فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)}.
كما رجع السياق القهقرى في التاريخ من قصة موسى إلى قصة إبراهيم، كذلك يرجع القهقرى من قصة إبراهيم إلى قصة نوح. إن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب.
وقصة نوح، كقصة موسى وقصة إبراهيم، تعرض في سور شتى من القرآن. وقد عرضت من قبل في سورة الأعراف في الخط التاريخي للرسل والرسالات بعد هبوط آدم من الجنة عرضًا مختصرًا، يتلخص في دعوته قومه إلى التوحيد، وإنذارهم عذاب يوم عظيم، واتهام قومه له بالضلال، وعجبهم من أن يبعث الله إليهم رجلًا منهم، وتكذيبهم له. ومن ثم إغراقهم ونجاته هو ومن معه بدون تفصيل.
وعرضت في سورة يونس باختصار كذلك في نهاية رسالته، إذ تحدى قومه فكذبوه، ثم كانت نجاته ومن معه في الفلك، وإغراق الآخرين.
وعرضت في سورة هود بتفصيل في قصة الطوفان والفلك وما بعد الطوفان كذلك من دعائه لربه في أمر ابنه الذي أغرق مع المغرقين. وما كان بينه وبين قومه قبل ذلك من جدال حول عقيدة التوحيد.
وعرضت في سورة المؤمنون فذكر منها دعوته لقومه إلى عبادة الله الواحد، واعتراضهم عليه بأنه بشر منهم يريد أن يتفضل عليهم؛ ولو شاء الله لأنزل ملائكة، واتهامه بالجنون. ثم توجهه إلى ربه يطلب نصرته. وإشارة سريعة إلى الفلك والطوفان.
وهي تعرض في الغالب في سلسلة مع قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين وكذلك هي في هذه السورة وأظهر ما في الحلقة المعروضة هنا دعوته لقومه إلى تقوى الله، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجرًا على الهدى، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء وهذا ما كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة سواء بسواء ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه. واستجابة الله له بإغراق المكذبين وتنجية المؤمنين.
{كذبت قوم نوح المرسلين}.
تلك هي النهاية. نهاية القصة. يبدأ بها لإبرازها منذ البداية. ثم يأخذ في التفصيل.
وقوم نوح لم يكذبوا إلا نوحًا. ولكنه يذكر أنهم كذبوا المرسلين. فالرسالة في أصلها واحدة، وهي دعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبودية له. فمن كذب بها فقد كذب بالمرسلين أجمعين، فهذه دعوتهم أجمعين. والقرآن يؤكد هذا المعنى ويقرره في مواضع كثيرة، بصيغ متعددة، لأنه كلية من كليات العقيدة الإسلامية، تحتضن بها الدعوات جميعًا؛ وتقسم بها البشرية كلها إلى صفين: صف المؤمنين وصف الكافرين، على مدار الرسالات ومدار القرون. وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة لكل دين وكل عقيدة من عند الله هي أمته، منذ فجر التاريخ إلى مشرق الإسلام دين التوحيد الأخير.
وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة وفي كل دين. وإذا المؤمن يؤمن بالرسل جميعًا، ويحترم الرسل جميعًا، لأنهم جميعهم حملة رسالة واحدة هي رسالة التوحيد.
إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان. إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل. وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل. في كل زمان وفي كل مكان. وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله؛ وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن، والقرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ. ترتفع فتصبح قيمة واحدة. هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع، ويقوّم بها الجميع.
{كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون}.
هذه هي دعوة نوح التي كذبه فيها قومه وهو أخوهم وكان الأليق بالأخوة أن تقود إلى المسالمة والاطمئنان والإيمان والتصديق. ولكن قومه لم يأبهوا لهذه الصلة، ولم تلن قلوبهم لدعوة أخيهم نوح إذ قال لهم: {ألا تتقون} وتخافون عاقبة ما أنتم فيه؟ وتستشعر قلوبكم خوف الله وخشيته؟
وهذا التوجيه إلى التقوى مطرد في هذه السورة. فهكذا قال الله عن فرعون وقومه لموسى وهو يكلفه التوجه إليهم. وهكذا قال نوح لقومه. وهكذا قال كل رسول لقومه من بعد نوح:
{إِني لكم رسول أمين}. لا يخون ولا يخدع ولا يغش، ولا يزيد شيئًا أو ينقص شيئًا مما كلفه من التبليغ.
{فاتقوا الله وأطيعون}. وهكذا يعود إلى تذكيرهم بتقوى الله، ويحددها في هذه المرة، وينسبها إلى الله تعالى، ويستجيش بها قلوبهم إلى الطاعة والتسليم.
ثم يطمئنهم من ناحية الدنيا وأعراضها، فما له فيها من أرب بدعوتهم إلى الله، وما يطلب منهم أجرًا جزاء هدايتهم إليه، فهو يطلب أجره من رب الناس الذي كلفه دعوة الناس. وهذا التنبيه على عدم طلب الأجر يبدو أنه كان دائمًا ضروريًا للدعوة الصحيحة، تمييزًا لها مما عهده الناس في الكهان ورجال الأديان من استغلال الدين لسلب أموال العباد. وقد كان الكهنة ورجال الدين المنحرفون دائمًا مصدر ابتزاز للأموال بشتى الأساليب. فأما دعوة الله الحقة فكان دعاتها دائمًا متجردين، لا يطلبون أجرًا على الهدى. فأجرهم على رب العالمين.
وهنا يكرر عليهم طلب التقوى والطاعة، بعد اطئمنانهم من ناحية الأجر والاستغلال: {فاتقوا الله وأطيعون}. ولكن القوم يطلعون عليه باعتراض عجيب. وهو اعتراض مكرور في البشرية مع كل رسول:
{قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}.
وهم يعنون بالأرذلين الفقراء. وهم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام. لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة.
ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة. ومن ثم فهم الملبون السابقون. فأما الملأ من الكبراء فتقعد بهم كبرياؤهم، وتقعد بهم مصالحهم، القائمة على الأوضاع المزيفة، المستمدة من الأوهام والأساطير، التي تلبس ثوب الدين. ثم هم في النهاية يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بالجماهير من الناس، حيث تسقط القيم الزائفة كلها، وترتفع قيمة واحدة. قيمة الإيمان والعمل الصالح. قيمة واحدة ترفع قوما وتخفض آخرين. بميزان واحد هو ميزان العقيدة والسلوك القويم.
ومن ثم يجيبهم نوح الجواب الذي يقرر القيم الثابتة ويحدد اختصاص الرسول، ويدع أمر الناس وحسابهم للّه على ما يعملون.
{قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
والكبراء يقولون دائما عن الفقراء: إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية، ولا تطاق في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف! فنوح يقول لهم: إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان. وقد آمنوا. فأما عملهم قبله فموكول إلى اللّه، وهو الذي يزنه ويقدره. ويجزيهم على الحسنات والسيئات. وتقدير اللّه هو الصحيح {لَوْ تَشْعُرُونَ} بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان اللّه. وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح:
{إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
فلما أن واجههم نوح- عليه السّلام- بحجته الواضحة ومنطقة المستقيم وعجزوا عن المضي في الجدل بالحجة والبرهان، لجأوا إلى ما يلجأ إليه الطغيان كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان. لجأوا إلى التهديد بالقوة المادية الغليظة التي يعتمد عليها الطغاة في كل زمان ومكان، عند ما تعوزهم الحجة، ويعجزهم البرهان:
{قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}.
وأسفر الطغيان عن وجهه الكالح، وكشف الضلال عن وسيلته الغليظة، وعرف نوح أن القلوب الجاسية لن تلين هنا توجه نوح إلى الولي الوحيد، والناصر الفريد، الذي لا ملجأ سواه للمؤمنين:
{قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
وربه يعلم أن قومه كذبوه. ولكنه البث والشكوى إلى الناصر المعين، وطلب النصفة، ورد الأمر إلى صاحب الأمر: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} يضع الحد الأخير للبغي والتكذيب: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
واستجاب اللّه لنبيه الذي يتهدده الطغيان بالرجم، لأنه يدعو الناس إلى تقوى اللّه، وطاعة رسوله، لا يطلب على ذلك أجرا، ولا يبتغي جاها ولا مالا:
{فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ}.
هكذا في إجمال سريع. يصور النهاية الأخيرة للمعركة بين الإيمان والطغيان في فجر البشرية. ويقرر مصير كل معركة تالية في تاريخ البشرية الطويل.
ثم يجيء التعقيب المكرور في السورة عقب كل آية من آيات اللّه العزيز الرحيم:
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)}.
استئناف لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ناشيء عن قوله: {وما كان أكثرهم مؤمنين} [الشعراء: 103] أي لا تأسَ عليهم ولا يعظُمْ عليك أنهم كذّبوك فقد كذبت قوم نوح المرسلين؛ وقد علم العرب رسالةَ نوح، وكذلك شأن أهل العقول الضالّة أنهم يعرفون الأحوال وينسون أسبابها.
وأنث الفعل المسند إلى قوم نوح لتأويل {قوم} بمعنى الأمة أو الجماعة كما يقال: قالت قريش، وقالت بنو عامر، وذلك قياس في كل اسم جَمع لا واحد له من لفظه إذا كان للآدمي مثل نَفَر ورهْط، فأما إذا كان لغير الآدميين نحو إبل فمؤنث لا غير.
قاله الجوهري وتبعه صاحب اللسان والمصباح.
ووقع في الكشاف هذه العبارة القومُ مؤنثة وتصغيرُها قُويمة فظاهر عبارته أن هذا اللفظ مؤنث المعنى في الاستعمال لا غير، وهذَا لم يقله غيره وسكت شراحه عليه ولم يعرج الزمخشري عليه في الأساس فإن حمل على ظاهر العبارة فهو مخالف لكلام الجوهري وابن سيده.
ويحتمل أنه أراد جواز تأنيث {قوم} وأنه يجوز أن يصغر على قويمة فيُجمع بين كلامه وكلام الجوهري وابن سيده، وهو احتمال بعيد من ظاهر كلامه الموكَّد بقوله: وتصغيره قُويمة، لما هو مقرر من أن التصغير يرد الأسماء إلى أصولها.
وأيًّا مّا كان فهو صريح في أن تأنيثه ليس بتأويله بمعنى الأمة لأن التأويل اعتبار للمتكلم فلا يكون له أثر في إجراء الصيغ مثل التصغير، فإن الصيغ من آثار الوضع دون الاستعمال، ألا ترى أنه لا تجعل للمعاني المجازية صيغ خاصة بالمجاز.
وجُمع {المرسلين} وإنما كذَّبوا رسولًا واحدًا أولَ الرسل ولم يكن قبله رسول وهم أول المكذّبين، فإنما جُمع لأن تكذيبهم لم يكن لأجل ذاته ولكنه كان لإحالتهم أن يرسل الله بشرًا، وأن تكون عبادة أصنامهم ضلالًا فكان تكذيبهم إياه مقتضيًا تكذيب كل رسول لأن كل رسول يقول مثل ما قاله نوح عليه السلام، ولذلك تكرر في قوله: {كذبت عاد المرسلين} [الشعراء: 123] وما بعده.
وقد حكي تكذيبهم أن يكون الرسول بشرًا في قوله: {أَوَعَجِبْتم أن جاءكم ذِكْر من ربكم على رجل منكم لينذركم} في [الأعراف: 63].
وسيأتي حكاية تكذيب عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب لَيْكة على هذا النمط فيما تكرر من قوله: {كذبت} وقوله: {المرسلين}.
و{إذ قال} ظرف، أي كذبوه حين قال لهم {ألا تتقون} فقالوا: {أنؤمن لك} [الشعراء: 111].
ويظهر أن قوله: {ألا تتقون} صدر بعد أن دعاهم من قبل وكرّر دعوتهم إذ رآهم مُصرِّين على الكفر ويدل لذلك قولهم في مجاوبته {واتَّبَعَك الأرذلون} [الشعراء: 111].
وخص بالذكر في هذه السورة هذا الموقف من مواقفه لأنه أنسب بغرض السورة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بذكر مماثل حاله مع قومه.
والأخ مستعمل في معنى القريب من القبيلة.