فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)}.
عود إلى ما افتتحت به السورة من التنويه بالقرآن وكونه الآية العظمى بما اقتضاه قوله: {تلك آيات الكتاب المبين} [الشعراء: 2] كما تقدم لتختتم السورة بإطناب التنويه بالقرآن كما ابتُدئت بإجمال التنويه به، والتنبيه على أنه أعظم آية اختارها الله أن تكون معجزةً أفضل المرسلين.
فضمير {وإنه} عائد إلى معلوم من المقام بعد ذكر آيات الرسل الأولين.
فبواو العطف اتصلت الجملة بالجمل التي قبلها، وبضمير القرآن اتصل غرضها بغرض صدر السورة.
فجملة: {وإنه لتنزيل رب العالمين} معطوفة على الجمل التي قبلها المحكية فيها أخبار الرسل المماثلة أحوالُ أقوامهم لحال قوم محمد صلى الله عليه وسلم وما أيدهم الله به من الآيات ليعلم أن القرآن هو آية الله لهذه الأمة، فعطفها على الجمل التي مثلها عطف القصة على القصة لتلك المناسبة.
ولكن هذه الجملة متصلة في المعنى بجملة: {تلك آيات الكتاب المبين} [الشعراء: 2] بحيث لولا ما فصل بينها وبين الأخرى من طول الكلام لكانت معطوفة عليها.
ووُجه الخطابُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن في التنويه بالقرآن تسلية له على ما يلاقيه من إعراض الكافرين عن قبوله وطاعتهم فيه.
والتأكيد بإنَّ ولاَم الابتداء لرد إنكار المنكرين.
والتنزيل مصدر بمعنى المفعول للمبالغة في الوصف حتى كأنَّ المنزَّلَ نفسُ التنزيل.
وجملة: {نزل به الروح الأمين} بيان ل {تنزيل رب العالمين}، أي كان تنزيله على هذه الكيفية.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمَرو وحفص وأبو جعفر بتخفيف زاي {نزل} ورفع {الروحُ}.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف {نَزَّل} بتشديد الزاي ونصب {الروح الأمينَ}، أي نزلّه الله به.
و{الروح الأمين} جبريل وهو لقبه في القرآن، سمّي رُوحًا لأن الملائكة من عالم الروحانيات وهي المجردات.
وتقدم الكلام على الروح في سورة الإسراء، وتقدم في البقرة (87).
ونزول جبريل إذنُ الله تعالى، فنزولُه تنزيل من رب العالمين.
و{الأمين} صفة جبريل لأن الله أمنه على وحيه.
والباء في قوله: {نزل به} للمصاحبة.
والقلب: يطلق على ما به قبول المعلومات كما قال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ} [ق: 37] أي إدراك وعقل.
وقوله: {على قلبك} يتعلق بفعل {نزل}، و{على} للاستعلاء المجازي لأن النزول وصول من مكان عال فهو مقتض استقرار النازل على مكان.
ومعنى نزول جبريل على قلب النبي عليهما السلام: اتصاله بقوة إدراك النبي لإلقاء الوحي الإلهي في قوَّته المتلقّية للكلام الموحى بألفاظه، ففعل {نزل} حقيقة.
وحرف {على} مستعار للدلالة على التمكن مما سمي بقلب النبي مثل استعارته في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
وقد وصَف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما في حديث الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانًا يأتيني مثلَ صَلْصَلَة الجَرَس فيَفْصِمُ عني وقد وَعَيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملَك رجلًا فيكلمني فأعِي ما يقول». وهذان الوصفان خاصّان بوحي نزول القرآن.
وثمة وحي من قبيل إبلاغ المعنى وسمّاه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر نفْثًا فقال: «إن روح القدس نَفَث في رُوعي أن نفسًا لن تموت حتى تستوفي أجلها» فهذا اللفظ ليس من القرآن فهو وحي بالمعنى والروع: العقل وقد يكون الوحي في رؤيا النوم فإن النبي لا ينام قلبه، ويكون أيضًا بسماع كلام الله من وراء حجاب، وقد بيّنا في شرح الحديث النكتة في اختصاص إحدى الحالتين ببعض الأوقات.
وأشعر قوله: {على قلبك} أن القرآن أُلقيَ في قلبه بألفاظه، قال تعالى: {وما كنت تتْلُو مِن قبله من كتاب} [العنكبوت: 48].
ومعنى: {لتكون من المنذرين} لتكون من الرسل.
واختير من أفعاله النذارة لأنها أخص بغرض السورة فإنها افتتحت بذكر إعراضهم وبإنذارهم.
وفي: {من المنذرين} من المبالغة في تمكن وصف الرسالة منه ما تقدم غيرَ مرة في مثل هذه الصيغة في هذه القصص وغيرها.
و{بلسان} حال من الضمير المجرور في {نزل به الروح الأمين}.
والباء للملابسة.
واللسان: اللغة، أي نزل بالقرآن ملابسًا للغة عربية مبينة أي كائنًا القرآن بلغة عربية.
والمبين: الموضِّح الدلالة على المعاني التي يعنيها المتكلم، فإن لغة العرب أفصح اللغات وأوسعها لاحتمال المعاني الدقيقة الشريفة مع الاختصار، فإن ما في أساليب نظم كلام العرب من علامات الإعراب، والتقديم والتأخير، وغير ذلك، والحقيقة والمجاز والكناية، وما في سعة اللغة من الترادف، وأسماء المعاني المقيّدة، وما فيها من المحسنات، ما يلج بالمعاني إلى العقول سهلةً متمكنة، فقدّر الله تعالى هذه اللغة أن تكون هي لغة كتابه الذي خاطب به كافة الناس، فأنزل بادىء ذي بدء بين العرب أهل ذلك اللسان ومقاويل البيان ثم جعل منهم حمَلتَه إلى الأمم تترجم معانيَه فصاحتُهم وبيانُهم، ويتلقى أساليبَه الشادون منهم وولدانُهم، حين أصبحوا أمة واحدة يقوم باتحاد الدين واللغة كيانهم.
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)} عطف على {وإنه لتنزيل رب العالمين} [الشعراء: 192]، والضمير للقرآن كضمير {وإنه لتنزيل رب العالمين}.
وهذا تنويه آخر بالقرآن بأنه تصدقه كتب الأنبياء الأولين بموافقتها لما فيه وخاصة في أخباره عن الأمم وأنبيائها.
وقوله: {في زبر الأولين} أي كتب الرسل السالفين، أي أن القرآن كائن في كتب الأنبياء السالفين مثل التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء التي نعلمها إجمالًا.
ومعلوم أن ضمير القرآن لا يراد به ذات القرآن، أي ألفاظه المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم إذ ليست سور القرآن وآياته مسطورة في زبر الأولين بلفظها كله فتعين أن يكون الضمير للقرآن باعتبار اسمه ووصفه الخاص أو باعتبار معانيه.
فأما الاعتبار الأوّل فالضمير مؤول بالعَود إلى اسم القرآن كقوله تعالى: {الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157]، أي يجدون اسمه ووصفه الذي يُعيِّنه.
فالمعنى أن ذكر القرآن وارد في كتب الأولين، أي جاءت بشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول يجيء بكتاب.
ففي سفر التثنية من كتب موسى عليه السلام في الإصحاح الثامن عشر قول موسى: قال لي الرب: أقيم لهم نبيئًا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به إذ لا شك أن إخوة بني إسرائيل هم العرب كما ورد في سفر التكوين في الإصحاح السادس عشر عند ذكر الحمل بإسماعيل وأمام جميع إخوته يسكن أي لا يسكن معهم ولكن قُبالتهم.
ولم يأت نبيء بوحي مثل موسى بشرع كشرع موسى غير محمد صلى الله عليه وسلم وكلام الله المجعول في فمه هو القرآن الموحَى به إليه وهو يتلوه.
وفي إنجيل متَّى الإصحاح الرابع والعشرين قال عيسى عليه السلام: ويقومُ أنبياء كذَبةٌ كثيرون ويُضلون كثيرا.
ولكن الذي يَصبر إلى المنتهَى أي يدوم. إلى آخر الدهر أي دينه إذ لا خلود للأشخاص فهذا يخلص ويكْرَز أي يدعو ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة أي الأرض المأهولة شهادةً لجميع الأمم رسالة عامة ثم يأتي المنتهى أي نهاية العالم.
فالبشارة هي الوحي وهو القرآن وهو الكتاب الذي دعا جميع الأمم، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور} [إبراهيم: 1] وقال: {ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} [الإسراء: 89].
وفي إنجيل يوحنا قول المسيح الإصحاح الرابع عشر: وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزيًا أي رسولًا آخرَ ليمكث معكم إلى الأبد هذا هو دوام الشريعة روحُ الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله إشارة إلى تكذيب المكذبين لأنه لا يراه ولا يعرفه.
ثم قال: وأما المعزي الروحُ القدس الذي سيُرسله الأبُ باسمي أي بوصف الرسالة فهو يُعلمكم كلَّ شيء ويذكركم بكل ما قلتُه لكم وهذا التعليم لكل شيء هو القرآن ما فرطنا في الكتاب من شيء.
وأما الاعتبار الثاني فالضمير مؤوّل بمعنى مسماه كقولهم: عندي درهم ونصفه، أي نصف مسمى درهم فكما يطلق اسم الشيء على معناه نحو {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] وقوله: {واذكر في الكتاب إبراهيم} [مريم: 41] أي أحواله، كذلك يطلق ضمير الاسم على معناه، فالمعنَى: أن ما جاء به القرآن موجود في كتب الأولين.
وهذا كقول الإنجيل آنفًا ويذكّركم بكل ما قلته لكم، ولا تجد شيئًا من كلام المسيح عليه السلام المسطور في الأناجيل غير المحرف عنه إلا وهو مذكور في القرآن، فيكون الضمير باعتبار بعضه كقوله: {شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحًا} [الشورى: 13] الآية.
والمقصود: أن ذلك آية على صدق أنه من عند الله.
وهذا معنى كون القرآن مصدِّقًا لما بين يديه.
وقوله: {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} تنويه ثالث بالقرآن وحجة على التنويه الثاني به الذي هو شهادة كتب الأنبياء له بالصدق، بأن علماء بني إسرائيل يعلمون ما في القرآن مما يختص بعلمهم، فباعتبار كون هذه الجملة تنويهًا آخر بالقرآن عطفت على الجملة التي قبلها ولولا ذلك لكان مقتضى كونها حجة على صدق القرآن أن لا تعطف.
وفعل: {يعلمه} شامل للعلم بصفة القرآن، أي تحقق صدق الصفات الموصوف بها من جاء به، وشامل للعلم بما يتضمنه ما في كتبهم.
وضمير {أن يعلمه} عائد إلى القرآن على تقدير: أن يعلم ذكره.
ويجوز أن يعود على الحكم المذكور في قوله: {وإنه لفي زبر الأولين}.