخبر {مستمعون} و{معكم} متعلق به. ولا يخفى ما في المعية من المجاز لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد معية النصرة والمعونة، وأما الاستماع فمجاز أيضًا وإن كان إطلاق السمع على الله حقيقة لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء ولابد فيه من الجارحة.
فحاصل الآية إنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه. وإنما وحد الرسول في قوله: {إنا رسول رب العالمين} لأنه أراد كل واحد أو أراد الرسول بمعنى المصدر أي ذو رسالة رب العالمين. يقال: أرسلتهم برسول اي برسالة أو جعلا لاتفاقهما واتحاد مطلبهما كرسول واحد. وههنا إضمار دل عليه سياق الكلام أي فأتيا فرعون فقالا له ذلك. يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هاهنا إنسانًا يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة فعرف أنه موسى فعند ذلك قال: {ألم نربك فينا وليدًا} أي صبيًا وذلك لقرب عهده من الولادة. قيل: مكث فيهم ثلاثين سنة من أول عمره. وقيل: وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة ففر منهم. والفعلة الوكزة عدد عليه نعمه، ثم وبخه بقتل نفس منهم وسماه كافرًا لنعمه بسبب ذلك. وجوز جار الله أن يراد وأنت إذ ذاك ممن يكفر بالساعة فيكون قد افترى على موسى أو جهل أمره لأنه كان يعايشهم بالتقية. وإنما قلنا إنه افتراء أو جهل لأن الكفر غير جائز على الأنبياء ولو قبل النبوة، ويجوز أن يراد أنه من الكافرين بفرعون وإلهيته أو بآلهة كانوا يعبدونها. قال تعالى: {ويذرك وآلهتك} [الأعراف: 127] ثم إن موسى ما أنكر تربيته ولكن أنكر الكفر فلم ينسب نفسه إلا إلى الضلال وأراد به الذهاب عن الصواب، أو أراد النسيان أو الخطأ وعدم التدبر في أدبار الأمور. ثم ذكر موهبة ربه في حقه حين فر من فرعون وملئه المؤتمرين بقتله. والحكم العلم بالتوحيد وكمال العقل والرأي، ولا تدخل فيه النبوة ظاهرًا لئلا يلزم شبه التكرار بقوله: {وجعلني من المرسلين} قال جار الله {وتلك} إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بعد أن فسرت بقوله: {أن عبدت} نظيره قوله: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع} [الحجر: 66] والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ كأنه أبى أن يسمي نعمته إلا نقمة لأن تعبيدهم أي تذليلهم واتخاذهم عبيدًا وقصدهم. بذبح أبنائهم صار هو السبب في حصوله عنده وفي تربيته فلهذا قال الزجاج: أن مع ما بعده في موضع نصب أي إنما صارت نعمة عليّ لأن عبدت بني إسرائيل إذ لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم ومن هنا قال جار الله: إن قول موسى {فعلتها إذن} جواب لقول فرعون {وفعلت فعلتك} وجزاء له كأن فرعون قال: جازيت نعمتي بما فعلت. فقال موسى: فعلتها مجازيًا لك وإن نعمتك جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء.
وقال الحسن: أراد أنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت عليّ فلا نعمة لك بالتربية على أن التربية كانت من قبل أمي وعشيرتي ولم يكن منك إلا أنك لم تقتلني. وقيل: اراد أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في الإطعام والكسوة.
واعلم أن للعلماء خلافًا في نعمة الكافر فقيل: إنها لا تستحق الشكر لأن الكافر يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر لإنعامه لزم الجمع بين الإهانة والتعظيم في حق شخص واحد في وقت واحد. وقيل: لا يبطل بالكفر إلا الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان، وفي الآية نوع دلالة على كل من القولين. ثم إن موسى حين أدى رسالته من قوله: {إنا رسول رب العالمين} {قال فرعون وما رب العالمين} وقد سبق مرارًا أن كفره احتمل أن يكون كفر عناد وأ، يكون كفر جهالة، والذي يختص بالمقام هو أن ما يطلب به حقيقة الشيء وماهيته، وهذا هو الذي قصده فرعون بسؤاله ولم يعرف أن الماهية لا تطلق على ذاته تعالى إذ لا أجزاء لها حدية ولا تقديريه ولا بأي وجه فرض ضرورة انتهاء الكل إليه واستغنائه عن الكل من كل الوجوه، فلا يصح أن يسأل عنه بما هو ولا بكيف هو ولا بأي شيء هو ولا بهل هو، غاية ذلك أن ينبه على وجوده الذي هو أظهر الأشياء بلوازمه وآثاره على وجه يعم الكل كما يقال: إنه رب السموات والأرض وما بينهما، أو بأخص من ذلك بأن يقال مثلًا: {ربكم ورب آبائكم الأولين} وهو الاستدلال بالأنفس أو يقال: {رب المشرق والمغرب وما بينهما} من الجهات المفروضة على السماء من لدن طلوع الكواكب إلى غروبها وبالعكس وهو الاستدلال بالآفاق. وقد راعى في الجواب الأول طريقة اللطف فختم بقوله: {إن كنتم موقنين} أي إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وجلائه. وخاشنهم في الأخير بقوله: {إن كنتم تعقلون} حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله: {إن كنتم تعقلون} حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله: {إن رسولكم} ويمكن أن يراد بقوله: {وما بينهما} ثانيًا ما بين المشرق والمغرب من المخلوقات فيكون الفرق بين هذا الاستدلال وبين الأول أن الأول هو الاستدلال بالإمكان على طريقة الحكيم، والثاني هو الاستدلال بالحدوث على طريقة المتكلمين، والأول أقرب إلى اليقين فلهذا قال: {إن كنتم موقنين} والثاني أقرب إلى الحس فلهذا قال: {إن كنتم تعقلون} ولما انجر الكلام إلى حد العناد والمخاشنة هدده فرعون بقوله: {لئن اتخذت إلهًا غيري لاجعلنك من المسجونين} وهذا أبلغ من أن لو قال: لأسجننك والمعنى لأجعلنك واحدًا ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه يطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردًا لا يبصر فيها ولا يسمع، وحينئذ عدل موسى إلى الحجة الأصلية في الباب وهو ادعاء المعجز المنبئ عن صدقه فقال: {أولو جئتك} أي أتفعل فيَّ ذلك ولو جئتك بشيء أي جائيًا بالمعجزة.