فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد جاء في ذكر النعمة بالإجمال الذي يُهَيِّىء السامعين لتلقّي ما يرد بعده فقال: {الذي أمدكم بما تعلمون} ثم فُصِّل بقوله: {أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون} وأعيد فعل {أمدّكم} في جملة التفصيل لزيادة الاهتمام بذلك الإمداد فهو للتوكيد اللفظي.
وهذه الجملة بمنزلة بدل البعض من جملة {أمدكم بما تعلمون} فإن فعل {أمدّكم} الثاني وإن كان مساويًا ل {أمدكم} الأول فإنما صار بدلًا منه باعتبار ما تعلق به من قوله: {بأنعام وبنين} إلخ الذي هو بعض ممّا تعلمون.
وكلا الاعتبارين التوكيد والبدل يقتضي الفصل، فلأجله لم تعطف الجملة.
وابتدأ في تعداد النعم بذكر الأنعام لأنها أجلّ نعمة على أهل ذلك البلد، لأن منها أقواتَهم ولباسهم وعليها أسفارهم وكانوا أهلَ نُجعة فهي سبب بقائهم، وعطف عليها البنين لأنهم نعمة عظيمة بأنها أنسهم وعونهم على أسباب الحياة وبقاء ذكرهم بعدهم وكثرة أمتهم، وعطف الجنات والعيون لأنها بها رفاهية حالهم واتساع رزقهم وعيش أنعامهم.
وجملة: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} تعليل لإنكار عدم تقواهم وللأمر بالتقوى، أي أخاف عليكم عذابًا إن لم تتقوا، فإن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده.
والعذاب يجوز أن يريد به عذابًا في الدنيا توعدهم الله به على لسانه، ويجوز أن يريد به عذاب يوم القيامة.
ووصف {يوم} ب {عظيم} على طريقة المجاز العقلي، أي عظيم ما يحصل فيه من الأهوال.
{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)}.
أجابوا بتأييسه من أن يقبلوا إرشادَه فجعلوا وعظهُ وعدمه سواء، أي هما سواء في انتفاء ما قصده من وعظه وهو امتثالهم.
والهمزة للتسوية.
وتقدم بيانها عند قوله: {سواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} في سورة البقرة (6).
والوعظ: التخويف والتحذير من شيء فيه ضر، والاسم الموعظة.
وتقدم في قوله: {وهدى وموعظة للمتقين} في سورة العقود (46).
ومعنى: {أم لم تكن من الواعظين} أم لم تكن في عداد الموصوفين بالواعظين، أي لم تكن من أهل هذا الوصف في شيء، وهو أشدّ في نفي الصفة عنه من أن لو قيل: أم لم تَعظ، كما تقدم في قوله تعالى: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} في سورة البقرة (67)، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {وما أنا من المهتدين} في سورة الأنعام (56)، وتقدم آنفًا قوله في قصة نوح {لتكونَنَّ من المرجومين} [الشعراء: 116].
وجملة: {إن هذا إلا خلق الأولين} تعليل لمضمون جملة: {سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين}، أي كان سواءً علينا فلا نتَّبع وعظَك لأن هذا خلق الأولين.
والإشارة ب {هذا} إلى شيء معلوم للفريقين حاصل في مقام دعوة هود إياهم، وسيأتي بيانه.
وقوله: {خلق الأولين} قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحمزة وعاصم وخلَف بضم الخاء وضم اللام.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر ويعقوبُ بفتح الخاء وسكون اللام.
فعلى قراءة الفريق الأول {خُلُقُ} بضمتين، فهو السجية المتمكنة في النفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شر وقد فُسّر بالقوى النفسية، وهو تفسير قاصر فيشمل طبائع الخير وطبائع الشر، ولذلك لا يُعرَف أحدُ النوعين من اللفظ إلا بقيد يضم إليه فيقال: خُلُق حسَن، ويقال في ضده: سوء خُلُق، أو خُلُق ذميم، قال تعالى: {وإنك لعلى خُلُق عظيم} [القلم: 4].
وفي الحديث: «وخَالِق الناسَ بخُلُق حسن».
فإذا أطلق عن التقييد انصرف إلى الخُلُق الحسن، كما قال الحريري في المقامة التاسعة وخُلُقي نعم العَون، وبيني وبينَ جاراتي بَوْن أي في حسن الخلق.
والخلق في اصطلاح الحكماء: ملكة أي كيفية راسخة في النفس أي متمكنة من الفكر تصدر بها عن النفس أفعال صاحبها بدون تأمل.
فخلق المرء مجموع غرائز أي طبائع نفسية مؤتلفة من انطباع فكري: إما جبليّ في أصل خلقته، وإما كسبي ناشيء عن تمرّن الفكر عليه وتقلُّده إياه لاستحسانه إياه عن تجربة نفعه أو عن تقليد ما يشاهده من بواعث محبة ما شاهد.
وينبغي أن يسمى اختيارًا من قول أو عمل لذاته، أو لكونه مِن سيرة من يُحبه ويقتدي به ويسمى تقليدًا، ومحاولته تسمى تخلقًا.
قال سالم بن وابصة:
عليك بالقصيد فيما أنتَ فاعله ** إن التخلُّق يأتي دونَه الخُلُق

فإذا استقر وتمكن من النفس صار سجية له يجري أعماله على ما تمليه عليه وتأمره به نفسه بحيث لا يستطيع ترك العمل بمقتضاها، ولو رام حملَ نفسه على عدم العمل بما تمليه سجيته لاستصغر نفسه وإرادته وحقر رأيه.
وقد يتغير الخلق تغييرًا تدريجيًا بسبب تجربة انجرار مضرة من داعيه، أو بسبب خوف عاقبة سيئة من جرّائه بتحذيرِ مَن هو قدوة عنده لاعتقاد نصحه أو لخوف عقابه.
وأول ذلك هو المواعظ الدينية.
ومعنى الآية على هذا يجوز أن يكون المحكيُّ عنهم أرادوا مدحًا لما هم عليه من الأحوال التي أصروا على عدم تغييرها فيكون أرادوا أنها خُلُق أسلافهم وأسوتهم فلا يقبلوا فيه عذلًا ولا ملامًا، كما قال تعالى عن أمثالهم {تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا} [إبراهيم: 10].
فالإشارة تنصرف إلى ما هم عليه الذي نهاهم عنه رسولُهم.
ويجوز أن يكونوا أرادوا ما يَدعو إليه رسولهم: أي ما هو إلا من خلُق أناس قبله، أي من عقائدهم وما راضوا عليه أنفسهم وأنه عبر عليها وانتحلها، أي ما هو بإذن من الله تعالى كما قال مشركو قريش {إنْ هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام: 25] والإشارة إلى ما يدعوهم إليه.
وأما على قراءة الفريق الثاني فالخَلْق بفتح الخاء وسكون اللام مصدر هو الإنشاء والتكوين، والخلق أيضًا مصدر خلق، إذا كذب في خبره، ومنه قوله تعالى: {وتخلُقون إفكًا} [العنكبوت: 17].
وتقول العرب: حدثنا فلان بأحاديث الخَلْق وهي الخرافات المفتعلة، ويقال له: اختلاق بصيغة الافتعال الدالة على التكلف والاختراع، قال تعالى: {إن هذا إلاّ اختلاق} [ص: 7] وذلك أن الكاذب يخلُق خبرًا لم يقع.
فيجوز أن يكون المعنى أن ما تزعمه من الرسالة عن الله كذب وما تخبرنا من البعث اختلاق، فالإشارة إلى ما جاء به صالح.
ويجوز أن يكون المعنى أنَّ حياتنا كحياة الأولين نحيا ثم نموت، فالكلام على التشبيه البليغ وهو كناية عن التكذيب بالبعث الذي حذرهم جزاءَه في قوله: {إني أخاف عليكم عَذابَ يوم عظيم} [الشعراء: 135] يقولون: كما مات الأولون ولم يبعث أحد منهم قط فكذلك نحيا نحن ثم نموت ولا نبعث.
وهذا كقول المشركين {ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} [الجاثية: 25] فالإشارة في قوله: {إن هذا إلا خلق الأولين} إلى الخَلق الذي هم عليه كما دل عليه المستنثى.
فهذه أربعة معان واحد منها مدح، واثنان ذم، وواحد ادعاء.
وجملة: {وما نحن بمعذبين} على المعاني الأوللِ والثاني والثالِث عطف على جملة {إن هذا إلا خلق الأولين} عطف مغاير.
وعلى المعنى الرابع عطفُ تفسير لقولهم {إن هذا إلا خلق الأولين} تصريحًا بعد الكناية.
والقصر قصْر إضافي على المعاني كلها.
ولا شك أن قوم صالح نطقوا بلغتهم جملًا كثيرة تنحل إلى هذه المعاني فجمعها القرآن في قوله: {إن هذا إلا خلق الأولين} باحتمال اسم الإشارة واختلاف النطق بكلمة خُلق فللَّه إيجازه وإعجازه.
والفاء في {فكذبوه} فصيحة، أي فتبيّن أنهم بقولهم: سواء علينا ذلك أوعظت الخ قد كذبوه فأهلكناهم.
وقوله: {إن في ذلك لآية}. إلى آخره هو مثل نظيره في قصة نوح. اهـ.

.قال الشعراوي:

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)}.
وقال هنا أيضًا {المرسلين} [الشعراء: 123] لأن تكذيب رسول واحد تكذيبٌ لكل الرسل؛ لأنهم جميعًا جاءوا بقواعد وأصول واحدة في العقائد وفي الأخلاق.
وعاد: اسم للقبيلة، وكانت القبائل تُنسَب إلى الأب الأكبر فيها، ولصاحب الشهرة والنباهة بين قومه، فعاد هو أبو هذه القبيلة، وقد يُطلَق عليهم بنو فلان أو آل فلان، ثم يذكر لنا قصتهم، ومتى كان منهم هذا التكذيب: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ}.
قلنا: إن {أَلاَ} للحثِّ والحضِّ، وحين يُنكّر النفي {أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 124] فإنه يريد الإثبات فكأنه قال: اتقوا. وقال: {أَخُوهُمْ} [الشعراء: 124] ليرقق قلوبهم ويُحنِّنهم إليه، وليعرفوا أنه واحد منهم ليس غريبًا عنهم، فهو أخوهم، والأخ من دَأبه النُّصْح والشفقة والرحمة، وهذا إيناس للخَلْق.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)}.
وهذه المقولة لازمة من لوازم الرسُل في دعوتهم، سبق أنْ قالها نوح عليه السلام.
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)}.
قلنا: إن هذه العبارة أول مَنْ قالها نوح عليه السلام ثم سيقولها الأنبياء من بعده. لكن: لماذا لم يقل هذه العبارة إبراهيم؟ ولم يقُلْها موسى؟
قالوا: لأن إبراهيم عليه السلام أول ما دعا دعا عمه آزر، فكيف يطلب منه أَجْرًا؟ وكذلك موسى عليه السلام أول دعوته دعا فرعون الذي ربَّاه في بيته، وله عليه فضل وجميل، فكيف يطلب منه أجرًا، وقد قال له: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18].
لذلك لم تأْت هذه المقولة على لسان أحد منهما.
وقال: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 127] لأن الربَّ هو الذي يتولَّى الخَلْق بالبذْل والعطايا والإمداد. وقلنا: إن عدم أخذ الأجر ليس زُهْدًا فيه، إنما طمعًا في أنْ يأخذ أجره من الله، لا من الناس.
ثم يتوجّه إليهم ليُصحِّح بعض المسائل الخاصة بهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ}.
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)}.
وهذه خصوصية من خصوصيات قوم هود، والرِّيع: هو المكان المرتفع، لذلك بعض الناس يقولون: كم رِيع بنائك؟ يعني: ارتفاعه كم مترًا، فكأن الارتفاع يُثمِّن البقعة، ويُطلق الريع على الارتفاع في كل شيء.
وكلمة {آيَةً} [الشعراء: 128] بعد {أَتَبْنُونَ} [الشعراء: 128] تعني: القصور العالية التي تعتبر آيةً في الإبداع وجمال العمارة والزخرفة والفخامة والاتساع والرِّفْعة في العُلُو.
وقال: {تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] لأنهم لن يخلُدوا في هذه القصور، ومع ذلك يُشيِّدونها لتبقى أجيالًا من بعدهم، فعدّ هذا بعثًا منهم؛ لأن الإنسان يكفيه أقلّ بناء ليأويه فترة حياته.
أو {تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] لأنهم كانوا يجلسون في شُرفات هذه القصور يصدُّون الناس، ويصرفونهم عن هود وسماع كلامه ودعوته التي تَلْفِتهم إلى منهج الحق.
ونحن لم نَرَ حضارة عاد، ولم نَرَ آثارهم، كما رأينا مثلًا آثار الفراعنة في مصر؛ لأن حضارة عاد طمرتْها الرمال، وكانوا بالجزيرة العربية في منطقة تُسمَّى الآن بالرَّبْع الخالي؛ لأنها منطقة من الرمال الناعمة التي يصعب السير أو المعيشة بها، لكن لكي نعرف هذه الحضارة نقرأ قوله تعالى في سورة الفجر:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 68].
وما دامت لم يُخلَق مثلها في البلاد، فهي أعظم من حضارة الفراعنة التي نشاهدها الآن، ويفد إليها الناس من كل أنحاء العالم ليشاهدوا الأهرام مثلًا، وقد بنيت لتكون مجرد مقابر، ومع تقدُّم العلم في عصر الحضارة والتكنولوجيا، ما زال هذا البناء مُحيِّرًا للعلماء، لم يستطيعوا حتى الآن معرفةَ الكثير من أسراره.