فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)}.
أسند {كذبت} إلى القوم وفيه علامة التأنيث من حيث القوم في معنى الأمة والجماعة، وقوله: {المرسلين} من حيث من كذب نبيًا واحدًا، كذب جميع الأنبياء إذ قولهم واحد ودعوتهم سواء، وقوله: {أخوهم} يريد في النسب والمنشأ لا في الدين، و{أمين} معناه على وحي الله ورسالته، وقرأ ابن كثير وعاصم {أجري} ساكنة الياء، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بفتح الياء في كل القرآن، ثم رد عليهم الأمر بالتقوى والدعاء إلى طاعته تحذيرًا ونذارة وحرصًا عليهم فذهب أشرافهم إلى استنقاص أتباعه بسبب صغار الناس الذين اتبعوه وضعفائهم، وهذا كفعل قريش في شأن عمار بن ياسر وصهيب وغيرهما، وقال بعض الناس {الأرذلون} الحاكة، والحجامون والأساكفة، وفي هذا عندي على جهة المثال أي أهل الصنائع الخسيسة لا أن هذه الصنائع المذكورة خصت بهذا، و{الأرذلون} جمع الأرذل ولا يستعمل إلا معرفًا أو مضافًا أو ب من.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر من الآية أن مراد {قوم نوح} بنسبة الرذيلة إلى المؤمنين تهجين أفعالهم لا النظر في صنائعهم، يدل على ذلك قول نوح {ما علمي} الآية، لأن معنى كلامه ليس في نظري وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة إنما أقنع بظاهرهم وأجتزىء به، ثم حسابهم على الله تعالى، وهذا نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس» الحديث بجملته، وقرأ جمهور الناس {واتبعك} على الفعل الماضي، وقرأ ابن السميفع اليماني وسعيد بن أسعد الأنصاري {وأتباعك} على الجمع، ونسبها أبو الفتح إلى ابن مسعود والضحاك وطلحة، قال أبو عمرو وهي قراءة ابن عباس والأعمش وأبي حيوة، وقرأ عيسى بن عمر الهمذاني {لو يشعرون} بالياء من تحت، وإعراب قوله: {وأتباعك} إما جملة في موضع الحال وإما عطف على الضمير المرفوع وحسن لك الفصل بقوله: {لك}، وقولهم {من المرجومين}، يحتمل أن يريدوا بالحجارة، ويحتمل أن يريدوا بالقول والشتم ونحوه، وهو شبيه برجم الحجارة، وهو من الرجم بالغيب والظن ونحو ذلك، وقوله: {افتح} معناه احكم، والفتاح القاضي بلغة يمنية، و{الفلك} السفينة وجمعها فلك أيضًا، وقد تقدم بسط القول في هذا الجمع في سورة الأعراف، و{المشحون} معناه المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل، وباقي الآية بين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ}.
قال الزجاج: القوم مذكَّرون؛ والمعنى: كذَّبت جماعةُ قوم نوح.
قوله تعالى: {إِذ قال لهم أخوهم نُوحٌ} كانت الأُخوَّة من جهة النَّسَب بينهم، لا من جهة الدِّين، {ألا تتقون} عذاب الله بتوحيده وطاعته، {إِنِّي لكم رسول أمين} على الرسالة فيما بيني وبين ربِّكم.
{وما أسألُكم عليه من أَجْر} أي: على الدعاء إِلى التوحيد.
قوله تعالى: {واتَّبعكَ الأرذلون} وقرأ يعقوب بفتح الهمزة وتسكين التاء وضم العين: {وأَتْبَاعُكَ الأرذلون}، وفيهم ثلاثة أقوال.
أحدها: الحاكَة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: الحاكَة والأساكفة؛ قاله عكرمة.
والثالث: المساكين الذين ليس لهم مال ولا عزٌّ، قاله عطاء.
وهذا جهل منهم، لأن الصناعات لا تضرُّ في باب الدِّيانات.
قوله تعالى: {وما عِلْمِي بما كانوا يعملون} أي: لم أعلم أعمالهم وصنائعهم، ولم أُكلَّف ذلك، إِنما كلِّفتُ أن أدعوَهم، {إِنْ حِسَابُهم} فيما يعملون {إِلا على ربِّي لو تشعُرون} بذلك ما عبتموهم في صنائعهم، {وما أنا بطارد المؤمنين} أي: ما أنا بالذي لا أقبل إِيمانهم لزعمكم أنهم الأرذلون.
وفي قوله: {لَتكونَنَّ من المرجومين} ثلاثة أقوال.
أحدها: من المشتومين، قاله الضحاك.
والثاني: من المضروبين بالحجارة، قاله قتادة.
والثالث: من المقتولين بالرَّجم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {فافتح بيني وبينهم} أي: اقض بيني وبينهم قضاء، يعني: بالعذاب {ونَجِّني ومَنْ معيَ} من ذلك العذاب.
والفُلْك قد تقدم بيانه.
[البقرة: 164].
والمشحون: المملوء، يقال: شحنتُ الإِناء، إِذا مَلأْتَه؛ وكانت سفينة نوح قد ملئت من الناس والطير والحيوان كُلِّه، {ثم أغْرقنا بعدُ} بعد نجاة نوح ومن معه {الباقين}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين}.
قال: {كذبت} والقوم مذكر؛ لأن المعنى كذبت جماعة قوم نوح، وقال: {الْمُرْسَلينَ} لأن من كذب رسولًا فقد كذب الرسل؛ لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل.
وقيل: كذبوا نوحًا في النبوّة وفيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده.
وقيل: ذكر الجنس والمراد نوح عليه السلام.
وقد مضى هذا في الفرقان.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي ابن أبيهم وهي أخوة نسب لا أخوة دين.
وقيل: هي أخوة المجانسة.
قال الله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وقد مضى هذا في الأعراف.
وقيل: هو من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحدًا منهم.
الزمخشري: ومنه بيت الحماسة:
لا يَسْألون أخاهم حِينَ يَنْدُبُهم ** في النَّائباتِ على ما قال بُرْهَانَا

{أَلاَ تَتَّقُونَ} أي ألا تتقون الله في عبادة الأصنام.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي صادق فيما أبلغكم عن الله تعالى.
وقيل: {أَمِينٌ} فيما بينكم؛ فإنهم كانوا عرفوا أمانته وصدقه من قبل؛ كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش.
{فاتقوا الله} أي فاستتروا بطاعة الله تعالى من عقابه.
{وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من الإيمان.
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي لا طمع لي في مالكم.
{إِنْ أَجْرِيَ} أي ما جزائي {إِلاَّ على رَبِّ العالمين}.
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} كرر تأكيدًا.
قوله تعالى: {قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي نصدق قولك.
{واتبعك الأرذلون} الواو للحال وفيه إضمار قد، أي وقد اتبعك.
{الأَرْذَلُونَ} جمع الأرذل، المكسر الأراذل والأثنى الرُّذْلَى والجمع الرُّذَّل.
قال النحاس: ولا يجوز حذف الألف واللام في شيء من هذا عند أحد من النحويين علمناه.
وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي وغيرهم، {وَأَتْبَاعُكَ الأَرْذَلُون}.
النحاس: وهي قراءة حسنة؛ وهذه الواو أكثرها تتبعها الأسماء والأفعال بقد.
وأتباع جمع تبع وتبيع يكون للواحد والجمع.
قال الشاعر:
له تَبَعٌ قد يعلمُ الناسُ أنّه ** على من يُدانِي صَيِّف ورَبِيعُ

ارتفاع {أتْبَاعُكَ} يجوز أن يكون بالابتداء و{الأَرْذَلُونَ} الخبر؛ التقدير أنؤمن لك وإنما أتباعك الأرذلون.
ويجوز أن يكون معطوفًا على الضمير في قوله: {أَنُوْمِنُ لَكَ} والتقدير: أنؤمن لك نحن وأتباعك الأرذلون فنعدّ منهم؛ وحسن ذلك الفصل بقوله: {لَكَ} وقد مضى القول في الأراذل في سورة هود مستوفًى.
ونزيده هنا بيانًا وهي المسألة:
الثانية: فقيل: إن الذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكناته وبنو بنيه.
واختلف هل كان معهم غيرهم أم لا.
وعلى أي الوجهين كان فالكل صالحون؛ وقد قال نوح: {وَنَجِنّي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ المُوْمِنِينَ} والذين معه هم الذين اتبعوه، ولا يلحقهم من قول الكفرة شين ولا ذمّ، بل الأرذلون هم المكذبون لهم.
قال السهيلي: وقد أغرى كثير من العوام بمقالة رويت في تفسير هذه الآية: هم الحاكَة والحجّامون.
ولو كانوا حاكة كما زعموا لكان إيمانهم بنبيّ الله واتباعهم له مشرِّفًا كما تشرَّف بِلالٌ وسَلْمَان بسبقهما للإسلام؛ فهما من وجوه أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فلا ذرية نوح كانوا حاكة ولا حجّامين، ولا قول الكفرة في الحاكة والحجامين إن كانوا آمنوا بهم أرذلون ما يلحق اليوم بحاكتنا ذمًّا ولا نقصًا؛ لأن هذه حكاية عن قول الكفرة إلا أن يجعل الكفرة حجة ومقالتهم أصلًا؛ وهذا جهل عظيم وقد أعلم الله تعالى أن الصناعات ليست بضائرة في الدين.
قوله تعالى: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} {كان} زائدة؛ والمعنى: وما علمي بما يعملون؛ أي لم أكلف العلم بأعمالهم إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان، والاعتبار بالإيمان لا بالحِرَف والصّنائع؛ وكأنهم قالوا: إنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعًا في العزة والمال.
فقال: إني لم أقف على باطن أمرهم وإنما إليّ ظاهرهم.
وقيل: المعنى إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويرشدهم ويغويكم ويوفقهم ويخذلكم.
{إِنْ حِسَابُهُمْ} أي في أعمالهم وإيمانهم {إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} وجواب {لو} محذوف؛ أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم لما عبتموهم بصنائعهم.
وقراءة العامّة: {تَشْعُرُونَ} بالتاء على المخاطبة للكفار وهو الظاهر.
وقرأ ابن أبي عَبْلَة ومحمد بن السَّمَيْقَع: {لو يشعرون} بالياء كأنه خبر عن الكفار وترك الخطاب لهم؛ نحو قوله: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22].
وروي أن رجلًا سأل سفيان عن امرأة زنت وقتلت ولدها وهي مسلمة هل يقطع لها بالنار؟ فقال: {إِنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}.
{وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم.
وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء كما طلبته قريش.
{إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} يعني: إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغنى دون الفقراء، إنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله وإن كان فقيرًا.
قوله تعالى: {قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح} أي عن سبّ آلهتنا وعيب ديننا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي بالحجارة؛ قاله قتادة.
قال ابن عباس ومقاتل: من المقتولين.
قال الثُّمَالِيّ: كل مرجومين في القرآن فهو القتل إلا في مريم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] أي لأسبنك.
وقيل: {مِنَ الْمَرْجُومِينَ} من المشتومين؛ قاله السدي.
ومنه قول أبي دؤاد.
{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين} قال ذلك لما يئس من إيمانهم.
والفتح الحكم وقد تقدم.
{فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون} يريد السفينة وقد مضى ذكرها.
والمشحون المملوء، والشحن ملء السفينة بالناس والدواب وغيرهم.
ولم يؤنث الفلك هاهنا؛ لأن الفلك هاهنا واحد لا جمع {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين} أي بعد إنجائنا نوحًا ومن آمن.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}. اهـ.