فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

ولما فرغ من ذكر قصة نوح عليه السلام شرع في قصة هود عليه السلام وهي القصة الرابعة فقال تعالى: {كذبت عاد} أي: تلك القبيلة التي مكن الله تعالى لها في الأرض بعد قوم نوح {المرسلين} بالأعراض عن معجزة هود عليه السلام، ثم سلى محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في النسب لا في الدين {هود} بصيغة العرض تأدبًا معهم وتلطفًا بهم {ألا تتقون} أي: يكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدونه ولا تشركون به ما لا يضرّكم ولا ينفعكم، ثم علل ذلك بقوله: {إني لكم رسول} أي: فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك {أمين} أي: لا أكتم عنكم شيئًا مما أمرت به ولا أخالف شيئًا منه.
{فاتقوا} أي: فتسبب عن ذلك أن أقول لكم اتقوا {الله} أي: الذي هو أعظم من كل شيء {وأطيعون} أي: في كل ما آمركم به من طاعة الله وترك معاصيه ومخالفته ثم نفى عن نفسه التهمة في دعائه لهم بقوله: {وما} أي: والحال أني ما {أسألكم عليه} أي: دعائي لكم {من أجر} فتتهموني به وإنما أنا رسول داع {إن} أي: ما {أجري} أي: ثوابي {إلا على رب العالمين} فهو الذي يثيب العبد على عمله، ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان أتبعه إنكار بعض ما هم عليه لأنّ حالهم حال الناسي لذلك الطوفان الذي أهلك الحيوان وأهدم البنيان بقوله لهم: {أتبنون بكل ريع} جمع ريعة وهو في اللغة المكان المرتفع، ومنه قولهم: كم ريع أرضك وهو ارتفاعها، وقال ابن عباس: الريع كل شرف، وقال مجاهد: هو الفج بين الجبلين، وقال الضحاك: هو كل طريق {آية} أي: علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض ذلك ولكنكم {تعبثون} بمن يمرّ في الطريق إلى هود عليه السلام وتسخرون منه، والجملة حال من ضمير تبنون، وقيل: كانوا يبنون الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم فنهوا عن ذلك ونسبوا إلى العبث، وقال سعيد بن جبير: هي بروج الحمام لأنهم كانوا يلعبون بالحمام، ثم ذكرهم بزوال الدنيا بقوله: {وتتخذون مصانع} قال مجاهد: قصورًا مشيدة، وقال الكلبي هي الحصون، وقال قتادة: هي مأخذ الماء يعني الحياض واحدها مصنعة، ولما كان هذا الفعل حال الراجي للخلود قال لهم {لعلكم} أي: كأنكم {تخلدون} فيها فلا تموتون، ثم بين لهم أفعالهم الخبيثة بقوله: {وإذا بطشتم} أي: أردتم البطش بأحد بضرب أو قتل {بطشتم جبارين} أي: من غير رأفة، قال البغويّ: والجبار: الذي يضرب ويقتل على الغضب.
تنبيه:
إنما قدّرنا الإرادة لئلا يتحد الشرط والجزاء، وجبارين حال، ولما خوّفهم هود عليه السلام بهذا الإنكار وهو أنّ اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب الدنيا واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء والجبارية تدل على حب التفرد بالعلوّ وهي ممتنعة الحصول للعبد وخوّفهم بهذا الإنكار عقاب الجبار تسبب عن ذلك قوله: {فاتقوا الله} أي: الذي له صفات الجلال والإكرام {وأطيعون} زيادة في دعائهم إلى الآخرة وزجرًا لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالشرف والتجبر، ثم وصل هذا الوعظ بما يؤكد القبول بأن نبههم على نعم الله تعالى عليهم بقوله: {واتقوا الذي أمدّكم} أي: جعل لكم مددًا وهو اتباع الشيء ما يقوّ به على الانتظام {بما تعلمون} أي: ليس فيه نوع خفاء حتى تغفلوا عن تقييد بالشكر، ثم فصل ذلك المجمل بقوله: {أمدّكم بأنعام} تعينكم على الأعمال وتأكلون منها وتبيعون {وبنين}.
يعينونكم على ما تريدون عند العجز.
{وجنات} أي: بساتين ملتفة الأشجار بحيث تستر داخلها {وعيون} أي: أنهار تشربون منها وتسقون أنعامكم وبساتينكم ثم خوّفهم بقوله: {إني أخاف عليكم} قال ابن عباس: إن عصيتموني أي: فإنكم قومي يسوءني ما يسوءكم {عذاب يوم عظيم} في الدنيا والآخرة فإنه كما قدر على الإنعام فهو قادر على الانتقام وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب، ولما بالغ عليه السلام في وعظهم وتنبيههم على نعم الله تعالى حيث أجملها ثم فصلها مستشهد بعلمهم وذلك أنه أيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حين قال: {أمدّكم بما تعلمون} ثم عدّدها عليهم وعرّفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه النعمة قادر على الانتقام منكم ولم يقدّر الله تعالى هدايتهم.
{قالوا} له راضين بما هم عليه {سواء علينا أوعظت} أي: خوفت وحذرت {أم لم تكمن من الواعظين} فإنا لا نرعوي عما نحن فيه، فإن قيل: لو قيل أوعظت أم لم تعظ كان أخصر والمعنى واحد؟
أجيب: بأنّ ذلك لتواخي القوافي، أو لأنّ المعنى ليس واحدًا بل بينهما فرق لأنّ المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلًا من أهله ومباشريه فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ، وقرأ قوله تعالى أي: ما {هذا} أي: الذي جئتنا به {إلا خلق الأولين} نافع وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الخاء واللام أي: ما هذا الذي نحن فيه إلاعادة الأولين في حياة ناس وموت آخرين وعافية قوم وبلاء آخرين، وقرأ الباقون بضم الخاء وسكون اللام أي: ما هذا إلا كذب الأولين.
{وما نحن بمعذبين} أي: على ما نحن عليه لأنا أهل قوة وشجاعة ونجدة وبلاغة وبراعة، لما تضمن هذا التكذيب تسبب عنه قوله تعالى: {فكذبوه} ثم تسبب عن تكذيبهم قوله تعالى: {فأهلكناهم} أي: في الدنيا بريح صرصر، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سورة الحاقة {إن في ذلك} أي: الإهلاك في كل قرن للمكذبين والإنجاء للمصدقين {لآية} أي: عظيمة لمن بعدهم على أنه تعالى فاعل ذلك وحده وأنه مع أوليائه ومن كان معه لا يذلّ وأنه على أعدائه ومن كان عليه لا يعز {وما كان أكثرهم} أي: أكثر من كان بعدهم {مؤمنين} أي: فلا تحزن أنت يا أشرف الرسل على من أعرض عن الإيمان.
{وإن ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وغيره من النعم {لهو العزيز} في انتقامه ممن عصاه {الرحيم} في إنعامه وإكرامه وإحسانه مع عصيانه وكفرانه وإرسال المرسلين وتأييدهم بالآيات المعجزة.
ثم أتبع قصة هود عليه السلام قصة صالح عليه السلام وهي القصة الخامسة بقوله تعالى: {كذبت ثمود} وهم أهل الحجر {المرسلين} وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار المثناة عند المثلثة، والباقون بالإدغام وأشار تعالى إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في النسب لا في الدين {صالح} بصيغة العرض تأدبًا معهم وتلطفًا بهم كقول من تقدم قبله {ألا تتقون} الله، ثم علل ذلك بقوله: {إني لكم رسول} من رب العالمين فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك {أمين} في جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم الذي لا أحد أرحم منه بكم، ثم تسبب عن قوله: {إني لكم رسول} قوله: {فاتقوا الله} أي: الذي له الغنى المطلق {وأطيعون} فيما أتيت به من عند الله، ثم نفى عنه ما فديتموهم ممن لا عقل له بقوله: {وما أسألكم عليه} أي: ما جئتكم به، وأغرق في النفي بقوله: {من أجر} ثم زاد في تأكيد هذا النفي بقوله: {إن} أي: ما {أجري} على أحد {إلا على رب العالمين} فهو المتفضل المنعم على خلقه، ثم شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره بقوله: {أتتركون} أي: من أيدى النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى {في ما هاهنا} أي: في بلادكم هذه من النعم حالة كونكم {آمنين} لا تخافون وأنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم.
فائدة: تكتب في ما هاهنا في مقطوعة عن ما، ثم فسر ما أجمله بقوله: {في جنات} أي: بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها {وعيون} تسقيها من مالها من البهجة وغير ذلك من المنافع.
{وزروع} أي: من سائر الأنواع {ونخل طلعها} أي: ما يطلع منها من الثمر {هضيم} قال ابن عباس: هو اللطيف، ومنه قوله: كشح هضيم، وقيل: هو الجواد الكريم من قولهم: يد هضوم إذا كانت تجود بما لديها، وقال أهل المعاني هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر، والطلع: عنقود الثمر قبل خروجه من الكمّ، وقال الزمخشري: الطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو والقنوهر اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه.
فإن قيل: لم قال ونخل بعد قوله: {في جنات} والجنة تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال زهير:
تسقى جنة سحقًا

وسحقًا: جمع سحوق، ولا يوصف به إلا النخل؟
أجيب: بوجهين: أحدهما: أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهًا على انفراده عنها بفضله عليها، الثاني: أن يريد بالجنات غيرها من الشجر لأنّ اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل، ولما ذكر ما أنعم الله تعالى به عليهم أتبعه أفعالهم الخبيثة بقوله: {وتنحتون} أي: والحال أنكم تنحتون إظهارًا للقدرة {من الجبال} وقرأ: {بيوتًا} ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء، والباقون بكسرها، وقرأ: {فرهين} ابن عامر والكوفيون بألف بعد الفاء، أي: حاذقين، وقرأ الباقون بغير ألف، أي: بطرين لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك.
{فاتقوا} أي: فتسبب عن ذلك. أني أقول لكم اتقوا {الله} الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره واجتناب زواجره {وأطيعون} أي: في كل ما أمرتكم به عنه فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم.
{ولا تطيعوا أمر المسرفين} أي: المجاوزين للحدود، وقال ابن عباس: المشركين، وقال مقاتل: هم التسعة الذين عقروا الناقة.
تنبيه:
استعير الطاعة التي هي انقياد للآمر لامتثال الأمر، أو جعل الأمر مطاعًا على المجاز الحكمي والمراد الآمر، ومنه قولهم: لك على أمرة مطاعة وقوله تعالى: {وأطيعوا أمري}.
ثم وصف المسرفين بما بين سرفهم بقوله: {الذين يفسدون في الأرض} بالمعاصي {ولا يصلحون} أي: ولا يطيعون الله في أمرهم به، فإن قيل: فما فائدة ولا يصلحون بعد قوله: يفسدون؟.
أجيب: بأنّ في ذلك دلالة على خلوص فسادهم فليس فيه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطًا ببعض الصلاح، ولما عجزوا عن الطعن في شيء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن {قالوا إنما أنت من المسحرين} قال مجاهد وقتادة: من المسحورين المخدوعين، أي: ممن سحر مرة بعد مرة، أي: حتى غلب على عقله، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أي: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ولست بملك وعلى هذا يكون قولهم: {ما أنت إلا بشر مثلنا} تأكيدًا له، قيل المسحور: هو المخلوق بلغة بجيلة أي: فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة {فأت بآية} أي: علامة تدل على صدقك {إن كنت من الصادقين} أي: الراسخين في الصدق فقال لهم صالح: ما تريدون قالوا نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقبًا فأخذ صالح يتفكر فقال له جبريل صلّ ركعتين وسل ربك الناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبًا مثلها في العظم، وعن أبي موسى رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعًا فلما رآها.
{قال} لهم صالح {هذه ناقة} أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم {لها شرب} أي: نصيب من الماء في يوم معلوم {ولكم شرب يوم} أي: نصيب من الماء في يوم {معلوم} لا زحام بينكم وبينها، وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم ولا تشرب في يومهم ماء.
{ولا تمسوها بسوء} كضرب وعقر، ثم خوّفهم بما تسبب عن عصيانهم بقوله: {فيأخذكم} أي: يهلككم {عذاب يوم عظيم} بسبب ما حل فيه من العذاب فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظيم، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله: {فعقروها} أي: فقتلوها بضرب ساقها بالسيف وأسند العقر إلى كلهم لأنّ عاقرها إنما عقر برضاهم فكأنهم فعلوا ذلك {فأصبحوا} أي: فتسبب عن عقرهم لها أنهم أصبحوا حين رأوا مخايل العذاب {نادمين} على عقرها من حيث إنه يفضي إلى العقاب والهلاك لا من حيث إنه معصية الله ورسوله وليس على وجه التوبة، أو كان ذاك عند رؤية البأس فلم ينفعهم.
{فأخذهم العذاب} أي: العذاب الموعود على عقرها {إن في ذلك} أي: ما تقدم في هذه القصة من الغرائب {لآية} أي: دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله {وما} أي: والحال أنه مع ذلك ما {كان أكثرهم مؤمنين} بل استمرّوا على ما هم عليه.