فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد رجح الزجاج أن المعنى: طرح بعضهم على بعض.
ورجح ابن قتيبة أن المعنى: ألقوا على رءوسهم.
وقيل: الضمير في كبكبوا لقريش، والغاوون الآلهة، والمراد بجنود إبليس: شياطينه الذين يغوون العباد، وقيل: ذريته، وقيل: كل من يدعو إلى عبادة الأصنام، و{أَجْمَعُونَ} تأكيد للضمير في كبكبوا، وما عطف عليه.
وجملة: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل؟ ومقول القول: {تالله إِن كُنَّا لَفِي ضلال مُّبِينٍ} وجملة: {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} في محل نصب على الحال أي قالوا هذه المقالة حال كونهم في جهنم مختصمين، و{إن} في {إِن كُنَّا} هي المخففة من الثقيلة، واللام فارقة بينها وبين النافية أي قالوا تالله إن الشأن كوننا في ضلال واضح ظاهر، والمراد بالضلال هنا: الخسار، والتبار، والحيرة عن الحق، والعامل في الظرف، أعني: {إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين} هو كونهم في الضلال المبين.
وقيل: العامل هو الضلال، وقيل: ما يدل عليه الكلام، كأنه قيل: ضللنا وقت تسويتنا لكم بربّ العالمين.
وقال الكوفيون: إنّ {أن} في {أَن كُنَّا} نافية، واللام بمعنى إلاّ أي ما كنا إلا في ضلال مبين.
والأوّل أولى، وهو مذهب البصريين.
{فَمَا لَنَا مِن شافعين} يشفعون لنا من العذاب كما للمؤمنين {وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي: ذي قرابة، والحميم القريب الذي تودّه، ويودّك، ووحد الصديق لما تقدّم غير مرة أنه يطلق على الواحد والإثنين والجماعة والمذكر والمؤنث، والحميم مأخوذ من حامة الرجل أي: أقربائه، ويقال: حمّ الشيء وأحمّ إذا قرب منه، ومنه الحمى؛ لأنه يقرّب من الأجل.
وقال علي بن عيسى: إنما سمي القريب حميمًا؛ لأنه يحمى لغضب صاحبه، فجعله مأخوذًا من الحمية.
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} هذا منهم على طريق التمني الدالّ على كمال التحسر كأنهم قالوا: فليت لنا كرّة أي رجعة إلى الدنيا، وجواب التمني: {فنكون من المؤمنين} أي نصير من جملتهم، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} إلى ما تقدّم ذكره من نبأ إبراهيم، والآية: العبرة والعلامة، والتنوين يدل على التعظيم والتفخيم {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ إبراهيم، وهم قريش ومن دان بدينهم.
وقيل: وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين، وهو ضعيف؛ لأنهم كلهم غير مؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي هو القاهر لأعدائه الرحيم بأوليائه، أو الرحيم للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} يعني: بأهل الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} قال: اجتماع أهل الملل على إبراهيم.
وأخرج عنه أيضًا: {واغفر لأَبِى} قال: امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك.
وأخرج البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: ربّ إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيّ خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرّمت الجنة على الكافرين، ثم يقول: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» والذيخ هو الذكر من الضباع، فكأنه حوّل آزر إلى صورة ذيخ.
وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} قال: جمعوا فيها {هُمْ والغاوون} قال: مشركو العرب والآلهة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} قال: رجعة إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} حتى تحلّ لنا الشفاعة كما حلت لهؤلاء. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

مضت قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه؛ وانتهت بتلك النهاية، وفيها البشرى للمؤمنين المستضعفين المضطهدين كما كانت القلة المؤمنة يومذاك في مكة وفيه الدمار للظالمين المتجبرين الذين يشبه موقفهم موقف المشركين.
فالآن تتبعها قصة إبراهيم عليه السلام وقومه. ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتلوها على المشركين. ذلك أنهم يزعمون أنهم ورثة إبراهيم، وأنهم على دينه القديم؛ وهم يشركون بالله، ويقيمون الأصنام لعبادتها في بيته الحرام، الذي بناه إبراهيم خالصًا لله، فاتل عليهم نبأ إبراهيم ليتبينوا منه حقيقة ما يزعمون.
والقصص في هذه السورة لا يتبع الخط التاريخي، لأن العبرة وحدها هي المقصودة. فأما في سورة الأعراف مثلًا فقد كان الخط التاريخي مقصودًا، لعرض خط وراثة الأرض، وتتابع الرسل من عهد آدم عليه السلام فمضى القصص فيها يتبع خط التاريخ، منذ الهبوط من الجنة، وبدء الحياة البشرية.
والحلقة التي تعرض هنا من قصة إبراهيم عليه السلام هي حلقة الرسالة إلى قومه، وحواره معهم حول العقيدة، وإنكار الآلهة المدعاة، والاتجاه بالعبادة إلى الله. والتذكير باليوم الآخر. يعقب هذا مشهد كامل من مشاهد القيامة، يتنكر فيه العباد للآلهة، ويندمون على الشرك الذي انتهى بهم إلى ما هم فيه. كأنهم قد صاروا فعلًا إلى ما هم فيه! وهنا عبرة القصة للمشركين، ومن ثم يتوسع في الحديث عن مقومات عقيدة التوحيد، وفساد عقيدة الشرك؛ ومصير المشركين في يوم الدين. لأن التركيز متجه إليها. ويختصر ما عدا ذلك مما يفصله في سور أخرى.
وقد وردت حلقات من قصة إبراهيم عليه السلام في البقرة، والأنعام، وهود، وإبراهيم، والحجر، ومريم، والأنبياء، والحج. وكانت في كل سورة مناسبة لسياقها العام. وعرض منها ما يتفق مع موضوع السورة وجوها وظلها.
عرضت في سورة البقرة حلقة بنائه للبيت هو وإسماعيل، ودعائه أن يجعل الله البلد الحرام آمنًا، وإعلانه أن وراثة البيت ووراثة بانية إنما هي للمسلمين، الذين يتبعون ملته، لا لمن يدعون بالنسب وراثته. وكان هذا بصدد مخالفات بني إسرائيل، وطردهم ولعنهم، وتوريث دين إبراهيم وبيته للمسلمين.
وعرضت كذلك حلقة محاجته للملك الكافر في صفة الله الذي يحيي ويميت، والذي يأتي بالشمس من المشرق، وتحديه للملك أن يأتي بها من المغرب. فبهت الذي كفر.
كما عرضت حلقة طلبه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وأمره بذبح أربعة من الطير، وتوزيع أشلائهن على الجبال، ثم إحياؤها بين يديه، فجاءت تسعى إليه.
وهذا وذلك في معرض الحديث في السورة، عن آيات الله وقدرته على الإماتة والإحياء.
وعرضت في الأنعام حلقة بحثه عن ربه، واهتدائه إليه، بعد تأمل في النجوم والقمر والشمس، وتتبع مشاهد الكون.
وكان ذلك في السورة التي تدور حول العقيدة، وآيات الله في الكون، ودلالتها على الصانع المبدع الذي لا شريك له.
وعرضت في سورة هود حلقة تبشيره بإسحاق، وكان ذلك في سياق قصة لوط، ومرور الملائكة المكلفين تدمير قريته في طريقهم بإبراهيم. وفيها تبدو رعاية الله للمختارين من عباده وتدمير الفاسقين.
وعرضت في سورة إبراهيم حلقة دعائه بجوار البيت المحرم لمن أسكنه من ذريته بواد غير زرع؛ وحمده على أن وهب له على الكبر إسماعيل وإسحاق؛ وطلبه إلى ربه أن يجعله مقيم الصلاة هو وذريته، وأن يقبل دعاءه، ويغفر له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، وكان سياق السورة كله هو عرض أمة الرسل؛ برسالة واحدة، هي التوحيد؛ وعرض المكذبين بأمة الرسل صفًا واحدًا كذلك؛ وكأنما الرسالة شجرة ظليلة في هجير الكفر وصحراء الجحود!
وعرضت في سورة الحجر الحلقة التي عرضت في سورة هود مع شيء من التفصيل، في صدد ذكر رحمة الله بعباده المؤمنين، وعذابه للعصاة المذنبين.
وعرضت في سورة مريم حلقة دعوته في رفق لأبيه، وغلظة أبيه عليه، واعتزاله لأبيه وقومه، وهبة إسماعيل وإسحاق له. وذلك في السورة التي تعرض رعاية الله للمصطفين من عباده. وجوها كله تظلله الرحمة والود واللين.
وعرضت في سورة الأنبياء حلقة دعوته لأبيه وقومه، وزرايته على أصنامهم. وتحطيم هذه الأصنام، وإلقائه في النار التي كانت بردًا وسلامًا عليه بأمر الله، ونجاته هو وابن أخيه لوط إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين. وذلك في صدد استعراض أمة الرسل، ورعاية الله لهذه الأمة واتجاهها إلى عبادة الله الواحد الذي ليس له شريك.
ووردت في سورة الحج إشارة إلى أمر بتطهير البيت للطائفين والعاكفين..
{واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون}.
اتل عليهم نبأ إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته، وأنهم يتبعون ديانته. اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في مكة؛ وهو يخالف أباه وقومه في شركهم، وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال، ويسألهم في عجب واستنكار: {ما تعبدون}.
{قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين}!
وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة. فحكاية قولهم: إنها أصنام. تنبئ بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر، وأنهم مع ذلك يعكفون لها، ويدأبون على عبادتها. وهذه نهاية السخف. ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم!
ويأخذ إبراهيم عليه السلام يوقظ قلوبهم الغافية، وينبه عقولهم المتبلدة، إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير:
{قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون}.
فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة، ويدعونها للنفع والضر.
فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفع والضر؟ لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه!
ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر؛ وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول. فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير:
{قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}.
إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها، فعكفنا عليها وعبدناها!
وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلًا باعتباره دون بحث؛ بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا ما لا يجوز في حق الذاهبين! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء في وجه الحق، فيؤثرونها على الحق، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير.
وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم على حلمه وأناته إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات!.
{قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}.
وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم وهم آباؤه الأقدمون!