فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي قوله: {إن كنت من الصادقين} إن سلم أنه قاله جدًا لا هزلًا وجدالًا دلالة على ما ركز في العقول من أن دعوى الرسالة إن اقترنت بظهور المعجزة على يده تحقق صدقها. وقد شنع في الكشاف هاهنا أن في أهل القبلة من خفي عليهم ما لم يخف على فرعون حتى جوزوا القبيح عليه سبحانه ولزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. وفي التخطئة سهو من وجهين: أحدهما: أنه لا قبيح عند الأشاعرة عقلًا. والثاني أنه على تقدير التسليم لا يلزم تجويز كل قبيح وهذا من ذلك للزوم الاشتباه. وباقي القصة سبق نظيرها في الأعراف فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالسورة. قوله: {قال للملأ حوله} قال في الكشاف: الظرف في محل النصب على الحال. وأقول: الأصوب أن يجعل نعتًا للملأ أي الأشراف حوله على طريقة قوله:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبني

قوله: {لمقيات يوم معلوم} اليوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى كما مر في طه. قوله: {هل أنتم مجتمعون} استبطاء لهم في الاجتماع وحث عليه كقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق إذا أراد أن يحثه على الانطلاق. قوله: {لعلنا نتبع السحرة} لم يكن غرضهم اتباع السحرة في دينهم وإنما غرضهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق المجاز لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى. قوله: {بعزة فرعون} هي من أيمان الجاهلية ولا يصح الحلف في الإسلام إلا بالله تعالى وبصفاته كما مر في البقرة والمائدة. وقوله: {فألقى السحرة} لم يسم فاعله وهو الله تعالى في الحقيقة حين ألقى دايعة الإيمان في قلوبهم ويجوز أن ينسب إلى ما عاينوا من المعجزات الباهرة ولك أن لا تقدر فاعلًا أي خروا. قوله: {لا ضير} أي لا ضير علينا فيما يتوعدنا به من القتل.
قوله: {إنا نطمع} الطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقوله إبراهيم {والذي أطمع أن يغفر لي} ويحتمل الظن بناء على أن المرء لا يعلم ما يختاره أو يؤل إليه عند الوفاة. ومعنى {أن كنا} لأن كنا وكانوا أوّل طائفة مؤمنين من أهل زمانهم أو من قوم فرعون أو من أهل المشهد. قوله: {أنكم متبعون} تعليل للإسراء أي بنيت تدبير أمركم على أن تتقدموا لو يتبعكم فرعون وجنوده إلى أن يغشاهم من اليم ما يغشاهم. قوله: {لشرذمة} هي الطائفة القليلة. ثم وصفهم بالقلة واختار جمع السلامة ليدل على أن كل حزب منهم في غاية القلة، وذلك بالنسبة إلى عسكره وإلا فهم كثير في أنفسهم.
يروى أن فرعون أرسل في اثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت على مقدّمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وكان قوم موسى إذ ذاك ستمائة ألف وسبعين ألفًا. ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والحقارة لا قلة العدد. قوله: {وإنهم لنا لغائطون} معناه أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم ولكنهم يفعلون أفعالًا لغيظنا كأخذ الحلي وادّعاء الاستقلال والاستخلاص عن ذل الاستخدام ونحن قوم مجموعون كلمة وائتلافًا، ومن عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. فالحذر المتيقظ وهو يفيد الثبات والحاذر الذي يجدد حذره. وقيل: هو تام السلاح لأنه فعل ذلك حذرًا واحتياطًا لنفسه، وكل هذه المعاذير لأجل أن لا يظن به العجز وخلاف ما ادّعاه من القهر والتسلط. وقرئ {حادرون} بالدال غير المعجمة، والحادر السمين القوي أراد أنهم أقوياء أشدّاء. {فأخرجناهم من جنات} أي بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوزر الذهب والفضة. قال مجاهد: سماها كنوزًا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى. والمقام الكريم المنازل الحسنة والمجالس البهية. وقال الضحاك: المنابر. وقيل: السرر في الحجال. {كذلك} يحتمل النصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا، والجر على الوصف أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، ولارفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، وعلى هذا فيوقف على {كريم}. {فأتبعوهم} اي فلحقوهم. ومن قرأ بالتشديد فظاهر. والإشراق الدخول في وقت الشروق {فلما تراءى الجمعان} أي رأى قوم موسى قوم فرعون وحصل كل من الفريقين بمرأى للآخر {قال أصحاب موسى} خوفًا وفزعًا {إنا لمدركون} لملحقون. قال موسى تثبيتًا لهم وردعًا عماهم عليه من الجزع والفزع {كلا إن معي ربي} بالنصرة والمعونة {سيهدين} سبيل النجاة والخلاص كما وعدني. ثم بين أنه كيف هداه بقوله: {فأوحينا} الآية. ومعنى {فانفلق} فضرب فانفلق {فكان كل فرق} اي كل جزء متفرق منفلق منه {كالطود} وهو الجبل العظيم ومع ذلك وصفه بالعظيم {وأزلفنا ثم} أي قربنا حيث انفلق البحر {الآخرين} وهم قوم فرعون والمقرب منه بنو إسرائيل أو قوم فرعون أيضًا أي أدنينا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، ويجوز أن يراد قدمانهم إلى البحر. وقرئ {وأزلقنا} بالقاف أي أزللنا أقدامهم حسًا بأن لم يكن لهم البحر يبسًا كما كان لبني إسرائيل، أو عقلًا أي أذهبنا عزهم. والبحر بحر القلزم أو بحر من وراء مصر يقال له أساف. قالت الأشاعرة: إنه تعالى أضاف الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم في طلب موسى كفر. أجاب الجبائي بأن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى، فلما كان مسيرهم بتدبير الله وهؤلاء تبعوهم اضافه إلى نفسه توسعًا، وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول: أتعبني الغلام لما حدث ذلك عند فعله.
أو المراد أزلفناهم إلى الموت والأجل. وقال الكعبي: أراد أنه جمع تفرقهم كيلا يصلوا إلى موسى وقومه، أو اراد أنه حلم عنهم وترك لهم لابحر يابسًا حتى طمعوا في دخوله. واعترض بأن كل ذلك لابد أن يكون له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم فيعود المحذور. {إن في ذلك} الذي حدث في البحر من إنجاء البعض وإغراق البعض أو في ذلك أي ذكر من القصة بطولها {لآية} عجيبة للمتدبر المتفكر في الأمور الإلهية {وما كان أكثرهم مؤمنين} حين سألوا بعد النجاة أن يجعل لهم موسى إلهًا غير الله، واتخذوا العجل، واقترحوا اقتراحات خارجة عن قانون الأدب. ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الأمة بدليل {واتل عليهم} [الشعراء: 69] وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يغتم بتكذيب قومه بعد ظهور المعجزات ونزول الآيات. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)}.
قوله: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أمر الله سبحانه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلًا، وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى وبما جاء به، وقد تقدّم تفسير مثل هذا في سورة الأعراف، وجملة {إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ} تعليل للأمر المتقدّم أي: يتبعكم فرعون وقومه ليردّوكم، و{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدائن حاشرين}، وذلك حين بلغه مسيرهم، والمراد بالحاشرين: الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون، ثم قال فرعون لقومه بعد اجتماعهم لديه: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} يريد: بني إسرائيل.
والشرذمة الجمع الحقير القليل، والجمع شراذم.
قال الجوهري: الشرذمة الطائفة من الناس، والقطعة من الشيء، وثوب شراذم أي قطع، ومنه قول الشاعر:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ** شراذم يضحك منها الخلاق

قال الفراء: يقال: عصبة قليلة وقليلون وكثيرة وكثيرون.
قال المبرّد: الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها الشراذم، قال الواحدي: قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} يقال: غاظني كذا وأغاظني.
والغيظ: الغضب، ومنه التغيظ، والاغتياظ أي غاظونا بخروجهم من غير إذن مني {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون} قرىء: {حذرون}، و{حاذرون} و{حذرون} بضم الذال، حكى ذلك الأخفش.
قال الفراء: الحاذر: الذي يحذرك الآن، والحذر: المخلوق كذلك لا تلقاه إلاّ حذرًا.
وقال الزجاج: الحاذر: المستعد، والحذر: المتيقظ، وبه قال الكسائي ومحمد بن يزيد، قال النحاس: {حذرون} قراءة المدنيين، وأبي عمرو، و{حاذرون} قراءة أهل الكوفة.
قال: وأبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرون، وحاذرون واحد، وهو قول سيبويه، وأنشد سيبويه:
حذر أمورًا لا تضير وحاذر ** ما ليس ينجيه من الأقدار

{فأخرجناهم مّن جنات وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} يعني: فرعون وقومه أخرجهم الله من أرض مصر وفيها الجنات والعيون والكنوز وهي جمع جنة وعين، وكنز، والمراد بالكنوز: الخزائن.
وقيل: الدفائن، وقيل: الأنهار، وفيه نظر؛ لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين: عيون الماء، فيدخل تحتها الأنهار.
واختلف في المقام الكريم؛ فقيل: المنازل الحسان.
وقيل: المنابر، وقيل: مجالس الرؤساء والأمراء.
وقيل: مرابط الخيل.
والأوّل أظهر، ومن ذلك قول الشاعر:
وفيهم مقامات حسان وجوهها ** وأندية ينتابها القول والفعل

{كَذَلِكَ وأورثناها بَنِي إسراءيل} يحتمل أن يكون {كذلك} في محل نصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا، ويحتمل أن يكون في محل جرّ على الوصفية أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، ويحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك.
ومعنى {وأورثناها بَنِي إسراءيل}: جعلناها ملكًا لهم، وهو معطوف على {فأخرجناهم} {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} قراءة الجمهور بقطع الهمزة، وقرأ الحسن والحارث الديناري بوصلها، وتشديد التاء، أي فلحقوهم حال كونهم مشرقين أي داخلين في وقت الشروق، يقال: شرقت الشمس شروقًا إذا طلعت كأصبح وأمسى أي دخل في هذين الوقتين.
وقيل: داخلين نحو المشرق كأنجد وأتهم.
وقيل: معنى {مُشْرِقِينَ}: مضيئين.
قال الزجاج: يقال: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
{فَلَمَّا تَرَاءا الجمعان} قرأ الجمهور: {تراءى} بتخفيف الهمزة، وقرأ ابن وثاب والأعمش من غير همز، والمعنى: تقابلا بحيث يرى كلّ فريق صاحبه، وهو تفاعل من الرؤية، وقرىء: {تراءت الفئتان} {قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم.
قرأ الجمهور: {إنا لمدركون} اسم مفعول من أدرك، ومنه {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق} [يونس: 90].
وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدال مشدّدة وكسر الراء.
قال الفراء: هما بمعنى واحد.
قال النحاس: ليس كذلك يقول النحويون الحذاق، إنما يقولون: مدركون بالتخفيف ملحقون وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم.
قال: وهذا معنى قول سيبويه.
وقال الزمخشري: إن معنى هذه القراءة: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد.
{قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ} قال موسى هذه المقالة زجرًا لهم وردعًا، والمعنى: أنهم لا يدركونكم، وذكرهم وعد الله بالهداية والظفر، والمعنى: إن معي ربي بالنصر والهداية، سيهدين أي: يدلني على طريق النجاة، فلما عظم البلاء على بني إسرائيل، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم به، أمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه، وذلك قوله: {فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر} لما قال موسى: {إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ} بيّن الله سبحانه له طريق الهداية، فأمره بضرب البحر، وبه نجا بنو إسرائيل، وهلك عدوّهم، والفاء في {فانفلق} فصيحة: أي فضرب فانفلق فصار اثني عشر فلقًا بعدد الأسباط، وقام الماء عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم، وهو معنى قوله: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم}، والفرق: القطعة من البحر، وقرىء: فلق بلام بدل الراء، والطود: الجبل قال امرؤ القيس:
فبينا المرء في الأحياء طود ** رماه الناس عن كثب فمالا

وقال الأسود بن يعفر:
حلوا بأنقرة يسيل عليهم ** ماء الفرات يجيء من أطواد

{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} أي قرّبناهم إلى البحر يعني: فرعون وقومه.