فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)}.
استئنافُ تعدادٍ وتكرير كما تقدم في جملة: {كذبت عادٌ المرسلين} [الشعراء: 123].
ولم يقرن فعل {كذب} هذا بعلامة التأنيث لأن {أصحاب} جمعُ صاحب وهو مذكر معنىً ولفظًا بخلاف قوله: {كذبت قوم لوط} [الشعراء: 160] فإن {قوم} في معنى الجماعة والأمة كما تقدم في قوله: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء: 105].
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر {لَيْكَةَ} بلام مفتوحة بعدها ياء تحتية ساكنة ممنوعًا من الصرف للعلمية والتأنيث.
وقرأه الباقون {الأيكة} بحرف التعريف بعده همزة مفتوحة وبجر آخره على أنه تعريف عهد لأَيكةٍ معروفة.
والأيكة: الشجر الملتف وهي الغيضة.
وعن أبي عبيد: رأيتها في الإمام مصحف عثمان رضي الله عنه في الحِجر وق {الأيكة} وفي الشعراء وص {لَيكة} واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد ذلك ولم تختلف.
وأصحاب لَيكة: هم قوم شعيب أو قبيلة منهم.
قالوا: وكانت غيضتهم من شجر المُقْل بضم الميم وسكون القاف وهو النبق ويقال له الدَّوم بفتح الدال المهملة وسكون الواو.
وإفرادها بتاء الوحدة على إرادة البقعة واسم الجمع: أيك، واشتهرت بالأيكة فصارت علمًا بالغلبة معرفًا باللام مثل العَقبة.
ثم وقع فيه تغيير ليكون علمًا شخصيًا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على لام التعريف وتنوسي معنى التعريف باللام.
وعن الزجاج: جاء في التفسير أن اسم المدينة التي أرسل إليها شعيب كان ليكة.
وعن أبي عبيد: وجدنا في بعض كتب التفسير أن لَيْكة اسم القرية والأيكة البلاد كلها كمكة وبَكة.
وهذا من التغيير لأجل التسمية، كما سموا شُمْسًا بضم الشين ليكون علمًا وأصله الشمس علمًا بالغلبة.
والتغيير لأجل النقل إلى العلمية وارد بكثرة، ذكره ابن جنّي في شرح مشكل الحماسة عند قول تأبط شرًا:
إني لمُهْدٍ من ثنائي فقاصد ** به لابن عم الصدق شُمْس بن مالك

وذكره في الكشاف في سورة أبي لهب.
وقد تقدم بيانه عند الكلام على البسملة قبل سورة الفاتحة، فلما صار اسم ليكة علمًا على البلاد جاز منعه من الصرف لذلك، وليس ذلك لمجرد نقل حركة الهمزة على اللام كما توهمه النحّاس، ولا لأن القراءة اغترار بخط المصحف كما تعسّفه صاحب الكشاف على عادته في الاستخفاف بتوهيم القراء، وقد علمتم أن الاعتماد في القراءات على الرواية قبل نسخ المصاحف كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير فلا تتبعوا الأوهام المخطئة.
وقد اختلف في أن أصحاب ليكة هم مدين أو هم قوم آخرون ساكنون في ليكة جوار مدين أرسل شعيب إليهم وإلى أهل مدين.
وإلى هذا مال كثير من المفسرين.
روى عبد الله بن وهب عن جبير بن حازم عن قتادة قال: أُرسل شعيب إلى أمتين: إلى قومه من أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة.
وقال جابر بن زيد: أرسل شعيب إلى قومه أهل مدين وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة.
وفي تفسير ابن كثير: روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب عليه السلام من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبًا النبي»، وقال ابن كثير: هذا غريب، وفي رفعه نظر، والأشبه أنه موقوف.
وروى ابن جريج عن ابن عباس أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين.
والأظهر أن أهل الأيكة قبيلة غير مدين فإن مدين هم أهل نسب شعيب وهم ذرية مَدين بن إبراهيم من زوجه قطورة سكَن مدينُ في شرق بلد الخليل كما في التوراة، فاقتضى ذلك أنه وجده بلَدًا مأهولًا بقوم فهم إذن أصحاب الأيكة فبنى مدين وبنُوه المدينةَ وتركوا البادية لأهلها وهم سكان الغيضة.
والذي يشهد لذلك ويرجحه أن القرآن لمَّا ذكرَ هذه القصةَ لأهل مدين وصف شعيبًا بأنه أخوهم، ولما ذكرها لأصحاب ليكة لم يصف شعيبًا بأنه أخوهم إذ لم يكن شعيب نسيبًا ولا صهرًا لأصحاب ليكة، وهذا إيماء دقيق إلى هذه النكتة.
ومما يرجح ذلك قوله تعالى في سورة الحجر (78، 79) {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين}، فجعل ضميرهم مثنى باعتبار أنهم مجموع قبيلتين: مدين وأصحاب ليكة.
وقد بيّنّا ذلك في سورة الحجر.
وإنما تُرسل الرسل من أهل المدائن قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا يُوحَى إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109] وتكون الرسالة شاملة لمن حول القرية.
وافتتح شعيب دعوته بمثل دعوات الرسل من قبله للوجه الذي قدمناه.
وشمل قوله: {ألا تتقون} النهي عن الإشراك فقد كانوا مشركين كما في آية سورة هود.
{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)}.
استئناف من كلامه انتقل به من غرض الدعوة الأصلية بقوله: {ألا تَتّقون} [الشعراء: 177]. إلى آخره إلى الدعوة التفصيلية بوضع قوانين المعاملة بينهم، فقد كانوا مع شركهم بالله يطفّفون المكيال والميزان ويبخسون أشياء الناس إذا ابتاعوها منهم، ويفسدون في الأرض.
فأما تطفيف الكيل والميزان فظلمٌ وأكل مال بالباطل، ولما كان تجارهم قد تمالؤوا عليه اضطر الناس إلى التبايع بالتطفيف.
و{أوفوا} أمر بالإيفاء، أي جعل الشيء وافيًا، أي تامًا، أي اجعلوا الكيل غير ناقص.
والمُخْسِر: فاعل الخسارة لغيره، أي المُنقص، فمعنى {ولا تكونوا من المخسرين} لا تكونوا من المطفّفين.
وصوغ {من المخسرين} أبلغ من: لا تكونوا مُخسرين.
لأنه يدل على الأمر بالتبرُّؤ من أهل هذا الصنيع، كما تقدم آنفًا في عدة آيات منها قوله: {لتكونَنَّ من المرجومين} [الشعراء: 116] في قصة نوح.
والقُسطاس: بضم القاف وبكسرها من أسماء العدل، ومن أسماء الميزان، وتقدم في قوله تعالى: {وزِنُوا بالقسطاس المستقيم ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا} في سورة الإسراء (35)، حمل على المعنيين هنا كما هنالك وإن كان الوصف ب {المستقيم} يرجح أن المقصود به الميزان، وتقدم تفصيل ما يرجع إليه هذا التشريع في قصته في الأعراف.
وقرأ الجمهور: {بالقُسطاس} بضم القاف.
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخَلَفٌ بكسر القاف.
وبخس أشياء الناس: غبن منافعها وذمُّها بغير ما فيها ليضطروهم إلى بيعها بغبن.
وأما الفساد فيقع على جميع المعاملات الضارة.
والبخس: النقص والذم.
وتقدم في قوله: {ولا يبخس منه شيئًا} في سورة البقرة (282) ونظيره في سورة الأعراف.
وقد تقدم نظير بقية الآية في سورة هود.
ومن بخس الأشياء أن يقولوا للذي يعرض سلعة سليمة للبيع: إن سلعتك رديئة، ليصرف عنها الراغبين فيشتريها برُخص.
{وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)}.
أكد قوله في صدر خطابه {فاتقوا الله} [الشعراء: 179] بقوله هنا: {واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين} وزاد فيه دليل استحقاقه التقوى بأن الله خلقهم وخلق الأمم من قبلهم، وباعتبار هذه الزيادة أُدخل حرف العطف على فعل {اتقوا} ولو كان مجرد تأكيدٍ لم يصح عطفه.
وفي قوله: {الذي خلقكم} إيماء إلى نبذ اتقاء غيره من شركائهم.
و{الجبلة}: بكسر الجيم والباء وتشديد اللام: الخلقة، وأريد به المخلوقات لأن الجبلة اسم كالمصدر ولهذا وصف ب {الأولين}.
وقيل: أطلق الجبلة على أهلها، أي وذوي الجبلة الأولين.
والمعنى: الذي خلقكم وخلق الأمم قبلكم.
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)}.
نفوا رسالته عن الله كناية وتصريحًا فزعموه مسحورًا، أي مختل الإدراك والتصورات من جرّاء سحر سُلط عليه.
وذلك كناية عن بطلان أن يكون ما جاء به رسالة عن الله.
وفي صيغة {من المسحّرين} من المبالغة ما تقدم في قوله: {من المرجومين} [الشعراء: 116] {من المسحَّرين} [الشعراء: 153] {من المخرجين} [الشعراء: 167].
والإتيانُ بواو العطف في قوله: {وما أنت إلا بشر مثلنا} يجعل كونه بشرًا إبطالًا ثانيًا لرسالته.
وترك العطف في قصة ثمود يجعل كونه بشرًا حجة على أن ما يصدر منه ليس وحيًا على الله بل هو من تأثير كونه مسحورًا.
فمآل معنيي الآيتين متّحد ولكن طريق إفادته مختلف وذلك على حسب أسلوب الحكايتين.
وأطلق الظن على اليقين في {وإن نظنك لمن الكاذبين} وهو إطلاق شائع كقوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46]، وقرينته هنا دخول اللام على المفعول الثاني لظَنَّ لأن أصلها لام قسم.
و{إنْ} مخففة من الثقيلة، واللام في {لَمِن الكاذبين} اللامُ الفارقة، وحقها أن تدخل على ما أصله الخبر فيقال هنا مثلًا: وإن أنت لَمن الكاذبين، لكن العرب توسعوا في المخففة فكثيرًا ما يدخلونها على الفعل الناسخ لشدة اختصاصه بالمبتدأ والخبَر فيجتمع في الجملة حينئذ ناسخان مثل قوله تعالى: {وإن كانت لكبيرة} [البقرة: 143] وكان أصل التركيب في مثله: ونظنّ أنك لمن الكاذبين، فوقع تقديم وتأخير لأجل تصدير حرف التوكيد لأن إنّ وأخواتها لها صدر الكلام ما عدا أنّ المفتوحة.
وأحسب أنهم ما يخفّفون إنّ إلا عند إرادة الجمع بينها وبين فعل من النواسخ على طريقة التنازع، فالذي يقول: إنْ أظنك لخائفًا، أراد أن يقول: أظن إنَّك لخائف، فقدم إنَّ وخففها وصيّر خبرها مفعولًا لفعل الظن، فصار: إنْ أظنّك لخائفًا، والكوفيون يجعلون {إنْ} في مثل هذا الموقع حرف نفي ويجعلون اللام بمعنى إلاَّ.
والآمر في {فأسقط} أمر تعجيز.
والكِسْف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة من عدا حفصًا: القطعة من الشيء.
وقال في الكشاف: هو جمع كِسْفة مثل قِطْع وسِدْر.
والأول أظهر، قال تعالى: {وإن يروا كسفًا من السماء ساقطًا} [الطور: 44].
وقرأ حفص {كِسَفًا} بكسر الكاف وفتح السين على أنه جمع كسف كما في قوله: {أو تُسْقِطَ السماء كما زعمت علينا كِسَفًا}، وقد تقدم في سورة الإسراء (92).
وقولهم: {إن كنتَ من الصادقين} كقول ثمود: {فأتتِ بآية إنْ كنتَ من الصادقين} [الشعراء: 154] إلا أنّ هؤلاء عينوا الآية فيحتمل أن تعيينها اقتراح منهم، ويحتمل أن شعيبًا أنذرهم بكِسف يأتي فيه عذاب.
وذلك هو يوم الظّلّة المذكور في هذه الآية، فكان جواب شعيب بإسناد العلم إلى الله فهو العالم بما يستحقونه من العذاب ومقداره.
و{أعلم} هنا مبالغة في العالم وليس هو بتفضيل.
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)}.
{الظُّلة}: السحابة، كانت فيها صواعق متتابعة أصابتهم فأهلكتهم كما تقدم في سورة الأعراف.
وقد كان العذاب من جنس ما سألوه، ومن إسقاط شيء من السماء.
وقوله: {فكذبوه} الفاء فصيحة، أي فتبين من قولهم: {إنما أنت من المسحرين} [الشعراء: 185] أنهم كذبوه، أي تبين التكذيب والثبات عليه بما دلّ عليه ما قصدوه من تعجيزه إذ قالوا: {فأسْقط علينا كِسْفًا من السماء إن كنت من الصادقين} [الشعراء: 187].
وفي إعادة فعل التكذيب إيقاظ للمشركين بأن حالهم كحال أصحاب شعيب فيوشك أن يكون عقابهم كذلك.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)} أي في ذلك آية لكفار قريش إذ كان حالهم كحال أصحاب لَيْكة فقد كانوا من المطففين مع الإشراك قال تعالى: {ويل للمطففين} إلى قوله: {ليوم عظيم} [المطففين: 1 5].
وقد تقدم القول في نظائره.
وقد ذكرنا في طالعة هذه السورة (8) وجه تكرير آية {إن في ذلك لآية}. اهـ.