فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)}.
يقولونها صريحة ردًّا على قوله: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135].
ثم يقول الحق سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} وكانت السماء قبل محمد صلى الله عليه وسلم تجعل الرسول يُدلِي بمعجزته، أو يقول بمنهجه، لكن لا تطلب منه أن يُؤدِّب المعاندين والمعارضين له إنما تتولّى السماء عنه هذه المهمة فتُوقِع بالمكذبين عذابَ الاستئصال.
وقد أُمِنَتْ أمة محمد صلى الله عليه وسلم من عذاب الاستئصال، فمَنْ كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يأخذه الله كما أخذ المكذِّبين من الأمم السابقة، إنما يقول سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14].
وكملة {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء: 139] كلمة صادقة، لها دليل في الوجود نراه شاخصًا، كما يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 68].
نعم، كانت لهم حضارة بلغتْ القمة، ولم يكُنْ لها مثيل، ومع هذا كله ما استطاعت أنْ تصون نفسها، وأخذها الله أَخْذ عزيز مقتدر.
قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137- 138].
وقال: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا} [النمل: 52].
أي: أنها شاخصة أمامكم تروْنها وتمرُّون عليها، وأنتم لم تبلغوا مبلغَ هذه الحضارة، فإذا كانت حضارتهم لم تمنعهم من أَخْذ الله العزيز المقتدر، فينبغي عليكم أنْ تتنبهوا إلى أنكم أضعف منهم، وأن ما حاق بالكافرين وما نزل بالمكذِّبين ليس ببعيد عن أمثالهم من الأمم الأخرى.
لذلك تجد الحضارات التي تُتوَارث في الكون كلها آلتْ إلى زوال، ولم نجد منها حضارة بقيتْ من البداية إلى النهاية، ولو بُنِيَتْ هذه الحضارات على قيم ثابتة لكان فيها المناعة ضد الزوال.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء: 139] أي: في إهلاك هذه الحضارة لأمر عظيم، يُلفِت الأنظار، ويدعو للتأمل: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 139].
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}.
قال: {رَبَّكَ} [الشعراء: 140] ولم يقُلْ ربهم؛ لأن منزلة المربِّي تعظم في التربية بمقدار كمال المربِّي، فكأنه تعالى يقول: أنا ربُّك الذي أكملت تربيتك على أحسن حال، فَمنْ أراد أنْ يرى قدرة الربوبية فليرها في تربيتك أنت، والمربَّى يبلغ القمة في التربية إنْ كان مَنْ ربَّاه عظيمًا.
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي».
إذن: فمن عظمة الحق تبارك وتعالى أنْ يُعطي نموذجًا لدقّة تربيته تعالى ولعظمة تكوينه، ولما يصنعه على عَيْنه تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكأنه صلى الله عليه وسلم أكرمُ مخلوق مُربَّى في الأرض؛ لذلك قال: {رَبَّكَ} [الشعراء: 140] ولم يقل: ربهم مع أن الكلام ما يزال مُتعلقًا بهم.
وقوله تعالى: {لَهُوَ العزيز الرحيم} [الشعراء: 140] العزيز قلنا: هو الذي يَغْلِب ولا يُغْلَب، لكن لا تظن أن في هذه الصفة جبروتًا؛ لأنه تعالى أيضًا رحيم، ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يجمع بين هاتين الصفتين: عزيز ورحيم وكأنه يشير لنا إلى مبدأ إسلامي يُربِّي الإسلام عليه أتباعه، ألا وهو الاعتدال فلا تطغى عليك خصلة أو طبْع أو خُلُق، والزم الوسط؛ لأن كل طبْع في الإنسان له مهمة.
وتأمل قول الله تعالى في صفات المؤمنين:
{أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54].
فالمسلم ليس مجبولًا على الذلّة ولا على العزة، إنما الموقف هو الذي يجعله ذليلًا، أو يجعله عزيزًا، فالمؤمن يتصف بالذلّة والخضوع للمؤمنين، ويتصف بالعزّة على الكافرين.
ومن ذلك أيضًا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
ومعلوم أن الرحمة في غير موضعها ضَعْف وخَوَر، فمثلًا الوالد الذي يرفض أن يُجري لولده جراحة خطرة فيها نجاته وسلامته خوفًا عليه، نقول له: إنها رحمة حمقاء وعطف في غير محلّه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)}.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أتبنون بكل ريع} قال: طريق {آية} قال: علمًا {تعبثون} قال: تلعبون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أتبنون بكل ريع} قال: شرف.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {أتبنون بكل ريع} قال: طريق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر قال: {الريع} ما استقبل الطريق بين الجبال والظراب.
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أتبنون بكل ريع} قال: بكل فج بين جبلين {آية} قال: بنيانا {وتتخذون مصانع} قال: بروج الحمام.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {تعبثون} قال: تلعبون.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {وتتخذون مصانع} قال: قصورًا مشيدة وبنيانًا مخلدًا.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة {وتتخذون مصانع} قال: مآخذ للماء قال: وكان في بعض القراءة {وتتخذون مصانع كأنكم خالدون}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لعلكم تخلدون} قال: كأنكم تخلدون.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} قال: بالسوط والسيف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بطشتم جبارين} قال: أقوياء.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بطشتم جبارين} قال: أقوياء.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إن هذا إلا خلق الأولين} قال: دين الأولين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إن هذا إلا خلق الأولين} قال: أساطير الأولين.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: {إن هذا إلا خلق الأولين} يقول شيء اختلقوه وفي لفظ يقول: {اختلاق الأولين}.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {إن هذا إلا خلق الأوّلين} قال: كذبهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن علقمة {إن هذا إلا خلق الأولين} قال: اختلاقهم.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ: {إن هذا إلا خلق الأولين} مرفوعة الخاء مثقلة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {إن هذا إلا خلق الأولين} قال: قالوا: هكذا خلقت الأولون، وهكذا كان الناس يعيشون ما عاشوا، ثم يموتون ولا بعث عليهم ولا حساب {وما نحن بمعذبين} أي إنما نحن مثل الأولين نعيش كما عاشوا ثم نموت لا حساب ولا عذاب علينا ولا بعث. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)}.
قوله: {تَعْبَثُونَ}: جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ {تَبْنُون}. والرِّيع بكسر الراء وفتحها: جمع رَِيْعة. وهو في اللغةِ المكانُ المرتفعُ. قال ذو الرمة:
طِراقُ الخَوافي مُشْرِفٌ فوقَ رِيْعَةٍ ** ندى ليلِه في رِيْشه يَتَرَقْرَقُ

وقال أبو عبيدة: هو الطريقُ وأنشد للمسيَّب بن عَلَس يصفُ ظُعُنًا:
في الآلِ يَخْفِضُها ويَرْفَعُهما ** رِيْعٌ يَلُوْحُ كأنه سَحْلُ

واختلفَ المفسِّرون في العبارة عنه على أقوالٍ كثيرةٍ. والرَّيْعُ بالفتح: ما يَحْصُل مِنَ الخَراج.
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)}.
قوله: {تَخْلُدُونَ}: العامَّةُ على تخفيفِه مبنيًا للفاعلِ. وقتادَةُ بالتشديدِ مبنيًا للمفعول. ومنه قولُ امرِىء القيس:
وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيْدٌ مُخَلَّدٌ ** قليلُ الهُمومِ ما يَبِيْتُ بأَوْجالِ

ولَعَلَّ هنا على بابِها. وقيل: للتعليل. ويؤيِّده قراءةُ عبدِ الله {كي تَخْلُدون} فقيل: للاستفهام، قال زيد بن علي. وبه قال الكوفيون. وقيل: معناها التشبيهُ أي: كأنكم تَخْلُدُون. ويؤيِّدُه ما في حرفِ أُبَيّ {كأنكم تَخْلُدون}. وقرئ {كأنَّكم خالِدُون}. وكم مَنْ نَصَّ عليها أنَّها تكونُ للتشبيهِ.
والمصانِعُ: جمعُ مَصْنَعَة، وهي بِرَكُ الماء. وقيل: القصور. وقيل: بُروجُ الحَمام.
قوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ}: أي: وإذا أَرَدْتُمْ. وإنما احْتَجْنا إلى تقديرِ الإِرادة لئلا يَتَّحدَ الشرطُ والجزاءُ. و{جَبَّارِين} حالٌ.
{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)}.
قوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ}: فيه وجهان، أحدهما: أنَّ الجملةَ الثانيةَ بيانٌ للأولى، وتفسيرٌ لها. والثاني: أَنَّ {بأَنْعامٍ} بدلٌ مِنْ قولِه: {بِمَا تَعْلَمُونَ} بإعادةِ العاملِ كقوله: {اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 20- 21] قال الشيخ: والأكثرون لا يَجْعَلُون هذا بدلًا، وإنما يَجْعلونه تكريرًا وإما يَجْعلون بدلًا بإعادةِ العاملِ إذا كانَ حرفَ جرّ مِنْ غيرِ إعادةِ متعلِّقِه نحو: مَرَرْتُ بزيدٍ بأخيكَ ولا يقولون: مَرَرْت بزيدٍ، مررتُ بأخيك على البدل.
{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)}.
قوله: {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين}: معادِلٌ لقولِه: {أَوَعَظْتَ}، وإنما أتى المعادِلِ كذا، دونَ قولِه: {أم لم تَعِظْ} لتواخي القوافي، وأبدى له الزمخشريُّ معنىً فقال: وبينهما فرقٌ، لأنَّ المعنى: سَواءٌ علينا أَفَعَلْتَ هذا الفعلَ الذي هو الوعظُ أم لم تَكُنْ أصلًا مِنْ أهلِه ومباشرَتِه، فهو أبلغُ في قِلَّةِ اعْتِدادِهم بوَعْظِه. مِنْ قولِك: أَمْ لم تَعِظْ.
وقرأ العامَّةُ {أَوَعَظْتَ} باظهارِ الظاءِ قبل التاءِ، ورُوِيَ عن أبي عمرٍو والكسائيِّ وعاصمٍ، وبها قرأ الأعمشُ وابن محيصن بالإِدْغامِ، وهي ضعيفةٌ؛ لأنَّ الظاءَ أقوى ولا يُدْغَمُ الأقوى في الأضعفِ، على أنَّه قد جاء من هذا في القرآنِ العزيزِ أشياءُ متواترةٌ يجبُ قَبولُها نحو: {زُحْزِحَ عَنِ} [آل عمران: 185] و{لَئِن بَسَطتَ} [المائدة: 28].
{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)}.
قوله: {إِلاَّ خُلُقُ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتحِ الخاءِ وسكونِ اللامِ. والباقون بضمَّتين فقيل: معناهما الاختلاقُ وهو الكَذِبُ. وكذا قرأ ابنُ مسعودٍ. وقيل: ما نحن فيه من البِنْية حياةٌ وموتٌ هو خُلُقُ الأوَّلينَ وعادَتُهُم. وروى الأصمعيُّ عن نافعٍ، وبها قرأ أبو قلابة، بضمِّ الخاءِ وسكونِ اللام وهي تخفيفُ المضمومَةِ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)}.
أخبر عن كل واحدٍ من الأنبياء أنه قال: {لا أسألكم عليه أجر} ليَعْلَمَ الكافةُ أنّ من عَمِلَ لله فلا ينبغي ان يَطْلُبَ الأجْرَ من غير الله. وفي هذا تنبيهٌ للعلماء- الذين هم وَرَثَةُ الأنبياء- أن يتأدَّبوا بأنبيائهم، وألاّ يطلبوا من الناس شيئًا في بَثِّ علومهم، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، والتذكير لهم أنه مَنْ ارتفق في بثَّ ما يُذَكِّرُ به من الدِّين وما يَعِظُ به المسلمين فلا يبارِكُ اللَّهُ للناس فيما منه يَسْمَعون، ولا للعلماء أيضًا بركةٌ فيما من الناس يَأخُذُون، إنهم يبيعون دينَهم بَعَرضٍ يسيرٍ ثم بَرَكَة لهم فيها إذلا يبتغون به الله، وسيَحْصُلُون على سُخْطِ الله. اهـ.