فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما ذكر البعث، ذكر ما يترتب عليه فقال: {والذي أطمع} هضمًا لنفسه واطراحًا لأعماله وإشارة إلى أنه بالنسبة إلى الحضرة الأعظمية غير قادرة لها حق قدرها، فإن الطمع كما قال الحرالي في البقرة تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب-. انتهى.
فلذلك لم يعد له عملًا {أن يغفر} أي يمحو ويستر.
ولما كان الله سبحانه منزهًا عن الغرض، فكانت المغفرة لحظ العبد ليس غير، قال: {لي} وأسند الخطيئة إليه هضمًا لنفسه وتواضعًا لربه فقال: {خطيئتي} أي تقصيري عن أن أقدره حق قدره، فإن الضعيف العاجز لا يبلغ كل ما ينبغي من خدمة العلي الكبير، وما فعله فهو بإقداره سبحانه فلا صنع له في الحقيقة أصلًا {يوم الدين} أي الجزاء.
ولما أثنى على الله تعالى بما هو أهله، وختم بذكر هذا اليوم العظيم، دعا بما ينحي عن هوله، فدل صنيعه على أن تقديم الثناء على السؤال أمر مهم، وله في الإجابة أثر عظيم، فقال ملتفتًا إلى مقام المشاهدة إشارة إلى أن الأمر مهول، وأنه لا ينقذ من خطره إلا عظيم القدرة، لما طبعت عليه النفس من النقائص: {رب} أي أيها المحسن إليّ {هب لي حكمًا} أي عملًا متقنًا بالعلم، وأصله بناء الشيء على ما توجبه الحكمة، ولما كان الاعتماد إنما هو على محض الكرم، فإن من نوقش الحساب عذب، قال: {وألحقني بالصالحين} أي الذين جعلتهم أئمة للمتقين في الدنيا والآخرة، وهم من كان قوله وفعله صافيًا عن شوب فساد.
ولما كان الصالح قد لا يظهر عمله، وكان إظهار الله له مجلبة للدعاء وزيادة في الأجر، قال: {واجعل لي لسان صدق} أي ذكرًا جميلًا، وقبولًا عامًا، وثناء حسنًا، بما أظهرت مني من خصال الخير {في الآخرين} أي الناس الذين يوجدون بعدي إلى يوم الدين، لأكون للمتقين إمامًا، فيكون لي مثل أجورهم، فإن «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وقد كان ذلك إجابة من الله تعالى لدعائه، ومن أعظمه أن جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيى بهم عليهم الصلاة والسلام ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم من قوله: «صل على محمد كما صليت على إبراهيم». إلى آخره.
ولما طلب سعادة الدنيا، وكانت لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة، وكانت الجنة لا تنال إلا بمنه، لا بشيء من ذلك، ولذلك شبه إدخالها بالإرث الذي يحصل بغير اكتساب من الوارث وهو أقوى أسباب الملك، قال: {واجعلني} أي مع ذلك كله بفضلك ورحمتك {من ورثة جنة النعيم}.
ولما دعا لنفسه، ثنى بأحق الخلق ببره فقال: {واغفر لأبي} ثم علل دعاءه بقوله: {إنه كان} في أيام حياته {من الضالين} والظاهر أن هذا كان قبل معرفته بتأبيد شقائه، ولذلك قال: {ولا تخزني} أي تهني بموته على ما يوجب دخوله النار ولا بغير ذلك {يوم يبعثون} أي هؤلاء المنكرون للبعث، وكأن هذا الدعاء كان بحضورهم في الإنكار عليهم في عبادة الأصنام، والظاهر أن تخصيص الدعاء بأبيه لأن أمه كانت آمنت كما ورد عن.
فقد صح أنه يقول يوم القيامة: يا رب! إنك وعدتني ألا تخزيني، أي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيبدل الله صورة أبيه صورة ذيخ ثم يلقي به في النار- كما رواه البخاري في غير موضع عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأن الله تعالى يقول له: إني حرمت الجنة على الكافرين ولو كانت أمة كافرة لسأله فيها.
ولما نبه على أن المقصود هو الآخرة، صرح بالتزهيد في الدنيا بتحقير أجل ما فيها فقال: {يوم لا ينفع} أي أحدًا {مال} أي يفتدي به أو يبذله لشافع أو ناصر مقاهر {ولا بنون} ينتصر بهم أو يعتضد فكيف بغيرهم {إلا من أتى الله} أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق في هذا الموطن {بقلب سليم} أي عن مرض غيّره عن الفطرة الأولى التي فطره الله عليها، وهي الإسلام الذي رأسه التوحيد، والاستقامة على فعل الخير، وحفظ طريق السنة كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ليس فيها من جدعاء فإن {المال والبنون} ينفعانه بما تصرف فيهما من خير، والاستثناء مفرغ. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين} ففيه أسئلة:
السؤال الأول: كيف يكون الصنم عدوًا مع أنه جماد؟ جوابه من وجهين:
أحدهما: أنه تعالى قال في سورة مريم (82) في صفة الأوثان {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} فقيل في تفسيره إن الله يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يقع منهم التوبيخ لهم والبراءة منهم، فعلى هذا الوجه أن الأوثان ستصير أعداء لهؤلاء الكفار في الآخرة فأطلق إبراهيم عليه السلام لفظ العداوة عليهم على هذا التأويل وثانيها: أن الكفار لما عبدوها وعظموها ورجوها في طلب المنافع ودفع المضار نزلت منزلة الأحياء العقلاء في اعتقاد الكفار، ثم إنها صارت أسبابًا لانقطاع الإنسان عن السعادة ووصوله إلى الشقاوة، فلما نزلت هذه الأصنام منزلة الأحياء وجرت مجرى الدافع للمنفعة والجالب للمضرة لا جرم جرت مجرى الأعداء، فلا جرم أطلق إبراهيم عليه السلام عليها لفظ العدو.
وثالثها: المراد في قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى} عداوة من يعبدها، فإن قيل فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي ليكون الكلام حقيقة؟ جوابه: لأن الذي تقدم ذكره ما عبدوه دون العابدين.
السؤال الثاني: لم قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى} ولم يقل فإنها عدو لكم؟ جوابه: أنه عليه السلام صور المسألة في نفسه على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها، وآثرت عبادة من الخير كله منه وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه، فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى للقبول.
السؤال الثالث: لم لم يقل فإنهم أعدائي؟ جوابه العدو والصديق يجيئان في معنى الواحد والجماعة، قال:
وقوم عليَّ ذوي مرة ** أراهم عدوًا وكانوا صديقًا

ومنه قوله تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] وتحقيق القول فيه ما تقدم في قوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} [الشعراء: 16].
السؤال الرابع: ما هذا الاستثناء؟ جوابه أنه استثناء منقطع كأنه قال لكن رب العالمين.
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)}.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين، حكى عنه أيضًا ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله، ثم حكى عنه ما سأله عنه، أما الأوصاف فأربعة: أولها: قوله: {الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ}.
واعلم أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله: {الذى خَلَقَ فسوى والذى قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2، 3] واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه، فلنتكلم في الإنسان فنقول إنه مخلوق، فمنهم من قال هو من عالم الخلق والجسمانيات، ومن قال هو من عالم الأمر الروحانيات، وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [ص: 72] فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج، ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربا نية النورانية التي هي من عالم الأمر، وأيضًا قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} [المؤمنون: 14] وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية.
أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية، فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث، وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها، فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلًا، وما في كل واحد منها من القوى كاسرًا سورة كيفية الآخر، فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار، وكذا القول في الرطب واليابس، وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي تجذب الغذاء، ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية، ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها، ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولًا وعرضًا، ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك، ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر، وبعضها فاعلة: إما آمرة كالشهوة والغضب أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات، ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة، والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية، ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني، ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها، ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي، فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية.
أما الخلق فبتصييره موجودًا بعد أن كان معدومًا، وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله: {خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين، ثم هاهنا دقيقة وهو أنه قال: {خَلَقَنِى} فذكره بلفظ الماضي وقال: {يَهْدِينِ} ذكره بلفظ المستقبل، والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم.
أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية، وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر، فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة، وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وثانيها: قوله: {والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} وقد دخل فيه كل ما يتصل بمنافع الرزق، وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه، فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة والتمييز لم تكمل هذه النعمة، وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما وثالثها: قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وفيه سؤال وهو أنه لم قال: {مرضات} دون أمرضني؟ وجوابه من وجوه: الأول: أن كثيرًا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم؟ لقالوا التخم الثاني: أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض، وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي.
أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها وبقاؤها على اعتدالها، إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع، وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضًا بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع، فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى، وما أضاف المرض إليه وثالثها: وهو أن الشفاء محبوب وهو من أصول النعم، والمرض مكروه وليس من النعم، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى، فإن نقضته بالإماتة فجوابه: أن الموت ليس بضرر، لأن شرط كونه ضررًا وقوع الإحساس به، وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به، إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض، وأيضًا فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض ورابعها: قوله: {والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها، والمراد من الإحياء المجازاة وخامسها: قوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} فهو إشارة إلى ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب.
واعلم أن إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق. إلى آخر الأبد في الدار الآخرة، ثم هاهنا أسئلة:
السؤال الأول: لم قال: {والذى أَطْمَعُ} والطمع عبارة عن الظن والرجاء، وإنه عليه السلام كان قاطعًا بذلك؟ جوابه: أن هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا، حيث قلنا إنه لا يجب على الله لأحد شيء، وأنه يحسن منه كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله، وأجاب الجبائي عنه من وجهين: الأول: أن قوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى} أراد به سائر المؤمنين لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به الثاني: المراد من الطمع اليقين، وهو مروي عن الحسن وأجاب صاحب الكشاف: بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليمًا منه لأمته كيفية الدعاء.