فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {كذَّب أصحابُ الأيكة} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: {أصحابُ لَيْكَةَ} هاهنا، وفي [ص: 13] بغير همز والتاء مفتوحة؛ وقرأ الباقون: {الأيْكَةِ} بالهمز فيهما والألف.
وقد سبق هذا الحرف [الحجر: 78].
{إِذ قال لهم شُعَيب} إِن قيل: لِمَ لم يقل: أخوهم، كما قال في [الأعراف: 85]؟ فالجواب: أن شعيبًا لم يكن من نسل أصحاب الأيكة، فلذلك لم يقل: أخوهم، وإِنما أُرسل إِليهم بعد أن أُرسِلَ إِلى مَدْيَن، وهو من نسل مَدْيَن، فلذلك قال هناك: أخوهم، هذا قول مقاتل بن سليمان.
وقد ذكرنا في سورة [هود: 94] عن محمد بن كعب القرظي، أن أهل مَدْين عذِّبوا بعذاب الظُّلَّة، فإن كانوا غير أصحاب الأيكة كما زعم مقاتل، فقد تساوَوا في العذاب، وإِن كان أصحاب مَدْين هم أصحاب الأيكة، وهو مذهب ابن جرير الطبري كان حذف ذكر الأخ تخفيفًا، والله أعلم.
قوله تعالى: {ولا تكونوا من المُخْسِرِين} أي: من الناقِصِين للكَيْل، يقال: أخسرتُ الكَيْل والوزن: إِذا نقصته.
وقد ذكرنا القسطاس في [بني إِسرائيل: 35].
قوله تعالى: {واتَّقُوا الذي خلَقكم والجِبِلَّةَ} أي: وخَلَق الجِبِلَّة.
وقيل: المعنى: واذكروا ما نزل بالجِبِلَّة {الأوَّلِين}.
وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: {والجُبُلَّةَ} برفع الجيم والباء جميعًا مشددة اللام.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وعاصم الجحدري: بكسر الجيم وتسكين الباء وتخفيف اللام.
قال ابن قتيبة: الجِبِلَّة: الخَلْق، يقال: جُبِل فلان على كذا، أي خُلق.
قال الشاعر:
والموتُ أعظمُ حادثٍ ** ممَّا يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ

قوله تعالى: {فأسْقِط علينا كِسْفًا} قال ابن قتيبة: أي قطعةً {من السماء}، وكِسَفٌ جمع كِسْفَة، كما يقال: قِطَعٌ وقِطْعَة.
قوله تعالى: {ربِّي أعلمُ بما تعلمون} أي: من نقصان الكيل والميزان؛ والمعنى: إِنه يُجازيكم إِن شاء، وليس عذابكم بيدي، {فكذَّبوه فأخذهم عذابُ يومِ الظُّلُّة} قال المفسرون: بعث الله عليهم حرًّا شديدًا، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هربًا إِلى البرِّيَّة، فبعث الله عليهم سحابة أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها بردًا، ونادى بعضهم بعضًا، حتى إِذا اجتمعوا تحتها، أرسل الله عليهم نارًا، فكان ذلك من أعظم العذاب.
والظُّلَّة: السحابة التي أظلَّتهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين} الأيك الشجر الملتف الكثير الواحدة أيكة.
ومن قرأ: {أَصْحَابُ الأَيْكَةِ} فهي الغيضة.
ومن قرأ: {لَيْكَةَ} فهو اسم القرية.
ويقال: هما مثل بكة ومكة؛ قاله الجوهري.
وقال النحاس: وقرأ أبو جعفر ونافع: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةَ الْمُرْسَلِينَ} وكذا قرأ في ص.
وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة الحِجرِ والتي في سورة ق فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدًا.
وأما ما حكاه أبو عبيد من أن {ليكة} هي اسم القرية التي كانوا فيها وأن {الأيكة} اسم البلد فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله فيثبت علمه، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر؛ لأن أهل العلم جميعًا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه.
وروى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال: أرسل شعيبٌ عليه السلام إلى أمتين: إلى قومه من أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة؛ قال: والأيكة غيضة من شجر ملتف.
وروى سعيد عن قتادة قال: كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر وكانت عامّة شجرهم الدوم وهو شجر الْمُقل.
وروى ابن جبير عن الضحاك قال: خرج أصحاب الأيكة يعني حين أصابهم الحرّ فانضموا إلى الغيضة والشجر، فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلوا تحتها، فلما تكاملوا تحتها أُحرقوا.
ولو لم يكن هذا إلا ما روي عن ابن عباس قال: و{الأيكة} الشجر.
ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافًا أن الأيكة الشجر الملتف، فأما احتجاج بعض من احتج بقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد {ليكة} فلا حجة له؛ والقول فيه: إن أصله الأيكة ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز على هذا إلا الخفض؛ كما تقول بالأحمر تحقق الهمزة ثم تخففها فنقول بِلَحْمرِ؛ فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أوّلًا، وإن شئت كتبته بالحذف؛ ولم يجز إلا الخفض؛ قال سيبويه: واعلم أن ما لا ينصرف إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف انصرف؛ ولا نعلم أحدًا خالف سيبويه في هذا.
وقال الخليل: {الأيكة} غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} ولم يقل أخوهم شعيب؛ لأنه لم يكن أخًا لأصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}؛ لأنه كان منهم.
وقد مضى في الأعراف القول في نسبه.
قال ابن زيد: أرسل الله شعيبًا رسولًا إلى قومه أهل مدين، وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة؛ وقاله قتادة.
وقد ذكرناه.
{أَلاَ تَتَّقُونَ} تخافون الله {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} الآية.
وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدًا على صيغة واحدة؛ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة.
{أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} الناقصين للكيل والوزن.
{وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} أي اعطوا الحق.
وقد مضى في {سبحان} وغيرها {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} تقدّم في هود وغيرها.
{واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} قال مجاهد: الجِبِلة هي الخليقة.
وجُبِل فلان على كذا أي خُلق؛ فالخُلُق جِبِلَّة وجُبُلَّة وجِبْلَة وجُبْلةَ وجَبْلةَ ذكره النحاس في معاني القرآن.
{والجِبِلَّة} عطف على الكاف والميم.
قال الهروي: الجِبِلّة والجُبُلّة والجِبِلُّ والجُبُلُّ والجَبْلُ لغات؛ وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس؛ ومنه قوله تعالى: {جِبِلًا كَثِيرًا} [ياس: 62].
قال النحاس في كتاب إعراب القرآن له: ويقال جُبُلَّةٌ والجمع فيهما جَبَّالٌ، وتحذف الضمة والكسرة من الباء، وكذلك التشديد من اللام؛ فيقال: جُبْلَةٌ وجُبَلٌ، ويقال: جِبْلَةٌ وجِبَالٌ؛ وتحذف الهاء من هذا كله.
وقرأ الحسن باختلاف عنه: {وَالْجُبُلَّةَ الأَوَّلِينَ} بضم الجيم والباء؛ وروي عن شيبة والأعرج.
الباقون بالكسر.
قال:
والموتُ أعظمُ حادثٍ ** فيما يَمرُّ على الجِبِلَّه

{قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} الذين يأكلون الطعام والشراب على ما تقدّم.
{وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} أي ما نظنك إلا من الكاذبين في أنك رسول الله تعالى.
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السماء} أي جانبًا من السماء وقطعة منه، فننظر إليه؛ كما قال: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفًا مِّنَ السماء سَاقِطًا يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44].
وقيل: أرادوا أنزل علينا العذاب.
وهو مبالغة في التكذيب.
قال أبو عبيدة: الكِسْف جمع كِسْفةٍ مثل سِدْرٍ وسِدْرةٍ.
وقرأ السلمي وحفص: {كِسَفًا} جمع كِسْفَة أيضًا وهي القطعة والجانب تقديره كِسْرة وكسَر.
قال الجوهري: الكِسْفة القِطعة من الشيء؛ يقال أعطني كِسفة من ثوبك والجمع كِسَفٌ وكِسْفٌ.
ويقال: الكِسْف والكِسْفَة واحد.
وقال الأخفش: من قرأ: {كِسْفًا} جعله واحدًا ومن قرأ: {كِسَفًا} جعله جمعًا.
وقد مضى هذا في سورة سبحان.
وقال الهروي: ومن قرأ: {كِسْفًا} على التوحيد فجمعه أكساف وكسوف؛ كأنه قال أو تسقطه علينا طبقًا واحدًا، وهو من كسفت الشيء كسفًا إذا غطيته.
{إِن كُنتَ مِنَ الصادقين قَالَ ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} تهديد؛ أي إنما عليّ التبليغ وليس العذاب الذي سألتم إليّ وهو يجازيكم {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} قال ابن عباس: أصابهم حر شديد، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلّوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا.
وقيل: أقامها الله فوق رءوسهم، وألهبها حرًّا حتى ماتوا من الرَّمْدِ.
وكان من أعظم يوم في الدنيا عذابًا.
وقيل: بعث الله عليهم سَمومُا فخرجوا إلى الأيكة يستظلون بها فأضرمها الله عليهم نارًا فاحترقوا.
وعن ابن عباس أيضًا وغيره: إن الله تعالى فتح عليهم بابًا من أبواب جهنم، وأرسل عليهم هَدَّة وحرًّا شديدًا فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظِلٌّ ولا ماء فأنضجهم الحر، فخرجوا هربًا إلى البرية، فبعث الله عز وجل سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردًا وروحًا وريحًا طيبة، فنادى بعضهم بعضًا، فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله تعالى عليهم نارًا، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى، فصاروا رمادًا؛ فذلك قوله: {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} [هود: 94 95] وقوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
وقيل: إن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام، وسلّط عليهم الحرّ حتى أخذ بأنفاسهم، ولم ينفعهم ظلّ ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب، ليتبردوا فيها فيجدوها أشدّ حرًّا من الظاهر.
فهربوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وهي الظّلّة، فوجدوا لها بردًا ونسيمًا، فأمطرت عليهم نارًا فاحترقوا.
وقال يزيد الجُرَيْريّ: سلّط الله عليهم الحرّ سبعة أيام ولياليهن ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد، فاجتمعوا كلهم تحته، فوقع عليهم الجبل وهو الظّلة.
وقال قتادة: بعث الله شعيبًا إلى أُمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظُّلةَّ، وأما أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} قيل: آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر. اهـ.