فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ}.
من القُرى المهلكة {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} قد أنذروا أهلَها إلزامًا للحجَّةِ.
{ذِكْرِى} أي تذكرةً ومحلُّها النصب على العلَّةِ أو المصدر لأنَّها في معنى الإنذارِ كأنَّه قيل مذكرون ذكرى أو على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعل هو صفةٌ لمنذرون أي إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى أو الرَّفع على أنَّها صفةُ منذرون بإضمار ذوو أو بجعلِهم ذكرى لإمعانِهم في التَّذكرةِ أو خبر مبتدأ محذوفٍ والجملةُ اعتراضيةٌ وضميرُ لها للقُرى المدلولِ عليها بمفردِها الواقع في حيِّز النَّفي على أنَّ معنى أن الكل منذرين أعمُّ من أن يكونَ لكلِّ قريةٍ منها منذر واحد أو أكثر {وَمَا كُنَّا ظالمين} فنهلك غيرَ الظَّالمينَ وقيل: الإنذارُ والتَّعبيرُ عن ذلك بنفي الظَّالميةِ مع أنَّ إهلاكَهم قبل الإنذارِ ليس بظلمٍ أصلًا على ما تقرَّر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ لبيانِ كمال نزاهتِه تعالى عن ذلك بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى من الظلم وقد مرَّ في سورةِ آلِ عمرانَ عند قوله تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ}.
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين}.
ردٌّ لما زعمه الكفرةُ في حقِّ القرآنِ الكريمِ من أنه من قبيلِ ما يُلقيه الشَّيطانُ على الكَهنةِ بعد تحقيقِ الحقِّ ببيان أنه نزل به الرُّوحُ الأمينُ.
{وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ} أي وما يصحُّ وما يستقيمُ لهم ذلك {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ذلك أصلًا.
{إِنَّهُمْ عَنِ السمع} لكلامِ الملائكةِ {لَمَعْزُولُونَ} لاتنفاءِ المشاركةِ بينهم وبين الملائكةِ في صفاء الذَّواتِ والاستعداد لقبولِ فيضان أنوار الحقِّ والانتقاش بصور العلومِ الرَّبانيةِ والمعارف النُّورانيةِ، كيف لا ونفوسُهم خبيثةٌ ظلمانية شريرةٌ بالذَّاتِ غير مستعدة إلا لقبولِ ما لا خيرَ فيه أصلًا من فنُون الشُّرورِ فمن أين لهم أنْ يحومُوا حولَ القرآن الكريم المنطوي على الحقائقِ الرَّائقةِ الغيبَّيةِ التي لا يمكن تلقِّيها إلا من الملائكةِ عليهم الصَّلاة والسَّلام.
{فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} خُوطب به النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تهييجًا وحثًا على ازديادِ الإخلاصِ ولطفًا لسائرِ المكلَّفين ببيانِ أنَّ الإشراكَ من القُبح والسُّوء بحيث يُنهى عنه مَن لا يمكن صدورُه عنه فكيفَ بمن عداهُ.
{وَأَنذِرِ} العذابَ الذي يستتبعهُ الشِّركُ والمُعاصي {عَشِيرَتَكَ الأقربين} الأقربَ منهم فالأقربَ فإنَّ الإهتمامَ بشأنِهم أهمُّ.
رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ صعدَ الصَّفا وناداهم فَخِذًا فَخِذًا حتى اجتمعُوا إليه فقال: «لو أخبرتُكم أنَّ بسفح هذا الجبلِ خيلًا أكنتُم مُصدِّقِيّ» قالوا: نعمَ، قال: «فإنيِّ نذيرٌ لكم بين يَديَّ عذابٍ شديدٍ» ورُوي أنَّه قال: «يابني عبدِ المطَّلبِ يا بني هاشمِ يا بني عبدِ منافٍ افتدُوا أنفسَكم من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكم شيئًا» ثم قالَ: «يا عائشةُ بنت أبي بكرٍ ويا حفصةُ بنتَ عمرَ ويا فاطمةُ بنتَ محمَّدٍ ويا صفيَّةُ عمَّة محمَّدٍ اشترينَ أنفسكنًّ من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكُنَّ شيئًا». {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} أي ليِّن جانَبك لهم. مستعارٌ من حال الطَّائرِ فإنَّه إذا أرادَ أنْ ينحطَّ خفضَ جناحَه، ومن للتَّبيين لأنَّ من اتبَّع أعمّ ممَّن اتبع لدينِ أو غيره أو للتَّبعيض على أن المراد بالمؤمنينَ المشارفون للإيمانِ أو المصدِّقون باللَّسانِ فحسب.
{فَإِنْ عَصَوْكَ} ولم يتَّبعوك {فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} أي ممَّا تعملُون أو من أعمالكم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ}.
من القرى المهلكة {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} قد أنذروا أهلها إلزامًا للحجة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرًا مقدمًا و{مُنذِرُونَ} مبتدأ، والجملة في موضع الحال من {قَرْيَةٌ} قاله أبو حيان ثم قال: الأعراب أن يكون {لَهَا} في موضع الحال وارتفع {مُنذِرُونَ} بالجار والمجرور أي إلا كائنًا لها منذرون فيكون من مجىء الحال مفردًا لا جملة، ومجىء الحال من المنفي كقولك ما مررت بأحد إلا قائمًا فصيح انتهى، وفي الوجهين مجىء الحال من النكرة.
وحسن ذلك على ما قيل عمومها لوقوعها في حيز النفي مع زيادة من قبلها، وكأن هذا القائل جعل العموم مسوغًا لمجىء الحال قياسًا على جعلهم إياه مسوغًا للابتداء بالنكرة لاشتراك العلة.
وذهب الزمخشري إلى أن {لَهَا مُنذِرُونَ} جملة في موضع الصفة لقرية ولم يجوز أبو حيان كون الجملة الواقعة بعد إلا صفة ثم قال: مذهب الجمهور إنه لا تجىء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو ما جاءني أحد إلا راكب وإذا سمع خرج على البدل أي إلا رجل راكب ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول: ما مررت بأحد إلا قائمًا ولا يحفظ من كلامها ما مررت بأحد إلا قائم فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة لورد المفرد بعد إلا صفة لها فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد إلا نحو ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو فإن التقدير ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد انتهى فتذكر.
وأيًا ما كان فضمير {لَهَا} للقرية التي هي لما سمعت في معنى الجمع فكأنه قيل وما أهلكنا القرى إلا لها منذرون على معنى أن للكل منذرين أعم من أن يكون لكل قرية منها منذر واحد أو أكثر.
وقوله تعالى: {ذِكْرِى} منصوب على الحال من الضمير في {مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] عند الكسائي وعلى المصدر عند الزجاج فعلى الحال إما أن يقدر ذوي ذكرى أو يقدر مذكرين أو يبقى على ظاهره اعتبارًا للمبالغة.
وعلى المصدر فالعامل {مُنذِرُونَ} لأنه في معنى مذكرون فكأنه قيل: مذكرون ذكرى أي تذكرة.
وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولًا له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة وأن يكون مرفوعًا على أنه خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى أو مذكرين أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها، وجوز أيضًا أن يكون متعلقًا بأهلكنا على أنه مفعول له والمعنى ما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم ثم قال: وهذا هو الوجه المعول عليه.
وبين ذلك في الكشف بقوله: لأنه وعيد للمستهزئين وبأنهم يستحقون أن يجعلوا نكالًا وعبرة لغيرهم كالأمم السوالف حيث فعلوا مثل فعلهم من الاستهزاء والتكذيب فجوزوا بما جوزوا وحينئذٍ يتلائم الكلام انتهى، وتعقب بأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعًا له غير معتمد على الأداة والمفعول له ليس واحدًا من هذه الثلاثة فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا.
ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش وإن كانا لم ينصبا على المفعول له هنا وكان ذلك لما في نصبه عليه من التكلف وأمر الالتئام سهل كما لا يخفى {وَمَا كُنَّا ظالمين} أي ليس شأننا أن يصدر عنا بمقتضى الحكمة ما هو في صورة الظلم لو صدر من غيرنا بأن نهلك أحدًا قبل إنذاره أو بأن نعاقب من لم يظلم.
ولإرادة نفي أن يكون ذلك من شأنه عز شأنه قال: {وَمَا كُنَّا} دون وما نظلم.
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} متعلق بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين} [الشعراء: 192] الخ وهو رد لقول مشركي قريش إن لمحمد صلى الله عليه وسلم تابعًا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة وأن القرآن مما ألقاه إليه عليه الصلاة والسلام.
والتعبير بالتفعيل لأن النزول لو وقع لكان بالاستراق التدريجي، وقرأ الحسن وابن السميقع {الشياطون} فقال أبو حاتم: هو غلط من الحسن أو عليه، وقال النحاس: هو غلط عند جميع النحويين.
وقال المهدوي: هو غير جائز في العربية، وقال الفراء: غلط الشيخ ظن أنها النون التي على هجائين، وقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلا وقد سمعا فيه، وقال يونس بن حبيب: سمعت أعرابيًا يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن. انتهى.
ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كرخر يبرين وفلسطين وقد قيل فيهما يبرون وفلسطون أجرى فيه نحو ما أجرى فيهما فقيل الشياطون.
وحقه على هذا على ما في الكشاف أن يشتق من الشيطوطة وهي الهلاك، وفي البحر نقلًا عن بعضهم إن كان اشتقاقه من شاط أي احترق يشيط شوطة كان لقراءتهما وجه.
قيل: ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط وجمعه الشياطون فخففا الياء وقد روي عنهما التشديد وقرأ به غيرهما، وقال بعض: إنه جمع شياط مصدر شاط كخاط خياطًا كأنهما ردا الوصف إلى المصدر بمعناه مبالغة ثم جمعا والكل كما ترى، وقال صاحب الكشف: لا وجه لتصحيح هذه القراءة البتة، وقد أطنب ابن جني في تصحيحها ثم قال: وعلى كل حال فالشياطون غلط، وأبو حيان لا يرضى بكونه غلطًا ويقول: قرأ به الحسن وابن السميقع والأعمش ولا يمكن أن يقال: غلطوا لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان والله تعالى أعلم.
والذي أراه أنه متى صح رفع هذه القراءة إلى هؤلاء الأجلة لزم توجيهها فإنهم لا يقرؤون إلا عن رواية كغيرهم من القراء في جميع ما يقرؤونه عندنا، وزعم المعتزلة أن بعض القراءات بالرأي.
{وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ} أي وما يصح وما يستقيم لهم ذلك {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي وما يقدرون على ذلك أصلًا.
{أَنَّهُمْ} أي الشياطين {عَنِ السمع} لما يتكلم به الملائكة عليهم السلام في السماء {لَمَعْزُولُونَ} أي ممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكنين كما يدل عليه قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الان يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن: 8، 9] والمراد تعليل ما تقدم على أبلغ وجه لأنهم إذا كانوا ممنوعين عن سماع ما تتكلم به الملائكة في السماء كانوا ممنوعين من أخذ القرآن المجيد من اللوح المحفوظ أو من بيت العزة أو من سماعه إذ يظهره الله عز وجل لمن شاء في سمائه من باب أولى، وقيل: المعنى أنهم لمعزولون عن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام لأنه مشروط بالمشاركة في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن الكريم مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة عليهم السلام، وتعقب بأنه إن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام مطلقًا مشروط بصفات هم متصفون بنقائضها فهو غير مسلم كيف وقد ثبت أن الشياطين كانوا يسترقون السمع وظاهر الآيات أنهم إلى اليوم يسترقونه ويخطفون الخطفة فيتبعهم شهاب ثاقب وأيضًا لو كان ما ذكر شرطًا للسمع وهو منتف فيهم فأي فائدة للحرس ومنعهم عن السمع بالرجوم.
وأيضًا لو صح ما ذكر لم يتأت لهم سماع القرآن العظيم من الملائكة عليهم السلام سواء كان مشتملًا على الحقائق والمغيبات أم لا فما فائدة في قوله: والقرآن مشتمل الخ إلى غير ذلك.
وإن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام إذا كان وحيًا منزلًا على الأنبياء عليهم السلام مشروط بما ذكر فهو مع كونه خلاف ظاهر الكلام غير مسلم أيضًا كيف وقد ثبت أن جبريل عليه السلام حين ينزل بالقرآن ينزل معه رصد حفظًا للوحي من الشيطان وقد قال عز وجل: {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ} [الجن: 26 28] وأيضًا ظاهر العزل عن السمع يقتضي أنهم كانوا ممكنين منه قبل ثم منعوا عنه فيلزم على ما ذكر أنهم كانوا يسمعون الوحي من قبل مع أن نفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات فيبطل كون المشاركة المذكورة شرطًا للسمع، فإن ادعى أن الشرط كان موجودًا إذ ذاك ثم فقد والتزم القول بجواز تغير ما بالذات فهو مما لم يقم عليه دليل وقياس جميع الشياطين على إبليس عليه اللعنة مما لا يخفى حاله فتدبر.
وبالجملة الذي أميل إليه في معنى الآية ما ذكرته أولا.
وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، وجوز كون ضمير {أَنَّهُمْ} للمشركين.
والمراد أنهم لا يصغون للحق لعنادهم، وفي الآية شمة من قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات} [البقرة: 257] وهو بعيد جدًا.
{فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم مع استحالة صدور المنهي عنه عليه الصلاة والسلام تهييجًا وحثًا لازدياد الإخلاص فهو كناية عن أخلص في التوحيد حتى لا ترى معه عز وجل سواه.