فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام».
الثالثة: روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ يمتلىءَ جوفُ أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه خيرٌ من أن يمتلىء شعرًا» وفي الصحيح أيضًا عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عرض شاعر يُنشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان لأَن يمتلىءَ جوفُ رجلٍ قيحًا خيرٌ له من أن يمتلىءَ شعرًا» قال علماؤنا: وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله؛ فلعلّ هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقًا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا مُنع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم.
ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام.
وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه؛ فإن لم يمكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعًا تعيّن عليه أن يداريه بما استطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحلّ له أن يعطى شيئًا ابتداء، لأن ذلك عون على المعصية؛ فإن لم يجد من ذلك بدًّا أعطاه بنية وقاية العِرض؛ فما وَقَى به المرءُ عرضه كُتب له به صدقة.
قوله: «لأَنْ يَمتلىءَ جوفُ أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه» القيح المِدّة يخالطها دم.
يقال منه: قاح الجُرْح يَقِيح وتَقيّح وقَيَّح.
و«يَرِيه» قال الأصمعي: هو من الوَرْي على مثال الرمي وهو أن يَدْوَى جوفُه، يقال منه: رجل مَوْريّ مشدّد غير مهموز.
وفي الصحاح: ورى القيح جوفه يرِيه وريا إذا أكله.
وأنشد اليزيدي:
قالت له وَرْيًا إذا تَنحنحَا

وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلب عليه الشعر، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول.
ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية، لحكم العادة الأدبية.
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوّب على هذا الحديث باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر.
وقد قيل في تأويله: إن المراد بذلك الشعر الذي هُجيَ به النبيّ صلى الله عليه وسلم أو غيره.
وهذا ليس بشيء، لأن القليل من هجو النبيّ صلى الله عليه وسلم وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم، وكذلك هجو غير النبيّ صلى الله عليه وسلم من المسلمين محرّم قليله وكثيره، وحينئذٍ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معنى.
الرابعة: قال الشافعي: الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمّناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع.
قال الأوَل منهم:
وجُرح اللسانِ كجُرْح اليدِ

وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين: «إنه لأسرع فيهم من رشق النَّبْل» أخرجه مسلم.
وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عُمرة القضاء وعبد الله بن رَوَاحة يمشي بين يديه ويقول:
خَلُّوا بني الكفَّار عن سبِيله ** اليومَ نَضربْكُمْ على تنزِيله

ضربًا يزيلُ الهامَ عن مَقِيلِه ** ويُذهِلُ الخليلَ عن خلِيله

فقال عمر: يا ابن رَوَاحة! في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خل عنه يا عمر فلهو أسرعُ فيهم من نَضح النَّبْل».
الخامسة: قوله تعالى: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} لم يختلف القراء في رفع {وَالشُّعَرَاءُ} فيما علمت.
ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره {يَتَّبِعُهُمُ} وبه قرأ عيسى ابن عمر؛ قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حب النصب؛ قرأ: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] و{حَمَّالَةَ الحطب} [المسد: 4] و{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} [النور: 1].
وقرأ نافع وشيبة والحسن والسّلَميّ: {يَتْبَعُهُمْ} مخففًا.
الباقون {يَتَّبِعُهُمُ}.
وقال الضحاك: تهاجى رجلان أحدهما أنصاريّ والآخر مهاجريّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل واحد غواةُ قومه وهم السفهاء فنزلت؛ وقاله ابن عباس.
وعنه هم الرواة للشعر.
وروى عنه عليّ بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضُلاَّل الجن والإنس؛ وقد ذكرناه.
وروى غُضَيْف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه» وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة رنّ إبليس رنه وجمع إليه ذريته؛ فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ولكن أفشوا فيهما يعني مكة والمدينة الشِّعْر.
السادسة: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} يقول: في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنَنَ الحق؛ لأن من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت، ولم يكن هائمًا يذهب على وجهه لا يبالي ما قال.
نزلت في عبد الله بن الزِّبَعْريّ ومُسافِع بن عبد مناف وأميّة بن أبي الصلت.
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} يقول: أكثرهم يكذبون؛ أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه.
وقيل: إنها نزلت في أبي عزة الجُمَحيّ حيث قال:
أَلاَ أبلغا عنّي النبيّ محمدًا ** بأنَّكَ حَقٌّ والمليكُ حميدُ

ولَكنْ إذا ذُكِّرتُ بَدْرًا وأهلَهُ ** تَأَوَّهَ منّي أعظمٌ وجلودُ

ثم استثنى شعر المؤمنين: حسان بن ثابت وعبد الله بن رَوَاحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان على طريقهم من القول الحق؛ فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيرًا} في كلامهم {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} وإنما يكون الانتصار بالحق، وبما حدّه الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل.
وقال أبو الحسن البرَّاد: لما نزلت: {وَالشعَرَاءُ} جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبي اللها أنزل الله تعالى هذه الآية، وهو تعالى يعلم أنا شعراء؟ فقال: «اقرؤوا ما بعدها {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية أنتم {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أنتم» أي بالرد على المشركين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انتصِروا ولا تقولوا إلا حقًا ولا تذكروا الآباء والأمهات» فقال حسان لأبي سفيان:
هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه ** وعندَ الله في ذاك الجزاءُ

وإنّ أبي ووالدتي وعِرْضي ** لعِرضِ محمد منكم وِقاءُ

أتشتمه ولستَ له بكفءٍ ** فشركما لخيركما الفِداءُ

لساني صارمٌ لا عيبَ فيهِ ** وبحري لا تُكدِّره الدِّلاءُ

وقال كعب: يا رسول اللها إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نَضْح النّبل».
وقال كعب:
جاءت سَخِينةُ كي تُغالبَ ربَّهَا ** وَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلاَّبِ

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا» وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} منسوخ بقوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}.
قال المهدوي: وفي الصحيح عن ابن عباس أنه استثناء.
{وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} في هذا تهديد لمن انتصر بظلم أي: سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل؛ فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة.
وقرأ ابن عباس: {أَي مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ} بالفاء والتاء ومعناهما واحد.
الثعلبي: ومعنى {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون؛ لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع.
والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضدّ ما هو فيه، والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلبًا، وليس كل منقلب مرجعًا؛ والله أعلم؛ ذكره الماوردي.
و{أَيَّ} منصوب ب {يَنْقَلِبُونَ} وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبًا ب {سَيَعْلَمُ} لأن أيًا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكر النحويون؛ قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض. اهـ.

.قال أبو حيان:

ثم أمره تعالى بالتوكل.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر، وشيبة: فتوكل بالفاء، وباقي السبعة: بالواو.
وناسب الوصف بالعزيز، وهو الذي لا يغالب، وبالرحيم، وهو الذي يرحمك.
وهاتان الصفتان هما اللتان جاءتا في أواخر قصص هذه السورة.
فالتوكل على من هو بهذين الوصفين كافية شر من بعضه من هؤلاء وغيرهم، فهو يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته.
والتوكل هو تفويض الأمر إلى من يملك الأمر ويقدر عليه.
ثم وصف بأنه الذي أنت منه بمرأى، وذلك من رحمته بك أن أهلك لعبادته، وما تفعله من تهجدك.
وأكثر المفسرين منهم ابن عباس، على أن المعنى حين تقوم إلى الصلاة.
وقرأ الجمهور: {وتقلبك} مصدر تقلب، وعطف على الكاف في {يراك}.
وقرأ جناح بن حبيش: {وتقلبك} مضارع قلب مشددًا، عطفًا على {يراك}.
وقال مجاهد وقتادة: {في الساجدين}: في المصلين.
قال ابن عباس: في أصلاب آدم ونوح وإبراهيم حتى خرجت.
وقال عكرمة: يراك قائمًا وساجدًا.
وقيل: معنى {تقوم}: تخلو بنفسك.
وعن مجاهد أيضًا: المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، كما قال: «أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي» وفي الوجيز لابن عطية: ظاهر الآية أنه يريد قيام الصلاة، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات، وهو تأويل مجاهد وقتادة.
وفي الساجدين: أي صلاتك مع المصلين، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما.
قال ابن عباس أيضًا، وقتادة: أراد وتقلبك في المؤمنين، فعبر عنهم بالساجدين.
قال ابن جبير: أراد الأنبياء، أي تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء.
وقال الزمخشري: ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم.
كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، بحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات، فوجدها كبيوت الزنابير، لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة.
والمراد بالساجدين: المصلون.
وقيل: معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة، وتقلبه في الساجدين: تصرفه فيما بينهم لقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم.