فصل: باب الْمُحْرِمُ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ أَوْ مَرَضِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.باب الْمُحْرِمُ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ أَوْ مَرَضِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا مِنْ الْمُحْرِمِينَ مُحْصَرِينَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَرِينَ فَأَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَرٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ هَدْيَهُ مَحَلَّهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُحْصَرِينَ وَغَيْرِ الْمُحْصَرِينَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} عَنَى الْمَرَضَ الَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى لُبْسٍ أَوْ شَيْءٍ يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ لِدَفْعِ الْأَذَى وَيَفْتَدِي.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} إنَّمَا هُوَ عَلَى أَذًى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضَ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ حَلْقٍ أَوْ تَغْطِيَةٍ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى فِي رَأْسِهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى حَلْقٍ وَلَا إلَى اسْتِعْمَال بَعْضِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحَ فِي حَظْرِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي أَخْبَارٍ مُتَظَاهِرَةٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةٍ وَالْقَمْلُ تَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَتُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ.
فَكَانَ كَثْرَةُ الْقَمْلِ مِنْ الْأَذَى الْمُرَادُ بِالْآيَةِ وَلَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحُ فِي رَأْسِهِ أَوْ خُرَّاجٌ فَاحْتَاجَ إلَى شَدِّهِ أَوْ تَغْطِيَتِهِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي جَوَازِ الْفِدْيَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُصِيبُهُ وَيَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ الثِّيَابِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ ذَلِكَ وَيَفْتَدِيَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ عَامٌّ فِي الْكُلِّ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} مَعْنَاهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ.
قِيلَ لَهُ: الْحَلْقُ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَإِنْ كَانَ مُرَادًا، وَكَذَلِكَ اللُّبْسُ وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَهُوَ مُرَادٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ اسْتِبَاحَةُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ لِلْعُذْرِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا وَكَانَ بِهِ أَذًى فِي بَدَنِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى حَلْقِ الشَّعْرِ كَانَ فِي حُكْمِ الرَّأْسِ فِي بَابِ الْفِدْيَةِ؛ إذْ كَانَ الْمَعْنَى مَعْقُولًا فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فِي حَالِ الْعُذْرِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ؛ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ الصِّيَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كَصِيَامِ الْمُتْعَةِ.
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي مِقْدَارِهَا عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الظَّاهِرِ، فَمِنْهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ بْنِ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلً أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمًا فَقَمِلَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِحَلَّاقٍ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَقَالَ هَلْ تَجِدُ نُسُكًا قَالَ: مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً.
وَرَوَاهُ صَالِحٌ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
وَرَوَى دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَقَالَ فِيهِ: «تَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ كُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنَ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اُنْسُكْ نَسِيكَةً أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ» فَذَكَرَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَفِي خَبَرٍ سِتَّةُ آصُعٍ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً.
ثُمَّ قَوْلُهُ: «ثَلَاثَةُ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ» يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحِنْطَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرُهُ وَالْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ مِنْهُ، فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّمْرِ سِتَّةُ آصُعٍ وَمِنْ الْحِنْطَةِ ثَلَاثَةُ آصُعٍ عَدَدُ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ سِتَّةٌ بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا النُّسُكُ فَإِنَّ فِي أَخْبَارِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَنْسُكَ نَسِيكَةً، وَفِي بَعْضِهَا شَاةٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ أَدْنَاهُ شَاةً وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مُخَيَّرُ بَيْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ يَبْتَدِئُ بِأَيِّهَا شَاءَ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ هَذَا حَقِيقَتُهَا وَبَابُهَا، إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوْضِعِ الْفِدْيَةِ مِنْ الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِمَوْضِعٍ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ فِي أَيِّ مَوْضِعِ شَاءَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: الدَّمُ بِمَكَّةَ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ حَيْثُ شَاءَ.
وَقَالَ مَالِكٌ بْنُ أَنَسِ: الدَّمُ وَالصَّدَقَةُ وَالصِّيَامُ حَيْثُ شَاءَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الصَّدَقَةُ وَالدَّمُ بِمَكَّةَ وَالصِّيَامُ حَيْثُ شَاءَ.
فَظَاهِرُ قَوْلِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} يَقْتَضِي إطْلَاقُهَا حَيْثُ شَاءَ الْمُفْتَدِي غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِمَوْضِعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْآي دَلَالَةٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْحَرَمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يَعْنِي الْأَنْعَامَ الَّتِي قَدَّمَ ذِكْرَهَا، ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَنْعَامَ الَّتِي تُهْدَى إلَى الْبَيْتِ؛ فَوَجَبَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلِّ هَدْيٍ مُتَقَرَّبٍ بِهِ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ لَا يُجْزِي فِي غَيْرِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: قَوْله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، فَصَارَ بُلُوغُ الْكَعْبَةِ صِفَةً لِلْهَدْيِ وَلَا يُجْزِئُ دُونَهَا.
وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ ذَبْحًا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْإِحْرَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْحَرَمِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَهَدْي الْمُتْعَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: «أَوْ اذْبَحْ شَاةً» وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ مَكَانَا، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَوْضِعٍ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَصَابَهُ ذَلِكَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَبَعْضُهَا مِنْ الْحِلِّ وَبَعْضُهَا مِنْ الْحَرَمِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَرْكَ ذِكْرَ الْمَكَانِ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ مِنْ ذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ عَالِمِينَ بِحُكْمِ تَعَلَّقَ الْهَدَايَا بِالْحَرَمِ لَمَّا كَانُوا يَرَوْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسُوقُ الْبُدْنَ إلَى الْحَرَمِ لِيَنْحَرَهَا هُنَاكَ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ فَحَيْثُ شَاءَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ ذَلِكَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِذِكْرِ الْمَكَانِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا تَقْيِيدُهُ بِالْحَرَمِ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا أَنَّ الْمُقَيَّدَ عَلَى تَقْيِيدِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ صَدَقَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ صَدَقَةً لَمْ تَجُزْ أَنْ تَكَوُّنَ مَخْصُوصَةً بِمَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ خَارِجٌ عَنْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّ لِلْمَسَاكِينِ بِالْحَرَمِ فِيهَا حَقًّا كَالذَّبَائِحِ.
قِيلَ لَهُ: الذَّبْحُ لَمْ يَتَعَلَّقْ جَوَازُهُ بِالْحَرَمِ لِأَجْلِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَهُمْ لَكَانَ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍ لَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ قَدْ لَزِمَهُ إخْرَاجُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ تَكُنِ الْقُرْبَةُ فِيهَا إرَاقَةَ الدَّمِ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ كَالصِّيَامِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالُوا: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ فَبِمَكَّةَ وَمَا كَانَ أَوْ صَدَقَةٍ فَحَيْثُ شَاءَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اجْعَلْ الْفِدْيَةَ حَيْثُ شِئْتَ.
وَقَالَ طَاوُسٌ: النُّسُكُ وَالصَّدَقَةُ بِمَكَّةَ وَالصِّيَامُ حَيْثُ شِئْتَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا نَحَرَ عَنْ الْحُسَيْنِ بَعِيرًا، وَكَانَ قَدْ مَرِضَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَأُمِرَ بِحَلْقِهِ، وَنَحَرَ الْبَعِيرَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا وَقَسَمَهُ عَلَى أَهْلِ الْمَاء.
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى جَوَازَ الذَّبْحِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ اللَّحْمَ صَدَقَةً، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّمَتُّعِ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِحْلَالُ وَالتَّمَتُّعِ إلَى النِّسَاءِ، وَالْآخَرُ: جَمْعُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ وَمَعْنَاهُ الِارْتِفَاقُ بِهِمَا وَتَرْكُ إنْشَاءِ سَفَرَيْنِ لَهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتُنْكِرُهَا أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَانَ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ؛ وَلِذَلِكَ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحُلُّوا بِعُمْرَةٍ عَلَى عَادَتِهِمْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إذَا بَرِئَ الدُّبُرُ وَعَفَا الْأَثَرُ وَانْسَلَخَ صَفَرُ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ.
فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ رَابِعِهِ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحِلُّوا، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ».
فَمُتْعَةُ الْحَجِّ تَنْتَظِمْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: إمَّا اسْتِبَاحَةُ التَّمَتُّعِ بِالنِّسَاءِ بِالْإِحْلَالِ، وَإِمَّا الِارْتِفَاقُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالِاقْتِصَارُ بِهِمَا عَلَى سَفَرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا لَا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُفْرِدُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَفَرًا.
وَيُحْتَمَلُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا بِجَمْعِهِمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهِمَا إذَا فُعِلَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ نَفْعٍ وَفَضِيلَةٍ تَحْصُلُ لِفَاعِلِهِمَا.
وَالْمُتْعَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْقَارِنُ، وَالْمُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمُحْصِرُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى لَهُ الْإِحْلَالَ وَلَكِنَّهُ يَمْكُثُ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ فَيَتَحَلَّلَ مِنْ حَجِّهِ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ فَوْتِ الْحَجِّ، وَفَسْخِ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةُ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} يَعْنِي الْحَاجِّ إذَا أُحْصِرَ فَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بِهَدْيٍ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، فَإِنْ هُوَ تَمَتَّعَ بِهِمَا وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ لِلتَّمَتُّعِ، وَإِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: سَفَرَانِ وَهَدْيٌ أَوْ هَدْيَانِ وَسَفَرٌ يَعْنِي بِقَوْلِهِ سَفَرَانِ وَهَدْيٌ أَنَّ هَذَا الْمُحْصَرَ إنْ اعْتَمَرَ بَعْدَ إحْلَالٍ مِنْ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ فَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ وَهُوَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهُمَا فِي سَفَرَيْنِ؛ أَوْ هَدَيَانِ وَسَفَرٍ، يَعْنِي إذَا لَمْ يَرْجِعْ بَعْدَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ لِلتَّمَتُّعِ، وَالْهَدْيُ الْأَوَّلُ لِلْإِحْصَارِ، فَذَلِكَ هَدْيَانِ وَسَفَرٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ بِجَمِيعِ الْآيَةِ الْمُحْصَرُ وَالْمُخَلَّى سَبِيلُهُ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} قَالَ عَطَاءٌ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُتْعَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ تُسَمَّ مُتْعَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَحِلُّ أَنْ يَتَمَتَّعَ إلَى النِّسَاءِ.
فَكَأَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ انْتَظَمَتْ الْأَمْرَيْنِ: مِنْ الْمُحْصَرِينَ إذَا أَرَادُوا قَضَاءَ الْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ الَّتِي لَزِمَتْ بِالْفَوَاتِ، وَمِنْ غَيْرِ الْمُحْصَرِينَ مِمَّنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ؛ فَكَانَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُحْصَرِينَ فَحُكْمُهُ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُرَادَيْنِ بِهِ فَيُفِيدُ إيجَابَ عُمْرَةٍ بِالْفَوَاتِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ إذَا جَمَعَهُمَا مَعَ قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَائِتِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ فَعَلَهُمَا فِي سَفَرَيْنِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُحْصَرِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ فِي الْمُحْصَرِينَ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُقَيَّدَةٌ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِينَ فِي جَوَازِ التَّمَتُّعِ لَهُمْ وَبَيَانُ حُكْمِهِمْ إذَا تَمَتَّعُوا.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْآيَةُ فِي فَحْوَاهَا خَاصَّةٌ فِي الْمُحْصَرِينَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ الْمُحْصَرِينَ إذَا تَمَتَّعُوا كَانُوا بِمَنْزِلَتِهِمْ.
وَالْقَارِنُ وَاَلَّذِي يَعْتَمِرُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَحُجُّ مِنْ عَامِهِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مُتَمَتِّعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِارْتِفَاقُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، وَالْآخَرُ: حُصُولُ فَضِيلَةِ الْجَمْعِ؛ فَيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَفَرٍ أَوْ تَفْرِيقُهُمَا بِأَنْ يَفْعَلَ الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمُتْعَةِ رِوَايَاتٌ ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي الِاخْتِلَافُ فِي إبَاحَتِهَا، وَإِذَا حَصَلَتْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ لَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ؛ فَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَبُو ذَرٍّ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ.
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ مُحَمَّد بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَامَ حَجَّ مُعَاوِيَةُ وَهُمَا يَتَذَاكَرَانِ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ سَعْدُ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أَخِي فَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ نَهَى عَنْهُ.
قَالَ سَعْدٌ: صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِي قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرْ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جُرَيَّ بْنَ كُلَيْبٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَعَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا، فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَقُلْتُ: إنَّ بَيْنَكُمَا لَشَرًّا أَنْتَ تَأْمُرُ بِهَا وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنْهَا فَقَالَ: مَا بَيْنَنَا إلَّا خَيْرٌ، وَلَكِنْ خَيْرَنَا أَتْبَعُنَا لِهَذَا الدِّينِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ لِمَعَانٍ أَحَدُهَا: الْفَضِيلَةُ لِيَكُونَ الْحَجُّ فِي أَشْهُرِهِ الْمَعْلُومَةِ لَهُ وَيَكُونَ الْعُمْرَةُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الشُّهُورِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَبَّ عِمَارَةَ الْبَيْتِ وَأَنْ يَكْثُرَ زُوَّارُهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الشُّهُورِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ رَأَى إدْخَالَ الرِّفْقِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ بِدُخُولِ النَّاسِ إلَيْهِمْ فَقَدْ جَاءَتْ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَخْبَارٌ مُفَسَّرَةٌ عَنْهُ؛ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَنْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَتَجْعَلُوا الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَتَمُّ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَقَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَأَخْلِصُوا أَشْهُرَ الْحَجِّ لِلْحَجِّ وَاعْتَمِرُوا فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الشُّهُورِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ تَتِمَّ عُمْرَتُهُ إلَّا بِهَدْيٍ، وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَدْيٍ غَيْرِ وَاجِبِ.
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِجِهَةِ اخْتِيَارِهِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إنَّمَا كَرِهَ عُمَرَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إرَادَةَ أَنْ لَا يَتَعَطَّلَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَجْهًا آخَرَ لِاخْتِيَارِهِ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ قَالَ: إنَّمَا نَهَى عُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ لِمَكَانِ أَهْلِ الْبَلَدِ لِيَكُونَ مَوْسِمَانِ فِي عَامٍ فَيُصِيبَهُمْ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا.
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ اخْتَارَهُ لِمَنْفَعَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ اخْتِيَارُ الْمُتْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا؛ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْ اعْتَمَرْتُ ثُمَّ اعْتَمَرْتُ ثُمَّ اعْتَمَرْتُ ثُمَّ حَجَجْتُ لَتَمَتَّعْتُ فَفِي هَذَا الْخَبَرِ اخْتِيَارُهُ لِلْمُتْعَةِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ الْمُتْعَةِ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اخْتِيَارِ الْمَصْلَحَةِ لِأَهْلِ الْبَلَدِ تَارَةً وَلِعِمَارَةِ الْبَيْتِ أُخْرَى.
وَبَيْنَ الْفُقَهَاءِ خِلَافٌ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ الْقِرَانِ أَوْ التَّمَتُّعِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْقِرَانُ أَفْضَلُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْإِفْرَادُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ وَالْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعِ حَسَنَانِ.
وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: لَأَنْ أَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ أَوْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ فِي شَهْرٍ يَجِبُ عَلَيَّ فِيهِ الْهَدْيُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ فِي شَهْرٍ لَا عَلَيَّ فِيهِ الْهَدْيُ.
وَقَدْ رَوَى قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ امْرَأَةٌ أَرَادَتْ أَنْ تَجْمَعَ مَعَ حَجِّهَا عُمْرَةً، فَقَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} مَا أَرَاهَا إلَّا أَشْهُرَ الْحَجِّ.
وَلَا دَلَالَةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْإِفْرَادَ أَفْضَلَ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبَيَانَ عَنْ الْأَشْهُرِ الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا التَّمَتُّعِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: تَمَامُ الْعُمْرَةِ أَنْ تُحْرِمَ مِنْ حَيْثُ ابْتَدَأْتَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ إلَى الْحَجِّ لَا يُلِمُّ بِأَهْلِهِ وَتَأَوَّلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ نَاوِيًا الْعُمْرَةَ خَالِصَةً لَا يَخْلِطُهَا بِالْحَجِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَقَّتَ الْمَوَاقِيتَ.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ: تَمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ فَنَصَّ عَلَى الْإِحْرَامِ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى خِلَافِ مَا ظَنَّ، لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا قَضَتْ بِحَظْرِ مُجَاوَرَتِهَا إلَّا مُحْرِمًا لِمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ، فَأَمَّا الْإِحْرَامُ بِهَا قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَرُوِيَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: خَرَجْنَا عُمَّارًا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: أَحَلَقْتُمْ الشُّعْثَ وَقَضَيْتُمْ التَّفَثَ أَمَا إنَّ الْعُمْرَةَ مِنْ مُدَرِكُمْ وَتَأَوَّلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى مَا تَأَوَّلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو ذَرٍّ أَنَّ الْأَفْضَلَ إنْشَاءُ الْعُمْرَةِ مِنْ أَهْلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ تَمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ «أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ»؛ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ صُبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ: أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، فَأَرَادَ الْجِهَادَ، فَقِيلَ لَهُ: ابْدَأْ بِالْحَجِّ؛ فَأَتَى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، فَفَعَلَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُلَبِّي بِهِمَا؛ إذْ مَرَّ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هَذَا أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِهِ فَسَمِعَهُمَا صُبَيٌّ فَكَبُرَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ شَيْئًا هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنْبَأَنِي أَبُو طَلْحَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ».
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرَّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يَقُولُ: قَالَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: إنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ بِتَحْرِيمِهِ».
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ»؛ قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتَ ابْنَ عُمَرَ بِذَلِكَ قَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ؛ قَالَ بَكْرٌ: فَلَقِيتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: مَا يَعُدُّونَا إلَّا صِبْيَانَنَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ» وَسَمِعَهُ أَنَسٌ فِي وَقْتٍ آخَرَ يقول: «لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ» وَكَانَ قَارِنًا، وَجَائِزٌ لِلْقَارِنِ أَنْ يَقُولَ مَرَّةً: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَتَارَةً.
لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ، وَأُخْرَى: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ؛ فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَفْيٌ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرَ أَحَدُهَا مَعَ حَجَّةٍ الْوَدَاعِ» وَرَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ بِوَادِي الْعَقِيقِ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ حَجَّةً وَعُمْرَةً».
وَرُوِيَ «عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ».
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوا حَجَّهُمْ عُمْرَةً، وَقَالَ: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً».
وَقَالَ لِعَلِيٍّ: «بِمَاذَا أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَا أُحِلُّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ».
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَدْيُهُ هَدْيَ تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ لَمَا مَنَعَهُ الْإِحْلَالَ لِأَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ لَا وَقْتَ لَهُ يَجُوزُ ذَبْحُهُ مَتَى شَاءَ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَدْيَهُ كَانَ هَدْيَ قِرَانٍ، وَلِذَلِكَ مَنَعَهُ الْإِحْلَالُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمَ النَّحْرِ.
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تُوجِبُ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا، وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا غَيْرَ مُعَارِضٍ لَهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي وَزْنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقِرَانِ فِي الِاسْتِفَاضَةِ وَالشُّيُوعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْإِفْرَادِ أَكْثَرُ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ» وَذَلِكَ لَا يَنْفِي كَوْنُهُ قَارِنًا؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ لِلْقَارِنِ أَنْ يَذْكُرَ الْحَجَّ وَحْدَهُ تَارَةً وَتَارَةً الْعُمْرَةَ وَحْدَهَا وَأُخْرَى يَذْكُرُهُمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا لَوْ تَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ وَالِاحْتِمَالِ لَكَانَ خَبَرَ الزَّائِدِ أَوْلَى.
وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَقَدْ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَأَوْلَى الْأُمُورِ وَأَفْضَلُهَا الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَعَلَهُ، لاسيما وَقَدْ قَالَ لَهُمْ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوهُ} وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا أَفْضَلَهَا.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَمِنْ الْإِفْرَادِ.
وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ نُسُكٍ وَهُوَ الدَّمُ لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ عِنْدَنَا دَمُ نُسُكٍ وَقُرْبَةٍ يُؤْكَلُ مِنْهُ كَالْأُضْحِيَّةِ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الدِّمَاءِ تُرَتَّبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَفْعَالُ إلَّا دَمَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ}.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّمَتُّعَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْحَجِّ لِلنَّفْعِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا وَالْفَضِيلَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلِارْتِفَاقِ بِالْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ سَفَرٍ آخَرَ، وَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ بِالْآيَةِ، فَيَنْتَظِمُ الْقَارِنَ وَالْمُتَمَتِّعَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَضِيلَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْجَمْعِ، وَالثَّانِي: الِارْتِفَاقُ بِالْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ سَفَرٍ ثَانٍ وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ مَخْصُوصٌ بِهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَامَ، لِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَمَنْ كَانَ وَطَنُهُ الْمَوَاقِيتَ فَمَا دُونَهَا إلَى مَكَّةَ فَلَيْسَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فَإِنْ قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَعَلَيْهِ دَمٌ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمِ مُتْعَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ دَمُ جِنَايَةٍ؛ إذْ لَا مُتْعَةَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا التَّمَتُّعُ رُخْصَةٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَامِ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ إذَا تَمَتَّعُوا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُمْ أَنْ يَتَمَتَّعُوا بِلَا هَدْيٍ.
فَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ خِلَافَ مَا قَالُوهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَالْمُرَادُ الْمُتْعَةُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْهَدْيَ لَقَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ اللام قَدْ تُقَامُ مُقَامُ على كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وَمَعْنَاهُ: وَعَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ.
قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ إزَالَةُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَصَرْفُهُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ مَعْنًى هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ حَقِيقَةً فَ على حَقِيقَتُهَا خِلَافُ حَقِيقَةِ اللام فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهَا عَلَيْهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّمَتُّعَ لِأَهْلِ سَائِرِ الْآفَاقِ إنَّمَا هُوَ تَخْفِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِزَالَةُ الْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ فِي إنْشَاءِ سَفَرٍ لَكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَبَاحَ لَهُمْ الِاقْتِصَارَ عَلَى سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي جَمْعِهِمَا جَمِيعًا؛ إذْ لَوْ مُنِعُوا عَنْ ذَلِكَ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى مَشَقَّةٍ وَضَرَرٍ، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ وَلَا ضَرَرَ فِي فِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اسْمَ التَّمَتُّعِ يَقْتَضِي الِارْتِفَاقَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَإِسْقَاطَ تَجْدِيدِ سَفَرٍ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ تَأْوِيلِهِ عَمَّنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ، وَهُوَ مُشْبِهٌ لِمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَإِنْ رَكِبَ لَزِمَهُ دَمٌ لِارْتِفَاقِهِ بِالرُّكُوبِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الدَّمَ لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ وَدَمَ الْمُتْعَةِ يُؤْكَلُ مِنْهُ؛ فَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَمْنَعُ اتِّفَاقِهِمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ مُتْعَةٌ فَإِنْ فَعَلُوا وَحَجُّوا فَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى النَّاسِ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْهَدْيَ وَيَكُونُ هَدْيَ جِنَايَةٍ لَا نُسُكًا.
وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ السَّلَفُ مِنْهُمْ وَالْخَلْفُ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِأَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَهْرِ الْحَجِّ وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا وَحَجَّ فِي عَامٍ قَابِلٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَعَادَ فَحَجَّ مِنْ عَامِهِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ.
وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ رَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ.
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ مَكَّةَ بِأَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مُتْعَةً وَجَعَلَهَا لِسَائِرِ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ إلْمَامَهُمْ بِأَهَالِيِهِمْ بَعْدَ الْعُمْرَةِ مَعَ جَوَازِ الْإِحْلَالِ مِنْهَا، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي مَنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ إلْمَامٌ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الدَّمَ بَدَلًا مِنْ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ اللَّذَيْنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا فَعَلَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنِ الدَّمُ قَائِمًا مُقَامَ شَيْءٍ، فَلَا يَجِبُ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى أَهْلِهِ وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ إنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلْمَامٌ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ فَهْوَ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ بِمَكَّةَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ لِأَنَّ مِيقَاتَهُ الْآنَ فِي الْحَجِّ مِيقَاتُ أَهْلِ بَلَدٍ لِأَنَّ الْمِيقَاتَ قَدْ صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَوْدِهِ إلَى أَهْلِهِ.
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ يُنْشِئُ الْعُمْرَةَ فِي رَمَضَانَ وَيَدْخُلُ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ أَوْ قَبْلَهُ، فَرَوَى قَتَادَةَ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ قَالَ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يُهِلُّ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يُحِلُّ فِيهِ وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْحَرَمَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، قَالَا: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ يُعْتَبَرُ الطَّوَافُ، فَإِنْ فَعَلَ أَكْثَرَ الطَّوَافِ فِي رَمَضَانَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ، وَإِنْ فَعَلَ أَكْثَرَهُ فِي شَوَّالٍ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ فِعْلَ الْأَكْثَرِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ فِي بَابِ امْتِنَاعِ وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهَا، فَإِذَا تَمَّتْ عُمْرَتُهُ فِي رَمَضَانَ فَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَبَقَاءُ الْإِحْرَامِ لَا حُكْمَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ حَلَّ مِنْهَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؟ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَمْ تَتِمَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ اجْتِمَاعِ إحْرَامَيْهِمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَنَ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا بِاجْتِمَاعِ الْإِحْرَامَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ اعْتِبَارُ فِعْلِ الْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يُهِلُّ فِيهِ لَا مَعْنَى لَهُ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْإِحْرَامِ دُونَ أَفْعَالِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.