فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)}.
أخرج عبد بن حميد عن مجاهد ليكة قال: {الأيكة}.
وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} قال: كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر إلى مدين، وقد أهلكوا فيما يأتون. وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا سنة أصحاب مدين. فقال لهم شعيب {إني لكم رسول أمين}، {فاتقوا الله وأطيعون}، {وما أسألكم} على ما أدعوكم عليه أجرًا في العاجل في أموالكم {إن أجري إلا على رب العالمين}، {واتقوا الذي خلقكم والجبلة} يعني وخلق الجبلة {الأولين} يعني القرون الأولين الذين أهلكوا بالمعاصي ولا تهلكوا مثلهم {قالوا إنما أنت من المسحرين} يعني من المخلوقين {وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين}، {فأسقط علينا كسفًا من السماء} يعني قطعًا من السماء {فأخذهم عذاب يوم الظلة} أرسل الله عليهم سمومًا من جهنم، فأطاف بهم سبعة أيام حتى انضجهم الحر، فحميت بيوتهم، وغلت مياههم في الآبار والعيون، فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين والسموم معهم، فسلط الله عليهم الشمس من فوق رءوسهم فتغشتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم، وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم، ثم أنشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا تحتها جميعًا؛ أطبقت عليهم فهلكوا ونجَّى الله شعيبًا والذين آمنوا به.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {والجبلة الأولين} قال: الخلق الأولين.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {والجبلة الأولين} قال: الخليقة.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {فأسقط علينا كسفًا من السماء} قال: قطعًا من السماء.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب: أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها، فلما خرجوا منها، أصابهم فزع شديد ففرقوا أن يدخلوا البيوت أن تسقط عليهم. فأرسل الله عليهم الظلة فدخل تحتها رجل قال: ما رأيت كاليوم ظلًا أطيب ولا ابرد هلموا أيها الناس، فدخلوا جميعًا تحت الظلة، فصاح فيهم صيحة واحدة، فماتوا جميعًا.
وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال: {أصحاب الأيكة} أصحاب شجر وهم قوم شعيب، وأصحاب الرس: أصحاب آبار وهم قوم شعيب.
وأخرج ابن المنذر عن السدي قال: بعث شعيبًا إلى أصحاب الأيكة- والايكة غيضة- فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة.
قال: فتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنم، فغشيهم من حره ما لم يطيقوه، فتبردوا بالماء وبما قدروا عليه، فبينما هم كذلك إذ رفعت لهم سحابة فيها ريح باردة طيبة، فلما وجدوا بردها ساروا نحو الظلة، فاتوها يتبردون بها فخرجوا من كل شيء كانوا فيه، فلما تكاملوا تحتها طبقت عليهم بالعذاب.
فذلك قوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: سلط الله الحر على قوم شعيب سبعة أيام ولياليهن حتى كانوا لا ينتفعون بظل بيت ولا ببرد ماء، ثم رفعت لهم سحابة في البرية فوجدوا تحتها الروح، فجعلوا يدعوا بعضهم بعضًا. حتى إذا اجتمعوا تحتها أشعلها الله عليهم نارًا. فذلك قوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة} فقال: بعث الله عليهم وهدة وحرًا شديدًا، فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت، فدخل عليهم أجواف البيوت، فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هرابًا إلى البرية.
فبعث الله عليهم سحابة فاظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردًا ولذة، فنادى بعضهم بعضًا حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقطها الله عليهم نارًا. فذلك قوله: {عذاب يوم الظلة}.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة {فأخذهم عذاب يوم الظلة} قال: ذكر لنا أنه سلط الله عليهم الحر سبعة أيام لا يظلهم ظل ولا ينفعهم منه شيء، فبعث الله عليهم سحابة، فلحقوا إليها يلتمسون الروح في ظلها. فجعلها الله عليهم عذابًا فأحرقتهم. بعثت عليهم نارًا فاضطرمت فاكلتهم. فذلك عذاب يوم الظلة.
وأخرج عبد بن حميد عن علقمة {فأخذهم عذاب يوم الظلة} قال: أصابهم الحر حتى أقلقهم من بيوتهم فخرجوا، ورفعت لهم سحابة فانطلقوا إليها، فلما استظلوا بها، أرسلت إليهم فلم ينفلت منهم أحد.
وأخرج الحاكم عن زيد بن أسلم قال: كان ينهاهم عن قطع الدراهم {فأخذهم عذاب يوم الظلة} حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة، وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن مجاهد في قوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة} قال: ظلل من العذاب اتاهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: من حدثك من العلماء: ما عذاب يوم الظلة. فكذبه.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: من حدثك من العلماء ما عذاب يوم الظلة قال: أخذهم حر أقلقهم من بيوتهم، فانشئت لهم سحابة فأتوها فصيح بهم فيها والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)}.
قوله: {الأيكة}:
قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر {لَيْكَةَ} بلامٍ واحدةٍ وفتح التاء. جعلوه اسمًا غيرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافًا إليه {أصحاب} هنا، وفي ص خاصة. والباقون {الأَيْكَةِ} مُعَرَّفًا بأل موافقةً لِما أُجْمِعَ عليه في الحجر وفي ق.
وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ الناسِ في القراءةِ الأُولى. وتجرَّأَ بعضُهم على قارئها، وسأذكر لك من ذلك طرفًا. فَوَجْهُها على ما قال أبو عُبيد: أَنَّ لَيْكَةَ اسمٌ للقريةِ التي كانوا فيها، والأيْكَةَ اسمٌ للبلدِ كله. قال أبو عبيد: لا أُحِبُّ مفارقَةَ الخَطِّ في شيءٍ من القرآنِ إلاَّ ما يَخْرُج من كلامِ العربِ، وهذا ليسَ بخارجٍ من كلامِها مع صحةِ المعنى في هذه الحروفِ؛ وذلك أنَّا وَجَدْنا في بعضِ التفسيرِ الفرقَ بين لَيْكة والأَيْكة فقيل: لَيْكة هي اسمُ القرية التي كانوا فيها، والأَيْكَةُ: البلادُ كلُّها فصار الفرقُ بينهما شبيهًا بما بين بَكَّة ومَكَّة، ورَأَيْتُهُنَّ مع هذا في الذي يقال: إنه الإِمامُ مصحفُ عثمانَ مفتَرِقاتٍ، فوجَدْتُ التي في الحجر والتي في ق {الأَيْكَة} ووَجَدْتُ التي في الشعراءِ والتي في ص {لَيْكَة}، ثم اجْتَمَعَتْ عليها مصاحفُ الأمصارِ بعدُ، فلا نَعْلَمُها اختلفَتْ فيها. وقرأ أهلُ المدينةِ على هذا اللفظِ الذي قَصَصْنا يعني بغيرِ ألفٍ ولامٍ ولا إجراءٍ. انتهى ما قاله أبو عبيد. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعدما نقَلْتُه عنه: هذه عبارتُه وليسَتْ سديدةَ؛ فإن اللامَ موجودةٌ في {لَيْكة} وصوابُه بغير ألفٍ وهمزةٍ. قلت: بل هي سديدةٌ. فإنه يعني بغيرِ ألفٍ ولامِ معرفةٍ لا مُطْلقَ لامٍ في الجملة.
وقد تُعُقِّبَ قولُ أبي عبيدٍ، وأنكروا عليه، فقال أبو جعفر: أَجْمع القرَّاءُ على خفضِ التي في الحجر وق فيجبُ أَنْ يُرَدَّ ما اخْتُلِفَ فيه إلى ما اتُّفِقَ عليه إذا كان المعنى واحدًا. فأمَّا ما حكاه أبو عبيدٍ مِنْ أَنَّ {ليكَةَ} اسمُ القرية، وأن الأَيْكَةَ اسمُ البلدِ كلِّه فشيْءٌ لا يَثْبُتُ ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله، ولو عُرِفَ لكان في نظرٌ؛ لأنَّ أهلَ العلمِ جميعًا من المفسِّرين والعالِمين بكلامِ العرب على خلافِه. ولا نَعْلم خلافًا بين أهلِ اللغة أنَّ الأَيْكَة الشجرُ الملتفُّ. فأمَّا احتجاجُ بعضِ منِ احتجَّ لقراءة مَنْ قَرَأ في هذين الموضعين بالفتح أنَّه في السَّوادِ {لَيْكة} فلا حجَّةَ فيه. والقولُ فيه: أنَّ أصلَه: الأَيْكَة، ثم خُفِّفَتِ الهمزةُ فَأُلْقِيَتْ حركتُها على اللامِ فسَقَطَتْ واستَغْنَيْتَ عن ألفِ الوصلِ؛ لأنَّ اللامَ قد تحرَّكَتْ، فلا يجوزُ على هذا إلاََّ الخفضُ، كما تقول: مررتُ بالأَحْمَرِ على تحقيقِ الهمزةِ، ثم تُخَفِّفُها فتقول: بِلَحْمَرِ فإنْ شِئْتَ كَتَبْتَه في الخَطِّ على ما كتبتَه أولًا، وإن شِئْتَ كَتَبْتَه بالحَذْفِ ولم يَجُزْ إلاَّ الخفضُ، فلذلك لا يجوزُ في {الأَيْكَةِ} إلاَّ الخفضُ.
قال سيبويه: واعلَمْ أنَّ كلَّ ما لم يَنْصَرِفْ إذا دَخَلَتْه الألفُ واللامُ أو أَضَفْتَه انصرَفَ، ولا نعلمُ أحدًا خالَف سيبويه في هذا.
وقال المبردُ في كتاب الخط: كَتَبُوا في بعضِ المواضعِ {كَذَّبَ أصحابُ لَيْكَة} بغير ألفٍ؛ لأن الألفَ تذهبُ في الوصلِ، ولذلك غَلِطَ القارىءُ بالفتحِ فَتَوَهَّم أنَّ {لَيْكَةَ} اسمُ شيءٍ، وأنَّ اللامَ أصلٌ فَقَرأ: أصحابُ ليكةَ. وقال الفراء: نرى والله أعلم أنها كُتِبَتْ في هذين الموضعين بتركِ الهمزِ فسَقَطَتِ الألفُ لتحريكِ اللام. قال مكي: تَعَقَّب ابنُ قتيبَة على أبي عبيد فاختار {الأَيْكَةِ} بالألفِ والهمزةِ والخفضِ قال: إنما كُتِبَتْ بغيرِ ألفٍ على تخفيفِ الهمزِ. قال: وقد أجمعَ الناسُ على ذلك، يعني في الحجر وق، فوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ ما في الشعراء وص بما أَجْمَعوا عليه، فما أَجْمَعُوا عليه شاهِدٌ لما اخْتَلفوا فيه.
وقال أبو إسحاق: القراءة بجَرِّ قوله: ليكةِ وأنت تريد الأيكة أجودُ مِنْ أَنْ تجعلَها لَيْكَةَ، وتفتَحها؛ لأنَّها لا تنصرفُ؛ لأنَّ لَيْكَة لا تُعَرَّفُ، وإنما هي أَيْكة للواحدِ، وأَيْك للجمعِ مثل: أَجَمَة وأَجَم. والأَيْكُ: الشجرُ الملتفُّ فأجودُ القراءةِ فيها الكسرُ، وإسقاطُ الهمزة، لموافقة المصحف ولا أعلمه إلاَّ قد قرئ به.
وقال الفارسيُّ: قولُ مَنْ قال ليكةَ ففتحَ التاءَ مُشْكِلٌ، لأنه فَتَحَ معِ لَحاقِ اللامِ الكلمةَ. وهذا في الامتناعِ كقولِ مَنْ قال: مَرَرْتُ بِلَحْمَرَ ففتحَ الأخِرَ مع لَحاقِ لامِ المعرفةِ، وإنما كُتِبَتْ لَيْكَةَ على تخفيفِ الهمزِ، والفتحُ لا يَصِحُّ في العربيةِ؛ لأنه فَتْحُ حرفِ الإِعرابِ في موضع الجرِّ مع لامِ المعرفةِ، فهو على قياسِ قَوْلِ مَنْ قال مررتُ بلَحْمَرَ. ويَبْعُدُ أَنْ يفتحَ نافعٌ ذلك مع ما قال عنه ورش.
قلت: يعني أنَّ وَرْشًا نَقَلَ عن نافعٍ نَقْلَ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها، حيث وُجِد بشروطٍ مذكورةٍ، ومن جملةِ ذلك: ما في سورةِ الحجر وق مِنْ لفظِ {الأيكة} فقرَأ على قاعدتِه في السورتين بنَقْلِ الحركةِ وطَرْحِ الهمزةِ وخَفْضِ الياءِ، فكذلك ينبغي أَنْ يكونَ الحكمُ في هذين الموضعينِ أيضًا.
وقال الزمخشري: قُرِىءَ {أصحابُ الأَيْكة} بالهمزة وتخفيفها وبالجرِّ على الإِضافةِ، وهو الوجهُ. ومَنْ قَرَأَ بالنصبِ وزعَمَ أنَّ لَيْكَة بوزنِ لَيْلة اسمُ بلد، فَتَوَهُّمٌ قاد إليه خطُّ المصحفِ، وإنما كُتبت على حكمِ لفظِ اللافظ كما يكتب أَصحاب النحو، لأن على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف، وقد كُتِبَتْ في سائرِ القرآنِ على الأصلِ، والقصة واحدةٌ. على أنَّ لَيْكَة اسمٌ لا يُعْرَفُ. ورُوي أنَّ أصحابَ الأَيْكة كانوا أصحابَ شجرٍ مُلْتَفٍّ وكان شجرُهم الدَّوْمَ، يعني أنَّ مادةَ لام ي ك مفقودةٌ في لسانِ العرب كذا قال النُّقَّابُ مِمَّنْ تَتَبَّع ذلك قال: وهذا كما نَصُّوا على أن الخاء والذال المعجمتين لم يُجامعا الجيمَ في لغةِ العربِ ولذلك لم يَذْكرها صاحب الصحاح مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ عن أبي عبيد، ولو كانت موجودةً في اللغةِ لذكرها مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ لشدة الاحتياجِ إليها.
وقال الزجاج أيضًا: أهلُ المدينة يفتحون على ما جاء في التفسيرِ: أن اسمَ المدينة التي كان فيها شعيبٌ لَيْكة قال أبو علي: لو صَحَّ هذا فلِمَ أجمعَ القرَّاءُ على الهمزِ في قوله: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة} [الآية: 78] في الحجر. والأَيْكة التي ذُكِرَتْ هاهنا هي الأَيْكَةُ التي ذُكِرَتْ هناك. وقد قال ابن عباس: {الأَيْكَةُ} الغَيْضَةُ ولم يُفَسِّرْها بالمدينةِ ولا البلدِ.
قلت: وهؤلاء كلُّهم كأنَّهم زعموا أن هؤلاء الأئمةَ الأثباتَ إنما أَخَذوا هذه القراءةَ مِنْ خَط المصاحفِ دونَ أفواهِ الرجالِ، وكيف يُظَّنُّ بمثلِ أَسَنِّ القراءِ وأعلاهُمْ إسنادًا، الآخذِ للقرآن عن جملةٍ من جُلَّة الصحابةِ أبي الدرداء وعثمان بن عفان وغيرهما، وبمثل إمامِ مكةَ شَرَّفها الله تعالى وبمثل إمامِ المدينةِ؟ وكيف يُنْكَرُ على أبي عبيدٍ قولُه، أو يُتَّهَمُ في نَقْلِه؟ ومَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ، والتواتُرُ قَطْعِيٌّ فلا يُعارَضُ بالظنِّي.
وأمَّا اختلافُ القراءةِ مع اتحادِ القصةِ فلا يَضُرُّ ذلك، عَبَّر عنها تارةً بالقريةِ خاصةً، وتارةً بالمصرِ الجامعِ للقرى كلِّها، الشاملِ هو لها. وأمَّا تفسيرُ ابنِ عباس فلا ينافي ذلك، لأنَّه عَبَّر عنها كَثُر فيها. ومَنْ رأى ما ذكرْتُه من مناقبِ هؤلاء الأئمةِ في شَرْحِ حرز الأماني اطَّرَحَ ما طُعِنَ به عليهم، وعَرَفَ قَدْرهم ومكانتَهم. وقال أبو البقاء في هذه القراءةِ: وهذا لا يَسْتقيمُ؛ إذ ليس في الكلامِ لَيْكة حتى يُجْعَلَ عَلَمًا. فإن ادُّعِي قَلْبُ الهمزة لامًا فهو في غايةِ البُعْدِ. قلت:
وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ** لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ

أطرقْ كرا إنَّ النِّعامِ بالقرى مَنْ أنت وزيدًا.
{وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)}.
قوله: {الجبلة} العامَّةُ على كسرِ الجيمِ والباءِ وشَدِّ اللامِ. وأبو حُصَيْن والأعمشُ والحسن بضمِّهما وشدِّ اللام. والسُّلمي بفتحِ الجيمِ أو كسرها مع سكون الباء. وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ ومعناه: الخَلْقُ المتَّحِدُ الغليظُ مأخوذٌ من الجَبَل. قال الشاعر:
والمَوْتُ أعظمُ حادِثٍ ** فيما يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ

وقال المهدَوِيُّ: الجِبْلُ والجَبْلُ والجُبْلُ لغاتٌ، وهو الجمعُ الكثيرُ العددِ من الناس. وقيل: الجِبِلَّةُ مِنْ قولِهم: جُبِل على كذا أي: خُلِق وطُبِع عليه. وسيأتي في يس إنْ شاء الله تعالى تمامُ الكلامِ على ذلك عند قولهِ: {جِبِلًا كَثِيرًا} [يس: 62] واختلافُ القراء فيه.
{وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)}.
قوله: {وَمَآ أَنتَ}: جاء في قصةِ هود {ما أنت} بغير واو وهنا {وما أنت} بالواو، فقال الزمخشري: إذا دَخَلَتْ الواوُ فقد قُصِدَ مَعْنيان كلاهما مخالِفٌ للرسالةِ عندهم: التسخيرُ والبَشَريَّةُ، وأنَّ الرسولَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ مُسَخَّرًا ولا بَشَرًا. وإذا تُرِكَتِ الواوُ فلم يُقْصَدْ إلاَّ معنىً واحدٌ وهو كونُه مُسَخَّرا، ثم قَرَّر بكونِه بشرًا. وتقدَّم الخلافُ في {كِسَفًا} واشتقاقُه في الإِسراء. اهـ.