فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

{وأوحينا} أي: بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود {إلى موسى أن أسر} ليلًا {بعبادي} وذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوًّا وفسادًا، وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون ووصل الهمزة بعدها من سرى، وقرأ الباقون بسكون النون وقطع الهمزة بعدها، ثم علل أمره له بالسير في الليل بقوله تعالى: {إنكم متبعون} أي: لا تظنّ أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر بحري، والمراد: يوافقهم عند البحر، ولم يكتم إتباعهم عن موسى لعدم تأثره به، والمعنى: أني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم حتى يدخلوا مدخلكم ويسلكوا مسلككم من طريق البحر فأطبقه عليهم.
روي: أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن أجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت ثم اذبحوا الجداء واضربوا بدمائها أبوابكم فإني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتًا على بابه دم وآمرهم بقتل أبكار القبط واختبزوا خبزًا فطيرًا فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري، وروي أنّ قوم موسى قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيدًا ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع فرعون ذلك جمع قومه وتبعهم كما قال تعالى: {فأرسل فرعون} أي: لما أصبح وعلم بهم {في المدائن حاشرين} أي: رجالًا يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكًا لهممهم.
{إن هؤلاء} إشارة بأداة القرب تحقيرًا لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا لما بهم من العجز وبآل فرعون من القوّة فليسوا بحيث يخاف قوتهم {لشرذمة} أي: طائفة وقطعة من الناس {قليلون} أي: بالنسبة إلى مالنا من الجنود التي لا تحصى فذكرهم أولًا بالاسم الدال على القلة بالشرذمة وهي الطائفة القليلة، ومنها قولهم: ثوب شرذم للذي بلي وتقطع قطعًا، ثم جعلهم قليلًا بالوصف ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلًا واختار جمع السلامة الذي هو للقلة مع أنهم كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفًا وسماهم بشرذمة قليلين وذلك بالنسبة لما أرسله خلفهم، فإنّ الذي أرسله فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم وكان مقدمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وعن ابن عباس خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث فلذلك استقل قوم موسى، قال الزمخشري ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والقماءة ولا يريد قلة العدد، والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع عليهم غلبتهم وعلوّهم ولكنهم يفعلون أفعالًا تغيظنا وتضيق صدورنا، كما قال تعالى عنهم.
{وإنهم لنا لغائظون} أي: بما فجعونا به من أنفسهم وبما استعاروه من الزينة من الأواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة فلا رحمة في قلوبهم بجمعهم.
{وإنا لجميعٌ حذرون} أي: من عادتنا الحذر والتيقظ واستعمال الحزم في الأمور فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه، وقرأ ابن ذكوان والكوفيون بألف بعد الحاء، والباقون بغير ألف، قال أبو عبيدة والزجاج: هما بمعنى واحد يقال رجل حذر وحذور وحاذر بمعنى، وقيل بل بينهما فرق فالحذر المتيقظ والحاذر الخائف.
قيل: الأول للتجدّد لأنه اسم فاعل، والثاني: للثبات لأنه صفة مشبهة وقيل: الحاذر المتبلج الذي له شوكة، السلاح وهو أيضًا من الحذر لأنّ ذلك إنما يفعل حذرًا، يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر وأنه يجزئه أربعة أجزاء: أحدها: لوزرائه وكتابه وجنده والثاني: لحفر الأنهار وعمل الجسور والثالث: له ولولده والرابع: يفرّق في المدن، فإن لحقهم ظلم أو ظمأ أو اشتجار أو فساد غلة أو موت عوامل قوّاهم به، ويروى أنه قصده قوم فقالوا نحتاج إلى أن نحفر خليجًا لنعمر ضياعنا فأذن في ذلك واستعمل عليهم عاملًا فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال فسأل عن مبلغ ما أنفقوه في خليجهم فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم فإنّ الملك إذا استغنى بمال الرعية يعني رعيته افتقر، وإن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا، ولما كان التقدير فأطاعوا أمره ونفروا على كل صعب وذلوا، عطف عليه قوله تعالى بما آل إليه أمرهم.
{فأخرجناهم} أي: فرعون وجنوده بما لنا من القدرة من مصر ليلحقوا بموسى وقومه إخراجًا حثيثًا مما لا يسمع أحد بالخروج منه {من جنات} أي: بساتين كانت على جانبي النيل يحق لها أن تذكر {وعيون} أي: أنهار جارية في الدور من النيل، وقيل: عيون تخرج من الأرض لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر.
{وكنوز} أي: أموال ظاهرة من الذهب والفضة وسميت كنوز لأنها لم يعط حق الله منها وما لم يعط حق الله تعالى منه فهو كنز وإن كان ظاهرًا، قيل: كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب {ومقام} من المنازل {كريم} أي: مجلس حسن للأمراء والوزراء بحقه اتباعهم، وعن الضحاك: المنابر وقيل: السرر في الحجال، وذكر بعضهم أنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف عليهم الأقبية من الديباج مخوصة بالذهب.
{كذلك} أي: أخرجنا كما وصفنا {وأورثناها} أي: تلك النعم السنية بمجرّد خروجهم بالقوّة وبعد إغراق فرعون وجنوده بالفعل {بني إسرائيل} أي: جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعًا يمنعهم منها بعد أن كانوا مستعبدين بين أيدي أربابها، واستشكل إرثهم لها بالفعل لقوله تعالى في الدخان {قومًا آخرين} (الدخان).
وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في ذلك المحل. بل قيل: إنّ بني إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر بعد ذلك ولما وصف تعالى الإخراج وصف أثره بقوله تعالى مرتبًا عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوّة.
{فأتبعوهم} أي: جعلوا أنفسهم تابعة لهم {مشرقين} أي: داخلين في وقت شروق الشمس بطلوعها صبيحة الليلة التي سار فيها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن ذلك على حكم العادة في أقل من عشرة أيام فإنه تعجز الملوك عن مثله، واستمرّوا إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم.
{فلما تراءى الجمعان} أي: رأى كل منهما الآخر {قال أصحاب موسى} ضعفًا وعجزًا استصحابًا لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم أقل منهم بكثير بحيث يقال إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل وذلك محقق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم بأصحاب دون بني إسرائيل؛ لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم {إنا لمدركون} أي: يدركنا فرعون وقومه وقد صرنا بين سدّين العدّو وراءنا والبحر أمامنا ولا طاقة لنا بذلك.
{قال} أي: موسى عليه السلام وثوقًا بوعد الله تعالى {كلا} أي: لا يدركونكم أصلًا، ثم علل ذلك تسكينًا لهم بقوله: {إن معي ربي} أي: بنصره فكأنهم قالوا وما عساه يفعل وقد وصلونا قال: {سيهدين} أي: يدلني على طريق النجاة، روي: أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى عليه السلام فقال أين تذهب فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون قال: أمرت بالبحر ولعلي أؤمر بما أصنع.
{فأوحينا} أي: فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا ونوّه باسم الكليم جزاء له على ثقته به سبحانه وتعالى، فقال تعالى: {إلى موسى} وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر} أي: الذي أمامكم وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرّفة وما والاها، وقيل: النيل، فضربه {فانفلق} بسبب ضربه لما ضربه امتثالًا لأمر ربه وصار اثني عشر فرقًا على عدد أسباطهم {فكان كل فرق} أي: جزء وقسم عظيم منه {كالطود} أي: الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان {العظيم} المتطاول في السماء الثابت في قعره لا يتزلزل لأنّ الماء كان منبسطًا في أرض البحر فلما انفلق وانكشف فيه الطريق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء بين تلك الأجزاء مسالك سلكوها لم يبتل منها سرج الراكب.
قال الزجاج: لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال، فقال يوشع: يا كليم الله يا ابن امرأة عمران قد غشينا فرعون والبحر أمامنا، فقال موسى: هاهنا فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه يا كليم الله أين أمرت قال ههنا، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء، وصنع القوم مثل ذلك فلم يقدروا فجعل موسى لا يدري كيف يصنع، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه، فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقًا لكل سبط طريق فإنّ الرجل على فرسه لم يبتلّ سرجه ولا لبده.
روي: أنّ موسى قال عند ذلك يا من كان قبل كل شيء والمكوّن لكل شيء والكائن بعد كل شيء، وهذا معجز عظيم من وجوه: أحدهما: أن تفرّق ذلك الماء معجز وثانيها: أنّ اجتماع ذلك الماء فوق كل فرق منه حتى صار كالجبل معجز أيضًا، وثالثها: أنه ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي تكامل معه عدد بني إسرائيل وهذا معجز ثالث، ورابعها: أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر بعضهم إلى بعض وهذا معجز رابع، وخامسها: أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخصلوا من البحر كما تخلص موسى عليه السلام وهذا معجز خامس.
فائدة: لكل من جميع القراء في الراء من فرق الترقيق والتفخيم. ولما كان التقدير: وأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق عطف عليه.
{وأزلفنا} أي: قربنا بعظمتنا {ثم} أي: هناك {الآخرين} أي: فرعون وقومه حتى سلكوا مسالكهم وقال أبو عبيدة: وأزلفنا أخلفنا، ومنه ليلة المزدلفة أي: ليلة الجمع، عن عطاء بن السائب: أنّ جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون وكان يسوق بني إسرائيل ويقول ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل القبط ويقول رويدكم ليلحق آخركم أولكم.
{وأنجينا موسى ومن معه} وهم من تبعوه من قومه وغيرهم {أجمعين} أي: لم نقدّر على أحد منهم الهلاك بل أخرجناهم من البحر على هيئته المذكورة.
{ثم أغرقنا الآخرين} أي: فرعون وقومه أجمعين بانطباق البحر عليهم لما تم دخولهم البحر وخروج بني إسرائيل منه، ويقال هذا البحر بحر القلزم، وقيل: هو بحر من وراء مصر يقال له أساف.
{إنّ في ذلك} أي: الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات {لآية} أي: علامة عظيمة دالة على قدرة الله تعالى لأنّ أحدًا من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا أو على صدق موسى لكونه معجزة له وعلى التحذير عن مخالفة أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه قد بغتم بتكذيب قومه معه ظهور المعجزات عليه فنبه الله تعالى بهذا الذكر على أنّ له أسوة بموسى وغيره {وما كان أكثرهم} أي: أهل مصر الذين شاهدوها والذين وعظوا بسماعها {مؤمنين} أي: متصفين بالإيمان الثابت، أما القبط فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم متزلزلًا يتعنت كل قليل ويقول ويفعل ما هو كفر حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلهًا كالأصنام التي مرّوا عليها، وأمّا غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف وأمرهم مشاهد مكشوف فقد سألوه بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وطلبوا رؤية الله جهرة.