فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم} أي فوض أمرك إليه فإنه العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه.
وقرأ العامة: {وَتَوَكَّلْ} بالواو وكذلك هو في مصاحفهم.
وقرأ نافع وابن عامر {فَتَوكَّلْ} بالفاء وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام.
{الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي حين تقوم إلى الصلاة في قول أكثر المفسرين: ابن عباس وغيره.
وقال مجاهد: يعني حين تقوم حيثما كنت.
{وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} قال مجاهد وقتادة: في المصلِّين.
قال ابن عباس: أي في أصلاب الآباء، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيًّا.
وقال عكرمة: يراك قائمًا وراكعًا وساجدًا؛ وقاله ابن عباس أيضًا.
وقيل: المعنى؛ إنك ترى بقلبك في صلاتك مَن خلفك كما ترى بعينك مَن قدامك.
وروي عن مجاهد؛ ذكره الماورديّ والثعلبيّ.
وكان عليه السلام يرى مَن خلفه كما يرى مَن بين يديه، وذلك ثابت في الصحيح وفي تأويل الآية بعيد {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} تقدم.
قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} إنما قال: {تَنَزَّلُ} لأنها أكثر ما تكون في الهواء، وأنها تمر من الريح.
{يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} تقدم في الحجر.
ف {يُلْقُونَ السَّمْعَ} صفة الشياطين {وَأَكْثَرُهُمْ} يرجع إلى الكهنة.
وقيل: إلى الشياطين.
قوله تعالى: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {والشعراء} جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء؛ قال ابن عباس: هم الكفار {يَتَّبِعُهُمُ} ضلاّل الجن والإنس.
وقيل: {الْغَاوُونَ} الزائلون عن الحق، ودلّ بهذا أن الشعراء أيضًا غاوون؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك.
وقد قدمنا في سورة النور أن من الشعر ما يجوز إنشاده، ويكره، ويحرم.
روى مسلم من حديث عمرو بن الشَّريد عن أبيه قال: ردِفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصَّلْت شيء قلت: نعم قال: هِيه فأنشدته بيتًا فقال: هِيه ثم أنشدته بيتًا فقال: هِيه حتى أنشدته مائة بيت» هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته.
وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن الشَّريد عن الشَّريد أبيه؛ وهو وَهَم؛ لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واسم أبي الشَّريد سُوَيْد.
وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحِكَم والمعاني المستحسنة شرعًا وطبعًا، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية؛ لأنه كان حكيمًا؛ ألا ترى قوله عليه السلام: «وكاد أمية بن أبي الصَّلْت أن يسلم» فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه، كقول القائل:
الحمد لله العليّ المنان ** صار الثريد في رءوس العيدان

أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس:
مِن قبلها طِبْتَ في الظِّلال وفي مُس ** تودعٍ حيث يُخصَفُ الورقُ

ثم هبطت البلاد لا بشرٌ أن ** تَ ولا مُضْغةٌ ولا عَلَقُ

بل نطفة تركب السَّفِينَ وقد أَلْ ** جَمَ نَسْرًا وأهلَه الغَرَقُ

تنقُل مِن صَالبٍ إلى رَحِمٍ ** إذا مَضَى عالَمٌ بَدَا طَبَقُ

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفَضُضِ الله فاك» أو الذبّ عنه كقول حسان:
هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه ** وعند اللَّهِ في ذاك الجزاءُ

وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم.
أو الصلاة عليه؛ كما روى زيد بن أسلم؛ خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحًا في بيت، وإذا عجوز تنفش صوفًا وتقول:
على محمدٍ صلاةُ الأبرار ** صلى عليه الطيِّبون الأخيارْ

قد كنتَ قوّامًا بُكًا بالأسحارْ ** يا ليتَ شِعْري والمنايا أطوارْ

هل يَجمعنِّي وحبيبي الدارْ

يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجلس عمر يبكي.
وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم؛ ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال:
إنِّي رضيتُ عليًّا للهُدَى عَلَمًا ** كما رضيتُ عَتيقًا صاحبَ الغارِ

وقد رضيتُ أبا حفصٍ وشيعَتُه ** وما رضيتُ بقتل الشيخِ في الدارِ

كلُّ الصحابة عندي قُدوةٌ عَلَمٌ ** فهل عليّ بهذا القول من عارِ

إن كنتَ تعلم أَنِّي لا أحبُّهُم ** إلا من أجلك فاعتقني من النار

وقال آخر فأحسن:
حُبُّ النبيِّ رسول الله مُفْتَرضٌ ** وحُبُّ أصحابِه نورٌ ببرهانِ

من كان يعلم أن الله خالقه ** لا يَرمينَّ أبا بكرٍ ببهتانِ

ولا أبا حفصٍ الفاروقَ صاحبَه ** ولا الخليفة عثمان بن عفانِ

أمّا عليٌّ فمشهورٌ فضائلُه ** والبيت لا يَستوِي إلا بأركانِ

قال ابن العربي: أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد؛ فبذلك يضرِب الْملك الموكَّل بالرؤيا المثَلَ، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم:
بانت سعادُ فقلبي اليوم مَتْبُولُ ** مُتَيَّمٌ إِثْرَها لم يُفْدَ مَكْبُولُ

وما سُعادُ غَداةَ البَيْن إذ رَحَلُوا ** إلا أَغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكحولُ

تَجلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذا ابتسمتْ ** كأنَّه مُنْهَلٌ بالرَّاح مَعْلولُ

فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح.
وأنشد أبو بكر رضي الله عنه:
فَقَدْنا الوحيَ إذ ولَّيتَ عنّا ** وودَّعَنَا من الله الكلامُ

سوى ما قد تركتَ لنا رهينًا ** تَوارثَه القَرَاطِيسُ الكرامُ

فقد أورثتنا ميراثَ صدقٍ ** عليك به التحيةُ والسلامُ

فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا.
قال أبو عمر: ولا ينكر الحسنَ من الشعر أحدٌ من أهل العلم ولا من أولي النُّهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحًا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحلّ سماعه ولا قوله؛ وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «أصدق كلمة أو أشعر كلمة قالتها العرب قول لبِيد: أَلاَ كلُّ شيءٍ ما خلا اللَّهَ باطلُ» أخرجه مسلم وزاد «وكاد أمية بن أبي الصَّلْت أن يُسلِم» وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرًا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر.
فقال: ويلك يا لكعا وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي، فحسنه حسن وقبيحه قبيح! قال: وقد كانوا يتذاكرون الشعر.
قال: وسمعت ابن عمر ينشد:
يُحِبُّ الخمرَ من مال النَّدامَى ** ويَكرهُ أن يفارقَهُ الغَلُوسُ

وكان عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرًا مجيدًا مقدَّمًا فيه.
وللزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب، وكانت له زوجة حسنة تسمى عَثْمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها، وله فيها أشعار كثيرة؛ منها قوله:
تَغلغَل حُبُّ عَثْمة في فؤادي ** فباديه مع الخافي يسيرُ

تَغلغَل حيث لم يبلغ شَرابٌ ** ولا حزنٌ ولم يبلغ سرورُ

أكاد إذا ذكرتُ العهد منها ** أطير لو أن إنسانًا يَطيرُ

قال ابن شهاب: قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلكا فقال: إن المصدور إذا نفث برأ.
الثانية: وأما الشعر المذموم الذي لا يحلّ سماعه وصاحبه ملوم، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضّلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحّهم على حاتم، وأن يبهتوا البريء ويفسقوا التقيّ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء؛ رغبة في تسلية النفس وتحسين القول؛ كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبِتْنَ بجانبيَّ مُصَرَّعاتٍ ** وبِتُّ أَفُضُّ أغلاقَ الختَامِ

فقال: قد وجب عليك الحد.
فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}.
وروي أن النعمان بن عدِيّ بن نَضْلة كان عاملًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
مَنْ مُبْلِغُ الحسناءِ أنّ حليلَها ** بمَيْسَانَ يُسقَى في زُجاجٍ وحَنْتَمِ

إذا شئتُ غنتني دَهاقينُ قريةٍ ** ورقَّاصةٌ تَجْذو على كلّ مَنْسِمِ

فإن كنت نَدْمانِي فبالأكبر اسقنِي ** ولا تَسقنِي بالأصغر المتثلِّمِ

لعلّ أميرَ المؤمنين يَسوءُه ** تَنادُمنا بالْجَوْسِق المتهدِّمِ

فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقُدوم عليه.
وقال: إي والله إني ليسوءني ذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئًا مما قلت؛ وإنما كانت فضلة من القول، وقد قال الله تعالى: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} فقال له عمر: أما عذرك فقد درأ عنك الحد؛ ولكن لا تعمل لي عملًا أبدًا وقد قلت ما قلتَ.
وذكر الزبير بن بكار قال: حدّثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص فكتب إلى عامله على المدينة: إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما واحملهما إليّ.
فلما أتاه الكتاب حملهما إليه، فأقبل على عمر؛ فقال: هيه:
فلم أَرَ كالتَّجميرِ منظَرَ ناظر ** ولا كليالي الحج أَفْلَتْن ذَا هَوَى

وكم مالىءٍ عينيه من شيءِ غيرِه ** إذا راح نحو الجمرةِ البيضُ كالدُّمَى

أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك؛ فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتونا ثم أمر بنفيه.
فقال: يا أمير المؤمنينا أو خير من ذلك؟ فقال: ما هو؟ قال: أعاهد الله إني لا أعود إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبدًا.
وأجدّد توبة؛ فقال: أو تفعل؟ قال: نعم؛ فعاهد الله على توبته وخلاه؛ ثم دعا بالأحوص، فقال هيه:
الله بيني وبينَ قَيِّمِها ** يَفِر منِّي بها وأَتَّبِعُ

بل الله بين قيمِها وبينكا ثم أمر بنفيه؛ فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى، وقال: والله لا أردّه ما كان لي سلطان، فإنه فاسق مجاهر.
فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه، فلا يحلّ سماعه ولا إنشاده في مسجد ولا غيره، كمنثور الكلام القبيح ونحوه.
وروى إسماعيل بن عَيَّاش عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَسنُ الشعر كحسَن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام» رواه إسماعيل عن عبد الله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره.