فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وخص القلب بالذكر؛ لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح.
وقد تقدّم في أوّل البقرة.
واختلف في القلب السليم فقيل: من الشك والشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد؛ قاله قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين.
وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض؛ قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [البقرة: 10] وقال أبو عثمان السيَّاري: هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة.
وقال الحسن: سليم من آفة المال والبنين.
وقال الجنيد: السليم في اللغة اللديغ؛ فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله.
وقال الضحاك: السليم الخالص.
قلت: وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن، أي الخالص من الأوصاف الذميمة، والمتصف بالأوصاف الجميلة؛ والله أعلم.
وقد روي عن عروة أنه قال: يا بنيّ لا تكونوا لعّانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئًا قط، قال الله تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وقال محمد بن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الجنَة أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير» يريد والله أعلم أنها مثلها في أنها خالية من كل ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لهم بأمور الدنيا؛ كما روى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثر أهل الجنة البُلْهُ» وهو حديث صحيح.
أي البُلْه عن معاصي الله.
قال الأزهري: الأبله هنا هو الذي طبع على الخير وهو غافل عن الشر لا يعرفه.
وقال القتبي: البله هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى}.
وعدو: يكون للمفرد والجمع، كما قال: {هم العدو فاحذرهم} قيل: شبه بالمصدر، كالقبول والولوع.
قال الزمخشري: وإنما قال: {عدو لي}، تصورًا للمسألة في نفسه على معنى: أي فكرت في أمري، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولًا، وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا ويقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون أدنى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه.
ولو قال: فإنه عدو لكم، لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح.
ما لا يبلغ التصريح، لأنه ربما يتأمل فيه، فربما قاده التأميل إلى التقبل.
ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه، أن رجلًا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب؛ وسمع رجل ناسًا يتحدثون عن الحجر فقال: ما هو بيتي ولا بيتكم. انتهى.
وهو كلام فيه تكثير على عادته، وذهاب من ذهب إلى أن قوله: {فإنهم عدو لي}، من المقلوب والأصل: فإني عدو لهم، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جمادًا، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك.
ألا ترى إلى قوله: {كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدًا}، فهذا معنى العداوة، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان، وهو الشيطان.
وقيل: لأنه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم.
وقيل: هو على حذف، أي: فإن عبادهم عدو لي.
والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير.
وقال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين، فإنهم عدو لي، وإلا: بمعنى دون وسوى. انتهى.
فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله: {فإنهم عدو لي}.
وجعله جماعة منهم الفراء، واتبعه الزمخشري استثناء منقطعًا، أي لكن رب العالمين، لأنهم فهموا من قوله: {ما كنتم تعبدون} أنهم الأصنام.
وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلًا على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله، وأجازوا في {الذي خلقني} النصب على الصفة لرب العالمين، أو بإضمار، أعني: والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي.
وقال الحوفي: ويجوز أن يكون {الذي خلقني} رفعًا بالابتداء، {فهو يهدين}: ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. انتهى.
وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص، ولا يتخيل فيه العموم، فليس نظير: الذي يأتيني فله درهم، وأيضًا ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم.
وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا، لكنه لم يقل: ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط.
فإن كان أراد ذلك، فليس بجيد لما ذكرناه، وإن لم يرده، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء، على مذهب الأخفش في نحو: زيد فاضربه؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته.
وقيل: إلى جنته.
وقال الزمخشري: فهو يهدين، يريد أنه حين أتم خلقه، ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصًا؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة؟ وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الإرتضاع؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد. انتهى.
والظاهر أن قوله: {يطعمني ويسقين}: الطعام المعروف المعهود، والسقي المعهود، وفيه تعديد نعمة الرزق.
وقال أبو بكر الوراق: يطعمني بلا طعام، ويسقيني بلا شراب، كما جاء أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها.
والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله: {فهو يهدين والذي هو يطعمني}، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق، وهو الغذاء والشرب.
ولما كان ذلك سببًا لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته، بإزالة ما حدث من السقم، وأضاف المرض إلى نفسه، ولم يأت التركيب: وإذا أمرضني، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه.
ولما لم يكن المرض منها، لم يضفه إلى الله.
وعن جعفر الصادق، ولعله لا يصح: وإذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة.
وقال الزمخشري: وإنما قال: مرضت دون أمرضني، لأن كثيرًا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك.
ومن ثم قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب، وإلى الدواء على سبيل المجاز؛ كما قال: {فيه شفاء للناس} أكد بقوله: {فهو يشفين}: أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره.
ولما كانت الإماتة بعد البعث، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ الإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة، وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في: {والذي أطمع}.
وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده، وهي رواية عن نافع.
والطمع عبارة عن الرجاء، وإبراهيم عليه السلام كان جازمًا بالمغفرة.
فقال الزمخشري: لم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفًا بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. انتهى.
ورده الرازي قال: لأن حاصله يرجع إلى أنه، ونطق بكلمة لا أذكرها، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة، وهو باطل قطعًا.
وقال الجبائي: أراد به سائر المؤمنين، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون.
ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره، مما يبطل نظم الكلام.
وقال الحسن: المراد بالطمع اليقين.
وقال الرازي: لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا، حيث قلنا: إنه لا يجب على الله شيء، وإنه يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله.
قال ابن عطية: أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته.
وقرأ الجمهور: {خطيئتي} على الإفراد، والحسن: خطاياي على الجمع، وذهب الأكثرون إلى أنها قوله: {إني سقيم} و{بل فعله كبيرهم} وهي أختي في سارة.
وقالت فرقة: أراد بالخطيئة اسم الجنس، قدرها في كل أمره من غير تعيين.
قال ابن عطية: وهذا أظهر عندي، لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض.
وقال الزمخشري: المراد ما يندر منه في بعض الصغائر، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض، كلام وتخيلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار.
فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر، وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا، وطمع أن يغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله: اطمع، ولم يجزم القول. انتهى.
و{يوم الدين}: ظرف، والعامل فيه يغفر، والغفران، وإن كان في الدنيا، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى.
وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز، وحمله على سبيل التواضع قال: لأنه إن طابق في هذا الموضع زال الإشكال، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به، لأجل تنزيهه عن المعصية.
قال: والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى خطأ.
فإن من باع جوهرة تساوي ألفًا بدينار، قيل: أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز. انتهى. وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة.
وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته، ثم سأله تعالى فقال: {رب هب لي حكمًا}، فدل على أن تقديم الثناء على المسألة من المهمات.
والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق.
وقيل: الحكم: الحكمة والنبوة، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة، لأن النبي ذو حكمة وذو حكم بين الناس.
وقال أبو عبد الله الرازي: لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة، إما عين الحاصلة أو غيرها.
والأول محال، لأن تحصيل الحاصل محال، والثاني محال، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبيًا مرتين، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوة العملية، وذلك بأن يكون عالمًا بالخير لأجل العمل به. انتهى.
قال ابن عطية: وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة، قال: ودعاؤه عليه السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام.
وإلحاقه بالصالحين: توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة.
وقد أجابه تعالى حيث قال: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} قال أبو عبد الله الرازي: وإنما قدّم قوله: {هب لي حكمًا} على قوله: {وألحقني بالصالحين}، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية، لأنه يمكنه أن يعلم الحق، وإن لم يعمل به، وعكسه غير ممكن، لأن العلم صفة الروح، والعمل صفة البدن، وكما أن الروح أشرف من البدن، كذلك العلم أفضل من الإصلاح. انتهى.