فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفيه لطف لسائر المكلفين ببيان أن الإشراك من القبح والسوء بحيث ينهى عنه من لم يمكن صدوره عنه فكيف بمن عداه.
وكأن الفاء فصيحة أي إذا علمت ما ذكر فلا تدع مع الله إلهًا آخر.
{وَأَنذِرِ} العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي {عَشِيرَتَكَ الاقربين} أي ذوي القرابة القريبة أو الذين هم أكثر قربًا إليك من غيرهم.
والعشيرة على ما قال الجوهري: رهط الرجل الأدنون.
وقال الراغب هم أهل الرجل الذين يتكثر بهم أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل وهو العشرة.
واشتهر أن طبقات الأنساب ست، الأولى: الشعب بفتح الشين وهو النسب الأبعد كعدنان، الثانية: القبيلة وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر.
الثالثة: العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة.
الرابعة: البطن وهو ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم.
الخامسة: الفخذ وهو ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية السادسة: الفصيلة وهي ما انقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس وبني عبد المطلب وليس دون الفصيلة إلا الرجل وولده.
وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة في ذكرها بعد القبيلة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يحك ما يخالفه ولم يذكر في الترتيبين العشيرة، وفي البحر أنها تحت الفخذ فوق الفصيلة، والظاهر أن ذلك على الترتيب الأول.
وحكى بعضهم بعد أن نقل الترتيب المذكور عن النووي عليه الرحمة أنه قال في تحرير التنبيه: وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة.
ويفهم من كلام البعض أن العشيرة إذا وصفت بالأقرب اتحدت مع الفصيلة التي هي سادسة الطبقات، وأنت تعلم أن الأقربية إذا كانت مأخوذة في مفهومها كما يفهم من كلام الجوهري تستغني دعوى الاتحاد عن الوصف المذكور.
وفي كليات أبي البقاء كل جماعة كثيرة من الناس يرجعون إلى أب مشهور بأمر زائد فهو شعب كعدنان ودونه القبيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب الشعب كربيعة ومضر، ثم العمارة وهي ما انقسمت فيها أنساب القبيلة كقريش وكنانة، ثم البطن وهي ما انقسمت فيها أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم، ثم الفخذ وهي ما انقسمت فيها أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية، ثم العشيرة وهي ما انقسمت فيها أنساب الفخذ كبني العباس وبني أبي طالب والحي يصدق على الكل لأنه للجماعة المتنازلين بمربع منهم. انتهى.
ولم يذكر فيه الفصيلة وكأنه يذهب إلى اتحادها بالعشيرة ووجه تخصيص عشيرته صلى الله عليه وسلم الأقربين بالذكر مع عموم رسالته عليه الصلاة والسلام دفع توهم المحاباة وأن الاهتمام بشأنهم أهم وأن البداءة تكون بمن يلي ثم من بعده كما قال سبحانه: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} [التوبة: 123] وفي كيفية الإنذار أخبار كثيرة، منها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهو يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت.
{تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1، 2] ومنها ما أخرجه أحمد وجماعة عن أبي هريرة قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا وعم وخص فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا يا معشر بني كعب ابن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا إلا أن لكم رحمًا وسأبلها ببلالها».
وجاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية جمع عليه الصلاة والسلام بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ثم أطلع عليهم فأنذرهم، وجاء في بعض آخر منها أنه عليه الصلاة والسلام أمر عليًا كرم الله تعالى وجهه أن يصنع طعامًا ويجمع له بني عبد المطلب ففعل وجمعهم وهم يومئذٍ أربعون رجلًا فبعد أن أكلوا أراد صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لبه إلى الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم فتفرقوا ثم دعاهم من الغد إلى مثل ذلك ثم بدرهم بالكلام فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله تعالى والبشير قد جئتكم بما لم يجىء به أحد جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا تسلموا وأطيعوا تهتدوا إلى غير ذلك من الأخبار والروايات وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الإنذار.
ومن الروايات ما يتمسك به الشيعة فيما يدعونه في أمر الخلافة وهو مؤول أو ضعيف أو موضوع {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} ورهطك منهم المخلصين.
{واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} أمر له صلى الله عليه وسلم بالتواضع على سبيل الاستعارة التبعية أو التمثيلية أو المجاز المرسل وعلاقته اللزوم، ويستعمل في التكبر رفع الجناح وعلى ذلك جاء قول الشاعر:
وأنت الشهير بخفض الجناح ** فلا تك في رفعه أجدلًا

و{مِنْ} قيل: بيانية لأن من اتبع في أصل معناه أعم ممن اتبع لدين أو غيره ففيه إبهام وبذكر المؤمنين المراد بهم المتبعون للدين زال ذلك، وقيل: للتبعيض بناءً على شيوع من اتبع فيمن اتبع للدين وحمل المؤمنين على من صدق باللسان ولو نفاقًا ولا شك أن المتبعين للدين بعض المؤمنين بهذا المعنى، وجوز أن يحمل على من شارف وإن لم يؤمن.
ولا شك أيضًا أن المتبعين المذكورين بعضهم وفي الآية على القولين أمر بالتواضع لمن اتبع للدين.
وقال بعضهم: على تقدير كونها بيانية أن المؤمنين يراد بهم الذين لم يؤمنوا بعد وشارفوا لأن يؤمنوا كالمؤلفة مجاز باعتبار الأول وكان من اتبعك شائعًا في من آمن حقيقة.
ومن آمن مجازًا فبين بقوله تعالى: {مِنَ المؤمنين} أن المراد بهم المشارفون أي تواضع للمشارفين استمالة وتأليفًا، وعلى تقدير كونها تبعيضية يراد بالمؤمنين الذين قالوا آمنا وهم صنفان: صنف صدق واتبع وصنف ما وجد منهم إلا التصديق فقيل: من المؤمنين وأريد بعض الذين صدقوا واتبعوا أي تواضع لبعض المؤمنين وهم الذين اتبعوك محبة ومودة.
وعلى هذا يكون الذين أمر صلى الله عليه وسلم بالتواضع لهم على تقدير البيان غير الذي أمر عليه الصلاة والسلام بالتواضع لهم على تقدير التبعيض.
وقال بعض الأجلة الاتباع والإيمان توأمان إذ المتبادر من أتباعه عليه الصلاة والسلام اتباعه الديني وكذا المتبادر من الإيمان الإيمان الحقيقي، وذكر {مِنَ المؤمنين} لإفادة التعميم كذكر {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] بعد طائر في قوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وتفيد الآية الأمر بالتواضع لكل من آمن من عشيرته صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
وقال الطيبي: الإجراء على أفانين البلاغة أن يحمل الكلام على أسلوب وضع المظهر موضع المضمر وأن الأصل وأنذر عشيرتك الأقربين.
واخفض جناحك لمن اتبعك منهم فعدل إلى المؤمنين ليعم ويؤذن أن صفة الإيمان هي التي يستحق أن يكرم صاحبها ويتواضع لأجلها من اتصف بها سواء كان من عشيرتك أو غيرهم وليس هذا بالبعيد لكني أختار كون من بيانية وأن عموم من اتبعك باعتبار أصل معناه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} [الشعراء: 214] بدأ صلى الله عليه وسلم بأهل بيته وفصيلته فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين}.
{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} الظاهر أن الضمير المرفوع في {عَصَوْكَ} عائد على من أنذر صلى الله عليه وسلم بإنذارهم وهم العشيرة أي فإن عصوك ولم يتبعوك بعد إنذارهم فقل: إني برىء من عملكم أو الذي تعملونه من دعائكم مع الله تعالى إلهًا آخر، وجوز أن يكون عائدًا على الكفار المفهوم من السياق، وقيل: هو عائد على من اتبع من المؤمنين أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم فقل: إني برىء مما تعملون من المعاصي أي أظهر عدم رضاك بذلك وإنكاره عليهم.
وذكر على هذا أنه صلى الله عليه وسلم لو أمر بالبراءة منهم ما بقي شفيعًا للعصاة يوم القيامة، والآية على غير هذا القول منسوخة.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: أمره سبحانه بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم، وفي البحر هذه موادعة نسختها آية السيف. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)}.
تذكير لقريش بأن القرى التي أهلكها الله والتي تقدم ذكرها في هذه السورة قد كان لها رسل ينذرونها عذاب الله ليقيسوا حالتهم على أحوال الأمم التي قبلهم.
والاستثناء من أحوال محذوفة.
والتقدير: وما أهلكنا من قرية في حال من الأحوال إلا في حال لها منذرون.
وعُرّيت جملة الحال عن الواو استغناء عن الواو بحرف الاستثناء، ولو ذكرت الواو لجاز كقوله في سورة الحجر (4): {إلا ولها كتاب معلوم} وعبّر عن الرسل بصفة الإنذار لأنه المناسب للتهديد بالإهلاك.
{ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)} أي هذه ذكرى، فذكرى في موضع رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف دلت عليه قرينة السياق كقوله تعالى في سورة الأحقاف (35) {بَلاَغ} أي هذا بلاغ، وفي سورة إبراهيم (52) {هذا بلاغ للناس} وفي سورة ص (49) {هَذا ذِكْر} والمعنى: هذه ذكرى لكم يا معشر قريش.
وهذا المعنى هو أحسن الوجوه في موقع قوله: {ذكرى} وهو قول أبي إسحاق الزجاج والفراء وإن اختلفا في تقدير المحذوف قال ابن الأنباري: قال بعض المفسرين: ليس في الشعراء وقف تام إلاّ قوله: {إلا لها منذرون} [الشعراء: 208].
وقد تردد الزمخشري في موقع قوله: {ذكرى} بوجوه جعلها جميعًا على اعتبار قوله: {ذكرى} تكملة للكلام السابق وهي غير خلية عن تكلف.
والذكرى: اسم مصدر ذَكَّر.
وجملة: {وما كنا ظالمين} يجوز أن تكون معطوفة على {ذكرى} أي نذكّركم ولا نظلم، وأن تكون حالًا من الضمير المستتر في {ذكرى} لأنه كالمصدر يقتضي مسندًا إليه، وعلى الوجهين فمفاد {وما كنا ظالمين} الإعذار لكفار قريش والإنذار بأنهم سيحلّ بهم هلاك.
وحذف مفعول {ظالمين} لقصد تعميمه كقوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدًا} [الكهف: 49].
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)} عطف على جملة: {وإنه لتنزيل ربّ العالمين} [الشعراء: 192] وما بينهما اعتراض استدعاه تناسب المعاني وأخذُ بعضها بحُجز بعض تفننًا في الغرض.
وهذا رد على قولهم في النبي صلى الله عليه وسلم هو كاهن قال تعالى: {فذكّر فما أنت بنعمت ربّك بكاهن ولا مجنون} [الطور: 29]، وزعمهم أن الذي يأتيه شيطان؛ فقد قالت العوراء بنت حرب امرأةُ أبي لهب لما تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل ليلتين لِمرض: أرجو أن يكون شيطانك قد تركك.
ولذلك كان من جملة ما راجعهم به الوليد بن المغيرة حين شاوره المشركون فيما يصفون النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نقول: كلامه كلام كاهن، فقال: والله ما هو بزمزمته.