فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أنها عشرة كاملة في الثواب كمن أهدى، وهو قول الحسن.
والثاني: عشرة كَمَّلَت لكم أجر من أقام على إحرامه فلم يحل منه ولم يتمتع.
والثالث: أنه خارج مخرج الخبر، ومعناه معنى الأمر، أي تلك عشرة، فأكملوا صيامها ولا تفطروا فيها.
والرابع: تأكيد في الكلام، وهو قول ابن عباس. اهـ.

.قال ابن عرفة:

قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.
قال ابن عرفة: أحدُ تفسيري ابن عطية بناء على أنّ أسماء الأعداد نصوص، والآخر على أنّها ليست كذلك.
وأورد الزمخشري هنا سؤالين: أحدهما عن الإتيان بالفذلكة وهي لفظ {تِلْكَ} وأجاب بثلاثة أوجه.
قال بعض الطلبة: فيبقى السؤال لأيّ شيء لم يقل: فهي عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ؟
فقال ابن عرفة: {تِلْكَ} القصد بها التعظيم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن القاعدة أنّ الصوم المتتابع أعظم ثوابا من المفرّق، فقد يتوهّم بتفريقها أن ثوابها أقل من ثوابها لو كانت مجموعة فأشار بقوله: {عشرة} إلى أن ثوابها على هذه الصفة أعْظَمُ من ثوابها لو كانت مجموعة فرعا عن أن يكون مثله ولذلك قال: {كاملة}. اهـ.
سؤال: لم عبر بقوله: تلك عشرة كاملة ولم يقل: تامة؟
الجواب: الإتمام لإزالة نقصان الأصل والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل ولهذا كان قوله: {تلك عشرة كاملة}أحسن من تامة، فإن التمام من العدد قد علم، وإنما نفى احتمال نقص في صفاتها وقيل: تم يشعر بحصول نقص قبله وكمل لا يشعر بذلك وقال العسكري الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف ولهذا يقال القافية تمام البيت ولا يقال كماله ويقولون البيت بكماله أي باجتماعه. اهـ.

.قال الخازن:

{ذلك} أي هذا الحكم الذي تقدم {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} قيل حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وهو وقول مالك. وقيل: هم أهل الحرم وبه قال طاوس: وقال ابن جريج: هم أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلة. وقال الشافعي: كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام وقيل هم من دون الميقات وقال أبو حنيفة حاضرو المسجد الحرام أهل الميقات والمواقيت ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات عرق فمن كان من أهل هذه المواضع فما دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. وقيل حاضرو المسجد الحرام من تلزمه الجمعة فيه ومعنى الآية أن المشار إليه في قوله: {ذلك} يرجع إلى أقرب مذكور وهو لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وهو الآفاقي فأما المكي إذا تمتع أو قرن فلا هدي عليه ولابد له لأنه لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوجب خللًا في حجة فلا يجب عليه الهدي ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري تعليقًا من حديث عكرمة قال سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال: أهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلاّ من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل من شيء حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعالى: {فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} إلى أمصاركم والشاة تجزئ فجمعوا بين النسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس من غير أهل مكة قال الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} وفي الحديث زيادة قال الحميدي قال أبو مسعود الدمشقي هذا حديث غريب ولم أجده إلاّ عند مسلم بن الحجاج ولم يخرجه في صحيحه، من أجل عكرمة فإنه لم يرو عنه في صحيحه وعندي أن البخاري إنما أخذه من مسلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {واعلموا أن الله شديد العقاب} افتتح بقوله: {واعلموا} اهتمامًا بالخبر فلم يقتصر بأن يقال: {واتقوا الله إن الله شديد العقاب} فإنه لو اقتصر عليه لحصل العلم المطلوب، لأن العلم يحصل من الخبر، لكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم، لأنه في معنى تحقيق الخبر، كأنه يقول: لا تشكوا في ذلك، فأفاد مفاد إن، وتقدم آنفًا عند قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة: 194]. اهـ.
سؤال: لم أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار؟
الجواب: إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة؛ وإضافة شديد من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآية:

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}.
التفسير:
الحج في اللغة القصد كما مر في قوله: {فمن حج البيت أو اعتمر} [البقرة: 158] وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة. وهي على ثلاثة أقسام: أركان وأبعاض وهيئات. لأن كل عمل يفرض فيه فإما أن يتوقف التحلل عليه وهو الركن، أو لا يتوقف. فإما أن يجبر بالدم وهو البعض، أو لا يجبر وهو الهيئة. والأركان عند الشافعي خمسة: الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو تقصيره. وخالف أبو حنيفة في السعي، ولا مدخل للجبران في الأركان. وأما الأبعاض أعني الواجبات المجبورة بالدم، فالإحرام من الميقات والرمي وفاقًا وفي الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس وفي المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى، وفي طواف الوداع خلاف. وأما الهيئات فالاغتسال وطواف القدوم والرمي والاضطباع في الطواف وفي السعي واستلام الركن وتقبيله والسعي في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية إلى غير ذلك. وبالجملة ما سوى الأركان والأبعاض ولا دم في تركها. وأما في العمرة فما سوى الوقوف من أركان الحج أركان فيها. ثم إن قوله عز من قائل: {وأتموا} أمر بالإتمام. وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط؟ فالشافعي على أنه مطلق والمعنى: افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام والكمال. وأبو حنيفة على أنه مشروط والمعنى: من شرح فيه فليتمه كما إذا كبر بالصلاة تطوعًا لزمه الإتمام. وفائدة الخلاف تظهر في العمرة فإنها تصير واجبة على المعنى الأول دون الثاني. حجة الشافعي أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء تامًا كاملًا كقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} [البقرة: 124] أي أدّاهن على التمام والكمال. وقوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] أي افعلوا الصيام تامًا إلى الليل وهذا أولى من تقدير أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه، لأن الأصل عدم إضمار هذا الشرط، ولأن المفسرين أجمعوا على أن هذه أول آية نزلت في الحج، فحملها على الإيجاب ليكون تأسيسًا أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع، فإنها تكون حينئذ تبعًا، ولأنه قرئ {وأقيموا الحج والعمرة} والشاذ يصلح للترجيح وإن لم يصلح للقطع كخبر الواحد، ولأن الوجوب المطلق يستلزم الإتمام، والإتمام بشرط الشروع لا يستلزم أصل الوجوب.
فتأويلنا أكثر فائدة، فيكون أولى. وأيضًا أنه أحوط. واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب. وقال تعالى: {يوم الحج الأكبر} [التوبة: 3] وفيه دليل على وجود حج أصغر وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق. لكن الحج واجب على الإطلاق لقوله: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] فيدخل فيه الأكبر والأصغر.
حجة أبي حنيفة قصة الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي: لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفلح الأعرابي إن صدق».
وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» الحديث. ولم يذكر العمرة. وأجيب بأن العمرة حج أصغر فتدخل في مطلق الحج قالوا: روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ فقال: «لا، وأن تعتمر خير لك».
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج جهاد والعمرة تطوع» وأجيب بأنها أخبار آحاد فلا تعارض القرآن. وأيضًا لعل العمرة، ما كانت واجبة حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأحاديث، ثم نزل بعدها {وأتموا الحج} وذلك في السنة السابعة من الهجرة. وأيضًا إنها معارضة بأخبار تدل على وجوبها. روى النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، قال صلى الله عليه وسلم: «حج عن أبيك واعتمر أمر بهما والأمر للوجوب».
وروي عن ابن عباس أنه قال: إن العمرة لقرينة الحج، وحمله على أنهما يقترنان في الذكر تكلف. وعن عمر أن رجلًا قال له: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعًا فقال: هديت لسنة نبيك وحمله على أن الوجوب مستفاد من الإهلال بهما لا يخلو من تعسف. قالوا: قرأ علي وابن مسعود والشعبي {والعمرة لله} بالرفع. فكأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج في الوجوب. وأجيب بأن الشاذة لا تعارض المتواترة، وبأنها ضعيفة من حيث العربية لعطف الاسمية على الفعلية، والخبرية على الطلبية، وبأن كون العمرة عبادة لله لا ينافي وجوبها. واعلم أن لأداء النسكين وجوهًا ثلاثة: الإفراد والتمتع والقِران فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل، أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة. والقِران أن يحرم بالحج والعمرة معًا في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه معًا، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم قبل الطواف أدخل الحج عليها يصير قارنًا.
والتمتع هو أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده في أشهر الحج ويأتي بأعمالها، ثم يحج في هذه السنة من مكة. سمي تمتعًا لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بينهما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وأنه أيضًا يربح ميقاتًا لأنه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة منه، وإذا تمتع استغنى عن الخروج لأنه يحرم بالحج من جوف مكة. ولا خلاف بين أئمة الأمة في جواز هذه الوجوه، وإنما الخلاف في الأفضلية فقال الشافعي: أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القِران. وقال في اختلاف الحديث: التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك. والإمامية قالوا: لا يجوز لغير حاضري المسجد الحرام العدول عن التمتع إلا لضرورة. وقال أبو حنيفة، القِران أفضل ثم الإفراد ثم التمتع. وهو قول المزني وأبي إسحاق المروزي. وقال أبو يوسف ومحمد: القِران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد. حجة الشافعي في أفضلية الإفراد قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} وذلك أن العطف يقتضي المغايرة وأنها تحصل عند الإفراد، فأما عند القِران فالموجود شيء واحد هو حج وعمرة معًا. وأيضًا الأعمال عند الإفراد أكثر فيكون الثواب أكثر وذلك هو الفضل. وما روي عن أنس أنه قال: كنت واقفًا عند جران ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لعابها يسيل على كتفي فسمعته يقول: لبيك بعمرة وحجة معًا. معارض بما روى مسلم في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج، وهكذا روى جابر وابن عمر. وقد رجح الشافعي رواية عائشة وجابر وابن عمر على رواية أنس بأنهم أعلم وأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقدم صحبة، أن أنسًا كان صغيرًا في ذلك الوقت قليل العلم.
حجة القائلين بأفضلية القِران: أن في القِران مسارعة إلى النسكين، وفي الإفراد ترك المسارعة إلى أحدهما، فيكون أفضل لقوله: {وسارعوا} [آل عمران: 133] وأجيب بأنا لا نقول الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة، لكنا نقول: من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها، فمجموع هذين الأمرين أفضل من الإتيان بالحجة المقرونة، واختلف في تفسير الإتمام في قوله تعالى: {وأتموا}. فعن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود: أن إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك. وقال أبو مسلم: المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام قال: ويدل على صحة هذا التأويل أن الآية نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الماضية عن الحج والعمرة. فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية بأن لا يرجع حتى يتم الفرض.
ويعلم منه أن تطوع الحج والعمرة كفرضهما في وجوب الإتمام.
وقال الأصم: المراد إتمام الآداب المعتبرة فيهما وهي عشرة على ما ذكر في الإحياء:
الأول: في المال، فينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع، ويرد ما عنده من الودائع ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير، بل على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد والرفق بالفقراء، ويتصدق بشيء قبل خروجه ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها.
الثاني: الإخوان والرفقاء المقيمون يودعهم ويلتمس أدعيتهم فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيرًا. والسنة في الوداع أن يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.
الثالث: إذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة، {قل يا أيها الكافرون} وفي الثانية الإخلاص وبعد الفراغ يتضرع إلى الله تعالى بالإخلاص.
الرابع: إذا حصل على باب الدار قال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكلما كانت الدعوات أكبر كان أولى.
الخامس: إذا ركب قال: بسم الله وبالله والله أكبر، توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} [الزخرف: 13].
السادس: في النزول. والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ولا ينزل حتى يحمى النهار، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيرًا.
السابع: إن قصده عدوّ أو سبع بالليل أو بالنهار فليقرأ آية الكرسي {وشهد الله} [آل عمران: 18] والإخلاص والمعوذتين ثم يقول: تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي الذي لا يموت.
الثامن: مهما علا نشزًا من الأرض في الطريق يستحب أن يكبر ثلاثًا.
التاسع: أن لا يكون هذا السفر مشوبًا بشيء من الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها.
العاشر: أن يصون لسانه عن الرفث والفسوق والجدال، ثم بعد الإتيان بهذه المقدمات يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى ليكون مؤتمرًا لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} اقتداء بإبراهيم عليه السلام حين ابتلي. بكلمات فأتمهن. وقيل: المراد من قوله: {وأتموا} أفردوا كل واحد منهما بسفره ويؤيد هذا تأويل من قال الإفراد أفضل. وأقرب هذه الأقوال ما يرجع حاصله إلى معنى ائتوا بالحج والعمرة تأمين كاملين بمناسكهما وشرائطهما وآدابهما لوجه الله بدليل قوله: {فإن أحصرتم} قال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس ومنه الحصير للملك لأنه كالمحبوس في الحجاب. والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض.
فكأن كلًا منها محبوس مع غيره، والحصير المحبس أيضًا. والأكثرون على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو. يقال: حصره العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه. وعن أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وغيرهم: أن لفظ الإحصار مختص بالمرض ونحوه من خوف وعجز قال تعالى: {الذين أحصروا في سبيل الله} [البقرة: 273] وقيل: الإحصار مختص بمنع العدو. ومنه ما يروى عن ابن عمر وابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وفائدة الخلاف في الآية تظهر في مسألة فقهية وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت. وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع؟ قال أبو حنيفة: يثبت. وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يثبت، بل يصبر حتى يبرأ. نعم لو شرط أنه إذا مرض تحلل صح الشرط لما روي أنه صلى الله عليه وسلم مر بضباعة بنت الزبير فقال: أما تريدين الحج؟ فقالت: إني شاكية. فقال: «حجي واشترطي أن تحلي حيث حبست». وفي حكم المرض كل غرض صحيح كضلال الطريق ونفاد الزاد، حجة أبي حنيفة ظاهر كلام أكثر أهل اللغة، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل» وحجة الشافعي قول ابن عمر وابن عباس وطائفة من أهل اللغة. وأيضًا الهمزة في {أحصر} ليس للتعدية لمساواته حصر في اقتضاء المفعول فتكون للوجود، أو لصيرورته ذا كذا فيؤوّل المعنى إلى أنكم إن وجدتم أو صرتم محصورين فلا يبقى النزاع، وأيضًا المانع إنما يتحقق عند وجود المقتضي، والمريض لا قدرة له على الفعل فلا مانع بالنسبة إليه، فثبت أن لفظ الإحصار حقيقة في العدو دون المرض. وأيضًا لفظ المانع على المرض غير معقول لأنه عرض لا يبقى زمانين. وأيضًا لو كان المريض داخلًا في المحصر لكان في قوله: {فمن كان منكم مريضًا} نوع تكرار ولزم عطف الشيء على نفسه. واعتذر عن هذا بأن المريض إنما خص بالذكر لأن له حكمًا خاصًا وهو حلق الرأس، فصار تقدير الآية إن منعتم لمرض تحللتم بدم وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفَّرتم، وأيضًا فإذا أمنتم يناسب الخوف من العدو إذ يقال في المرض شفي وعوفي لا أمن. ولو قيل: إن خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها قلنا: لا يلزم من عدم القدح وجود المناسبة. وقيل: إنه منع المرض خاصة وهو باطل بالدلائل المذكورة وزيادة وهي أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول الآية أن الكفار أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية. والأئمة وإن اختلفوا في أن الآية هل تتناول غير سبب النزول أم لا، إلا أنهم اتفقوا على أن خروج ذلك السبب غير جائز. ثم في الآية إضماران، والتقدير: فتحللتم أو أردتم التحلل فعليكم ما استيسر، أو فاهدوا ما استيسر أي ما تيسر مثل استعظم وتعظم واستكبر وتكبر.
أما الإضمار الأول فلأن نفس الإحصار لا يوجب هديًا وإنما الموجب هو التحلل أو نية التحلل. وأما الإضمار الثاني فلأن قوله: {ما استيسر} إما مرفوع على الابتداء وخبره محذوف، أو منصوب على المفعولية وناصبه محذوف. والهدي جمع هدية كما يقال في جدية السرج وهي شيء محشو تحت دفتي السرج جدي. وقرئ من الهدي جمع هدية كمطية ومطيّ، وهذه لغة تميم. ومعنى الهدي ما يهدى إلى بيت الله تقربًا إليه بمنزلة الهدية. عن علي وابن عباس والحسن وقتادة رضي الله عنهم: أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدونها شاة فعليه ما تيسر له من هذه الأجناس، والمحصر المحرم إذا أراد التحلل وذبح، وجب أن ينوي التحلل. ألبتة قبل الذبح، وأكثر الفقهاء على أن حكم العمرة في الإحصار حكم الحج، وعن ابن سيرين: أنه لا إحصار فيها لأنها غير موقتة. ورد بأن قوله تعالى: {فإن أحصرتم} مذكور عقيب الحج والعمرة فكان عائدًا إليهما، وبأنه صلى الله عليه وسلم تحلل بالإحصار عام الحديبية وكان معتمرًا.
وما حد الإحصار؟ قالت العلماء: لو منعوا ولم يتمكنوا من المسير إلا ببذل مال فلهم أن يتحللوا ولا يبذلوا المال وإن قل إذ لا يجب احتمال الظلم في أداء الحج بل يكره البذل إن كان الطالبون كفارًا، والأكثرون على إنه لا يحب القتال على الحجيج وإن كان العدو كفارًا وكان في مقابلة كل مسلم أقل من مشركين ولو قاتلوا فلهم لبس الدروع والمغافر، لكنهم يفدون كما لو لبسوا المخيط لدفع حر أو برد، لا فرق على الأصح في جواز التحلل بين أن يمنعوا من المضي دون الرجوع أو يمنعوا من جميع الجوانب، لأنهم يستفيدون بالتحليل الأمن من العدو المواجه. ولو صد عن طريق وهناك طريق آخر ووجدوا شرائط الاستطاعة فيه لزمهم سلوكه ولم يكن لهم التحلل في الحال، وإذا سلكوه ففاتهم الحج لحزونته أو لطوله تحلّلوا بعمل عمرة ولا يلزمهم القضاء على الأظهر من قولي الشافعي، لأنهم بذلوا مجهودهم فصاروا كالمصدودين مطلقًا، نعم لو استوى الطريقان من كل وجه وجب القضاء لأن الموجود فوات محض. وفي قوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله} حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله، بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر. فالتقدير: حتى يبلغ الهدي محله وينحر. وإنما جاز تذكير الهدي لأن كل ما يفرق بين واحده وبينه بالتاء وعدمه جاز تذكيره وتأنيثه. قال تعالى: {أعجاز نخل منقعر} [القمر: 20] وفي موضع آخر: {أعجاز نحل خاوية} [الحاقة: 7] والمحل اسم للزمان الذي يحصل فيه الحل، ومنه محل الدين لوقت وجوب قضائه أو اسم للمكان.
قال الشافعي: يجوز إراقة دم الإحصار في الحرم بل حيث حبس. وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك إلا في الحرم يبعث به ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار. حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية فنحر هناك. وأجيب بأن محصره طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة وهو من الحرم. وعن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هدية في الحرم وقال الواقدي: الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة. ورد بقوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفًا أن يبلغ محله} [الفتح: 25] فإن هذه الآية صريحة في أنهم نحروا الهدي في غير الحرم. وأيضًا قوله: {فإن أحصرتم} يتناول كل من كان محصرًا سواء كان في الحل أو في الحرم. وقوله: {فما استيسر} يدل على وجوب النحر فيجب أن يكون المحصر قادرًا على إراقة الدم حيث أحصر. وأيضًا التحلل موقوف على النحر فلو توقف النحر على وصوله إلى الحرم لم يحصل التحلل في الحال وهذا يناقض ما هو المقصود من شرع الحكم وهو تخليص النفس من العدو في الحال. وأيضًا لو كان الموصل إلى الحرم هو المحصر فكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف؟ وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل؟ حجة أبي حنيفة أن المحل عبارة عن مكان الحل. وقوله: {حتى يبلغ الهدي محله} يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى ذلك المكان. وأيضًا هب أن لفظ المحل يشمل الزمان والمكان إلا أن قوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33] وقوله: {هديًا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] يزيل احتمال الزمان والبيت نفسه لا يراق فيه الدماء، فتعين أن يكون هو الحرم، وأجيب بأن كل ما وجب على المحرم في ماله من فدية وجزاء وهدي لا يجزئ إلا في الحرم لمساكين أهله إلا إذا عطب الهدي فيذبح في طريقه ويخلى بينه وبين المساكين، وإلا إذا أحصر فإنه ينحر هديه حيث حبس بالدلائل المذكورة. قالوا: الهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها إلى دال المهدي إليه، فالهدي كذلك. وردّ بأن هذا تمسك بالاسم وهو محمول على الأفضل عند القدرة. والمحصر إذا كان عادمًا للهدي فهل له بدل ينتقل إليه؟ للشافعي فيه قولان: أحدهما لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدًا وبه قال أبو حنيفة لأنه تعالى أوجب له الهدي وما أثبت له بدلًا، وعلى هذا فماذا يفعل؟ فيه قولان: أصحهما أنه يتحلل في الحال كما لو صام بدله كيلا تعظم المشقة، والآخر وإليه ميل أبي حنيفة أنه يقيم على إحرامه حتى يجده. والقول الثاني أن له بدلًا وهذا أصح وبه قال أحمد قياسًا على سائر الدماء الواجبة على المحرم، وعلى هذا فما ذلك البدل؟ الأصح الطعام لأن قيمة الهدي أقرب إليه من الصيام، وإذا لم يرد النص إلا بالهدي فالرجوع إلى الأقرب أولى.
ثم الصيام عن كل مدٍّ يومًا. وفي قول صوم المتمتع عشرة أيام. وقيل: صوم الأذى ثلاثة أيام. وبالجملة فالآية دلت على أن المحصرين لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رءوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة ومعنى {حتى يبلغ الهدي محله} حتى تنحروا هديكم حيث حبستم، أو حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه أي الحرم. ولكن الأفضل في الحج منى وفي العمرة المروة. ولابد من نية التحلل عند الذبح لأن الذبح قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره، فلابد من قصد صارف فإن كان مصدودًا عن البيت دون أطراف الحرم فهل له أن يذبح في الحل؟ أصح الوجهين عند الشافعي أن له ذلك، وإذا أحصر فتحلل نظر إن كان نسكه تطوعًا فلا قضاء عليه وبه قال مالك وأحمد لأن المصدودين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ألفًا وأربعمائة، والذين اعتمروا معه في عمرة القضاء كانوا نفرًا يسيرًا ولم يأمر الباقين بالقضاء، وقال أبو حنيفة: عليه القضاء. وإن لم يكن نسكه تطوعًا نظر إن لم يكن مستقرًا عليه كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان وكالنذر والقضاء فهو باقٍ في ذمته كما لو شرع في صلاة ولم يتمها تبقى في ذمته، ومهما أحصر بمرض ونحوه. وقد صححناه بالآية فحكم الهدي ما مر في الإحصار بالعدوّ وإن صححناه بأن كان قد شرط التحلل به إذا مرض فهل يلزمه الهدي للتحلل؟ فإن كان قد شرط التحلل بالهدي فنعم، وإن كان قد شرط التحلل بلا هدي فلا وكذا إن أطلق على الأظهر لمكان الشرط.
قوله عز من قائل: {فمن كان منكم مريضًا} قيل: إنه مختص بالمحصر. وذلك أنه قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله تعالى أذن له في إزالة ذلك المؤذي بشرط بذل الفدية. والأكثرون على أنه كلام مستأنف في كل محرم لحقه مرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو أذى في رأسه فاضطر إلى الحلق. والنسك العبادة وقرئ بالتخفيف، وقيل: جمع نسيكة وهي الذبيحة. قال ابن الأعرابي: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، ثم قيل: للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث. ثم قيل للذبيحة نسك لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله، واتفقوا في النسك على أن أقله شاة كما في الأضاحي، وأما الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما وبماذا يحصل بيانه؟ فيه قولان: أحدهما وعليه أكثر الفقهاء.
ومنهم الشافعي وأبو حنيفة أن بيانه في حديث كعب بن عجرة قال: حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقلت: لا. قال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك. فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة وثانيهما عن ابن عباس والحسن الصيام كصيام المتمتع عشرة أيام والإطعام مثل ذلك في القدر. قال العلماء المرض قد يحوج إلى اللباس أو إلى الطيب أو إلى الدهن وفي كل منها نوع استمتاع فألحقوا فدية نحو هذه المحظورات بفدية الحلق لاشتراك الجميع في الترفه. والحاصل أنه يدخل فيه كل محظورات الإحرام سوى الجماع ففيه بدنة ثم بقرة ثم سبع شياه ثم طعام بقيمة البدنة ثم صيام بعدد الأمداد كما يجيء في قوله تعالى: {فلا رفث} [البقرة: 197] وسوى الصيد ففيه الجزاء على ما يجيء تفصيله في المائدة. وفي هذه الآية أيضًا إضماران أي فحلق فعليه فدية {فإذا أمنتم} إن كان معناه الأمن بعد الخوف قبل التحلل فجواب الشرط وهو فامضوا محذوف. وإن كان معناه إذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة فقوله: {فمن تمتع} الشرط مع الجزاء جواب الشرط الأول ولا وقف على {أمنتم} ومعنى التمتع التلذذ. وأصله الطول حبل مانع أي طويل. وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به. وقد عرفت معنى التمتع بالعمرة إلى الحج وهو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ثم يقيم حلالًا بمكة حتى ينشئ منها الحج فيحج من عامه ذلك. والتمتع بهذا الوجه صحيح لا كراهة فيه. وما يروى أن عمر خطب وقال: متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج، ذكر الأئمة أن تلك المتعة هي أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ. وعن أبي ذر أنه قال: ما كانت متعة الحج إلا لنا خاصة. يعني الركب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم. وكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدّونها من أفجر الفجور، فلما اراد النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة. وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم، فلهذا المعنى كان نسخ الحج في أشهر الحج خاصًا بهم. ومعنى التمتع بالعمرة إلى الحج أنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة إلى أوان الحج، وقيل: استمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل الانتفاع بتقربه بالحج ولوجوب الدم على المتمتع شروط منها: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} ويجيء تمام الكلام فيه عما قريب ومنها أن يحرم بالعمرة من الميقات فإن جاوزه مريدًا النسك ثم أحرم بها فإن كان الباقي أقل من مسافة القصر فليس عليه دم التمتع ولكن يلزمه دم الإساءة، وإن كان الباقي مسافة القصر فعليه دمان.
ومنها أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فلو أحرم وفرغ من أعمالها قبل أشهر الحج ثم حج لم يلزمه الهدي لأنه أشبه الإفراد، ولو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بجميع أفعالها في أشهره فاصح قولي الشافعي أنه لا يلزمه الدم، وبه قال أحمد لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج لتقدم أحد أركان العمرة. ولو سبق الإحرام مع بعض الأعمال قبل أشهر الحج فعدم وجود الدم أولى. وعن مالك أنه مهما حصل التحلل في أشهر الحج وجب الدم. وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر أعمال العمرة في الأشهر كان متمتعًا. ومنها أن يقع الحج والعمرة في سنة واحدة، فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة فلا دم عليه سواء أقام بمكة إلى أن حج أو رجع وعاد لأن الدم إنما يجب إذا زاحم بالعمرة حجة في وقتها وترك الإحرام بحجة من الميقات مع حصوله في وقت الإمكان ولم يوجد. وعن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج وإذا لم يحجوا في عامهم ذلك لم يهدوا. ومنها أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة، فإن عاد إلى ميقاته الذي أنشأ العمرة منه وأحرم بالحج فلا دم عليه لأنه لم يربح ميقاتًا. وفي اشتراط نية التمتع وجهان: أصحهما لا تشترط كما لا تشترط نية القرآن، وهذا لأن الدم منوط بربح أحد السفرين. ولا يختلف ذلك بالنية وعدمها ويخالف اشتراط نية الجمع بين الصلاتين من حيث إن أشهر الحج كما هي وقت الحج فهي وقت العمرة بخلاف وقت الصلاة. ثم إن دم التمتع دم جبران الإساءة حتى لا يجوز له أن يأكل منه، أو دم نسك حتى يجوز أن يأكل. ذهب أبو حنيفة إلى الثاني ومال الشافعي إلى الأول لما روي أن عثمان كان ينهى عن المتعة فقال له علي رضي الله عنه: أعمدت إلى رخصة أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم للغريب للحاجة فأبطلتها؟ فسمى المتعة رخصة، وهذا دليل النقص. وأيضًا التمتع تلذذ وأنه ينافي العبادة لأنها مشقة وتكليف. وأيضًا إنه تعالى أوجب الهدي على المتمتع بلا توقيت، ولو كان نسكًا كان موقتًا.
وأيضًا للصوم فيه مدخل ودم النسك لا يبدل بالصوم، والكلام في مراتب هذا الهدي كما مرّ وينبغي أن يكون الإبل ثنيًا وهو الطاعن في السنة السادسة، وكذا البقر وهو الطاعن في السنة الثالثة، ويجزئ كل من الإبل والبقر عن سبعة شركاء. ولو اقتصر على الغنم فليكن ثني المعز وهو الذي دخل في السنة الثالثة، أو جذع الضأن وهو أيضًا في السنة الثانية، يستوي في هذا الباب الذكر والأنثى ويستحب أن يذبح يوم النحر، ولو ذبح بعدما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق فترتب عليه الهدي جبرًا له. وكذا قبل الإحرام بالحج وبعد التحلل من العمرة على الأصح، لأنه حق مالي تعلق بسببين وهما الفراغ من العمرة والشروع في الحج. فإذا وجد أحدهما بأن إخراجه كالزكاة والكفارة. وعند أبي حنيفة لا يجوز بناء على أنه نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر وبه قال مالك وأحمد. فمن لم يجد الهدي وقيس عليه ما إذا لم يجد ما يشتريه به أو بيع بثمن غال، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج. قال الشافعي: أي بعد الإحرام بالحج لأنه تعالى جعل الحج ظرفًا للصوم، ولا يصلح سائر أفعال الحج ظرفًا له فلا أقل من الإحرام. وأيضًا ما قبل الإحرام بالحج ليس وقتًا للهدي الذي هو أصل فكذا لبدله، وقال أبو حنيفة، أي في وقت الحج وهو أشهره فجاز أن يصوم بعد الإحرام بالعمرة. وبمثله قال أحمد في رواية، وفي أخرى قال: يجوز بعد التحلل من العمرة، ولا يجوز أن يصوم شيئًا منها في يوم النحر ولا في أيام التشريق كما مر في الصوم. والمستحب أن يصوم الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة، فإن الأحب للحاج يوم عرفة أن يكون مفطرًا كيلا يضعف عن الدعاء وأعمال الحج، ولم يصمه النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة بل يروى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة. ويحكى عن أبي حنيفة أن الشخص إن كان بحيث لا يضعف فالأولى أن يصوم حيازة للفضيلتين. ويعلم مما ذكرنا أنه يستحب أن يحرم بالحج قبل يوم عرفة بثلاثة أيام ليصوم فيها، وأما الواجد للهدي فالمستحب له أن يحرم يوم التروية بعد الزوال متوجهًا إلى منى لما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج» وإذا فاته صوم الأيام الثلاثة في الحج لزمه القضاء عند الشافعي لأنه صوم واجب فلا يسقط بفوات وقته كصوم رمضان، وإذا قضاها لم يلزمه دم خلافًا لأحمد. وعند أبي حنيفة يسقط الصوم بالفوات ويستقر الهدي في ذمته {وسبعة إذا رجعتم} للشافعي في المراد من الرجوع قولان: أصحهما الرجوع إلى الأهل والوطن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتمتعين: «من كان معه هدي فليهد ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» والثاني أن المراد منه الفراغ من أعمال الحج وبهذه قال أبو حنيفة وأحمد كأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلًا عليه من الأعمال. وعلى الأصح لو توطن مكة بعد فراغه من الحج صام بها، وإن لم يتوطنها لم يجز صومه بها ولا في الطريق على الأصح لأنه تقديم العبادة البدنية على وقتها. ثم إذا لم يصم الثلاثة في الحج حتى فرغ ورجع لزمه صوم العشرة عند الشافعي. وهل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة والسبعة؟ الأصح عند إمام الحرمين وطائفة وبه قال أحمد أنه لا يجب لأن التفريق في الأداء يتعلق بالوقت فلا يبقى حكمه في القضاء كالتفريق في الصلوات المؤداة. والأصح عند أكثر أصحاب الشافعي وجوب التفريق كما في الأداء. ويفارق تفريق الصلوات فإن ذلك التفريق يتعلق بالوقت، وهذا يتعلق بالفعل وهو الحج. والرجوع وما قدر ما يقع به التفريق أصح الأقوال التفريق بأربعة أيام، ومدة إمكان مسيره إلى أهله على العادة الغالبة بناء على أصلين سبقا أحدهما: أن المتمتع ليس له صوم أيام التشريق، والثاني أن المراد بالرجوع الرجوع إلى أهله {تلك عشرة كاملة} طعن فيه بعض الملحدين أن هذا من إيضاح الواضحات. فمن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة وأيضًا قوله: {كاملة} يوهم أن هاهنا عشرة غير كاملة وهو محال، فذكر العلماء من فوائده أن الواو في قوله: {وسبعة} ليس نصًا قاطعًا في الجمع بل قد يكون للإباحة بمعنى أو كما في قوله: {مثنى وثلاث ورباع} [فاطر: 1] وكما في قولك جالس الحسن وابن سيرين لو جالسهما جميعًا أو واحدًا منهما كان ممتثلًا ففذلكت نفيًا لتوهم الإباحة. وأيضًا ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلًا وعلى هذا مدار علم السياقة وكفى به إفادة. وأيضًا المعتاد أن البدل أضعف حالًا من المبدل كالتيمم من الوضوء، فلعل المراد أن هذا البدل كامل في كونه قائمًا مقام المبدل وهما في الفضيلة سواء، وذكر العشرة لصحة التوصل به إلى هذا الوصف إذ لو اقتصر على تلك جاز أن يعود إلى الثلاثة أو إلى السبعة.
وأيضًا قوله: {تلك عشرة كاملة} يدفع التخصيص الذي يتطرق إلى كثير من العمومات في الشرع ويصرف الكلام إلى التنصيص. وأيضًا إن مراتب الأعداد ثلاث: الآحاد والعشرات والمئات. وهذه من وساطها فكأنه قال: إنما أوجبت هذا العدد لكونه موصوفًا بصفة التوسط والكمال. وأيضًا التوكيد طريقة مسلوكة في كلام العرب يعرف منه كون المذكور مما يعقد به الهمم، ففيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها وأيضًا هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب فبين الله تعالى بذلك بيانًا قاطعًا كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم أشار بيده ثلاث مرات وأمسك إبهامه في الثالثة تنبيهًا بالإشارة الأولى على الثلاثين، وبالثانية على التسعة والعشرين.
وأيضًا فيه إزالة الاشتباه والتصحيف الذي يمكن أن يتولد من تشابه سبعة وتسعة في الخط. وأيضًا يحتمل أن يراد كاملة في الإجزاء حتى لا يتوهم أنها بسبب التفريق غير مجزئة كما لا يجزئ في كفارات الظهار والقتل ووقاع رمضان إلا الصوم المتتابع. وأيضًا يحتمل أن يكون خبرًا في معنى الأمر أي فلتكن تلك الصيامات كاملة لتسد الخلل ويكون الحج المأمور به تامًا كاملًا كما قال: {وأتموا الحج والعمرة لله}.
واعلم أن الصوم مضاف إلى الله تعالى في قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «الصوم لي وأنا أجزي به» والحج أيضًا مضاف إليه تعالى في الآية: {وأتموا الحج والعمرة لله} وكما دل النقل على هذا الاختصاص فالعقل أيضًا يدل على ذلك. أما الصوم فلأنه عبادة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وهو مع ذلك شاق على النفس جدًا، وأما الحج فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجوه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق جدًا لأنه يوجب مفارقة الأهل والولد ويقتضي التباعد عن أكثر اللذات والاستمتاعات، فكل منهما لا يؤتى به إلا لمحض ابتغاء مرضاة الله تعالى. ثم إن هذا الصوم بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعًا بين مشقتين، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من مشقة إلى مشقة، والأجر على قدر النصب، فلا جرم وصفه الله تعالى بالكمال في باب العبادة والتنكير في اللفظ أيضًا يؤيد ذلك زادنا الله اطلاعًا على لطائف قرآنه العظيم {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} اختلف العلماء في أن المشار إليه ماذا؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه: إنه إشارة إلى التمتع وما ترتب عليه لأنه ليس البعض أولى من البعض فيعود إلى كل ما تقدم فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام. وقال الشافعي: بل عودة إلى الأقرب أولى وهو الحكم بوجوب الهدي على المتمتع. وأيضًا قوله: {فمن تمتع} عام يشمل الحرمي والميقاتي والآفاقي. وأيضًا إنه تعالى شرع القرآن والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج، والنسخ يثبت في حق الناس كافة. ويتفرع على مذهب أبي حنيفة أن من تمتع أو قرن من حاضري المسجد الحرام كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه. وعلى مذهب الشافعي أن يصح تمتعهم وقرانهم ولا يجب عليهم شيء، فإن لزوم الهدي على الآفاقي بسبب أنه أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فيلزمه جبر الخلل بدم.
والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فلا خلل في حجة تمتع أو قرن أو أفرد، فلا يلزمه الهدي ولا بدله. ثم اختلفوا في حاضري المسجد الحرام فعن مالك أنهم أهل مكة وأهل ذي طوى. وعن طاوس هم أهل الحرم. وعن الشافعي هم الذين يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة، فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين، وبه قال أحمد. وعن أبي حنيفة أنهم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة. والمواقيت: ذو الحليفة على عشر مراحل من مكة وعلى ميل من المدينة، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب على خمسين فرسخًا من مكة، ويلملم من صوب اليمن وقرن لنجد الحجاز، وذات عرق من صوب المشرق والعراق وخراسان وكل هذه الثلاثة من مكة على مرحلتين. فهذه هي المذاهب وأوفقها للآية. مذهب مالك لأن أهل مكة هم الذين يحضرون المسجد الحرام. إلا أن الشافعي قال: قد يطلق المسجد الحرام على الحرم قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام} [الإسراء: 1] ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به من الحرم لا من المسجد. وقد يقال: حضر فلان فلانًا إذا دنا منه. ومن كان مسكنه دون مسافة القصر فهو قريب نازل منزلة المقيم في نفس مكة. وفي مذهب أبي حنيفة بعد، فإن يؤديّ إلى إخراج القريب من الحاضرين وإدخال البعيد لتفاوت مسافات المواقيت، ثم إن مسافة القصر مرعية من نفس مكة أو من الحرم الأعرف هو الثاني لما قلنا إن المسجد الحرام يراد به جميع الحرم. قال الفراء: ذلك لمن لم يكن معناه ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة كقوله صلى الله عليه وسلم: «اشتراطي لهم الولاء» أي عليهم وذكر حضور الأهل والمراد حضور الحرم لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون {واتقوا الله} في محافظة حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره {واعلموا أن الله شديد العقاب} لمن تهاون بحدوده. قال أبو مسلم: العقاب والمعاقبة سيان، واشتقاقهما من العاقبة كأنه يراد عاقبة فعله السيء كقول القائل لتذوقن فعلك. اهـ.