فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال بعض المحصلين: لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به وذلك أنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر ولا يخفى ذلك على الأغتام من العجم فضلًا عن بلغاء العرب وإنما رموه بالكذب فإن الشعر يعبر به عن الكذب والشاعر الكاذب حتى سمى قوم الأدلة الكاذبة شعرًا ولهذا قال تعالى في وصف عامة الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}. إلى آخر السورة. انتهى.
قال الإمام المرزوقي شرح الحماسة: تأخر الشعراء عن البلغاء لتأخر المنظوم عند العرب لأن ملوكهم قبل الإسلام وبعده يتبجحون بالخطابة ويعدونها أكمل أسباب الرياسة ويعدون الشعر دناءة لأن الشعر كان مكسبة وتجارة وفيه وصف اللئيم عند الطمع بصفة الكريم والكريم عند تأخر صلته بوصف اللئيم ومما يدل على شرف النثر أن الإعجاز وقع في النثر دون النظم لأن زمن النبي عليه السلام زمن الفصاحة.
{أَلَمْ تَرَ} يا من شأنه الرؤية أي قد رأيت وعلمت {أنَّهُمْ} أي الشعراء {فِى كُلِّ وَادٍ} من المدح والذم والهجاء والكذب والفحش والشتم واللعن والافتراء والدعاوى والتكبر والمفاخر والتحاسد والعجب والإراءة وإظهار الفضل والدناءة والخسة والطمع والتكدي والذلة والمهانة وأصناف الأخلاق الرذيلة والطعن في الأنساب والأعراض وغير ذلك من الآفات التي هي من توابع الشعر {يَهِيمُونَ} يقال هام على وجهه من باب باع هيمانًا بفتحتين ذهب من العشق أو غيره كما في المختار أي يذهبون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين بل يتحيرون في أودية القيل والقال والوهم والخيال والغي والضلال.
قال الراغب: أصل الوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء ومنه سمي المنفرج بين الجبلين واديًا ويستعار للطريقة كالمذهب والأسلوب فيقال: فلان في واد غير واديك وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} فإنه يعني أساليب الكلام من المدح والهجاء والجدل والغزل وغير ذلك من الأنواع أي في كل نوع من الكلام يغلون.
قال في الوسيط: فالوادي مثل لفنون الكلام وهيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو وباطل وغلو في مدح أو ذم.
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ} في أشعارهم عند التصلف والدعاوى {مَا لا يَفْعَلُونَ} من الأفاعيل: يعني بفسق ناكرده برخود كواهي ميدهند ويغا مهاي ناداده بكسى درسلك نظم ميكشند ويرغبون في الجود ويرغبون عنه وينفرون عن البخل ويصرون عليه ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عنهم، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش وذلك تمام الغواية والنبي عليه السلام منزه عن ذلك متصف بمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق مستقر على المنهاج القويم مستمر على الصراط المستقيم.
{إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين.
{وَذَكَرُوا اللَّهَ} ذكرًا {كَثِيرًا} بأن كان أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله والحث على طاعته والحكمة والموعظة والزهد في الدنيا والترغيب في الآخرة أو بأن لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ولم يجعلوه همهم وعادتهم.
قال أبو يزيد قدس سره: الذكر الكثير ليس بالعدد لكنه بالحضور.
{وَانتَصَرُوا}.
{مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} بالهجو لأن الكفار بدؤوهم بالهجاء يعني لو وقع منهم في بعض الأوقات هجو وقع بطريق الانتصار ممن هجاهم من المشركين كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم فإنهم كانوا يذبون عن عرض النبي عليه السلام، وكان عليه السلام يضع لحسان منبرًا في المسجد فيقوم عليه يهجو من كان يهجو رسول الله.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: «اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل» وفي الحديث: «جاهدوا المشركون بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» أي أسمعوهم ما يكرهونه ويشق عليهم سماعه من هجو وكلام غليظ ونحو ذلك.
قال الإمام السهيلي رحمه الله: فهم سبب الاستثناء فلو سماهم بأسمائهم الأعلام كان الاستثناء مقصورًا عليهم والمدح مخصوصًا بهم ولكن ذكرهم بهذه الصفة ليدخل معهم في هذا الاستثناء كل من اقتدى بهم شاعرًا كان أو خطيبًا أو غير ذلك. انتهى.
وفي التأويلات النجمية: لأرباب القلوب في الشعر سلوك على إقدام التفكر بنور الإيمان وقوة العمل الصالح وتأييد الذكر الكثير ليصلوا إلى أعلى درجات القرب وتؤيدهم الملائكة بدقائق المعاني بل يوفقهم الله لاستجلاب الحقائق ويلهمهم بألفاظ الدقائق فبالإلهام يهيمون في كل وادٍ من المواعظ الحسنة والحكم البالغة وذم الدنيا وتركها وتزيين الآخرة وطلبها وتشويق العباد وتحبيبهم إلى الله وتحبيب الله إليهم وشرح المعارف وبيان الموصل والحث على السير والتحذير عن الألفاظ القاطعة للسير وذكر الله وثنائه ومدح النبي عليه السلام والصحابة وهجاء الكفار انتصارًا كما قال عليه السلام لحسان: «اهج المشركين فإن جبريل معك». انتهى.
والجمهور على إباحة الشعر ثم المذموم منه ما فيه كذب وقبح وما لم يكن كذلك فإن غلب على صاحبه بحيث يشغله عن الذكر وتلاوة القرآن فمذموم وإن لم يغلب كذلك فلا ذم فيه وفي الحديث: «إن من الشعر لحكمة» أي: كلامًا نافعًا يمنع عهن الجهل والسفه وكان علي رضي الله عنه أشعر الخلفاء وكانت عائشة رضي الله عنها أبلغ من الكل.
ولما كان الشعر مما لا ينبغي للأنبياء عليهم السلام لم يصدر من النبي عليه السلام بطريق الإنشاء دون الإنشاد إلا ما كان بغير قصد منه وكان كل كمال بشرى تحت علمه الجامع فكان يجيب كل فصيح وبليغ وشاعر وأشعر وكل قبيلة بلغاتهم وعباراتهم وكان يعلم الكتاب علم الخط وأهل الحرف حرفتهم ولذا كان رحمة للعالمين.
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} على أنفسهم بالشعر المنهي عنه وغيره فهو عام لكل ظالم والسين للتأكيد {أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} أي: منصوب ينقلبون على المصدر لا بقوله سيعلم لأن أيًا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها وقدم على عامله لتضمنه معنى الاستفهام وهو متعلق بسيعلم سادًا مسد مفعوليه.
والمنقلب بمعنى الانقلاب أي الرجوع.
والمعنى ينقلبون أي الانقلاب ويرجعون إليه بعد مماتهم أي الرجوع أي ينقلبون انقلابًا سوءًا ويرجعون رجوعًا شرًا لأن مصيرهم إلى النار.
روي: أنه لما أيس أبو بكر رضي الله عنه من حياته استكتب عثمان رضي الله عنه كتاب العهد وهو هذا ما عهد ابن أبي قحافة إلى المؤمنين في الحال التي يؤمن فيها الكافر ثم قال بعد ما غشى عليه وأفاق: إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه عدل فذلك ظني فيه وإن لم يعدل سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
والظلم هو الانحراف عن العدالة والعدول عن الحق الجاري مجرى النقطة من الدائرة.
والظلمة ثلاثة.
الظالم الأعظم وهو الذي لا يدخل تحت شريعة الله وإياه قصد تعالى بقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) والأوسط هو الذي لا يلزم حكم السلطان.
والأصغر هو الذي يتعطل عن المكاسب والأعمال فيأخذ منافع الناس ولا يعطيهم منفعته ومن فضيلة العدالة أن الجور الذي هو ضدها لا يستتب إلا بها فلو أن لصوصًا تشارطوا فيما بينهم شرطًا فلم يراعوا العدالة فيه لم ينتظم أمرهم.
فعلى العاقل أن يصيخ إلى الوعيد والتهديد الأكيد فيرجع عن الظلم والجور وإن كان عادلًا فنعوذ بالله من الجور بعد الكور والله المعين لكل سالك والمنجي في المسالك من المهالك.
تمت سورة الشعراء يوم الخميس وهو التاسع من ذي القعدة من سنة ثمان ومائة وألف. اهـ.
بتصرف يسير.

.قال القاسمي:

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} أي: تتنزل وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله بعد امتناع تنزلهم بالقرآن: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي: كذاب في قوله، في الكلام من وجه. إلى آخر، ولا يبالي بذلك. لأنه أثيم كثير الإثم والفجور في فعله. وحيث كان المقام النبويّ منزهًا عن ذلك، اتضح استحالة تنزلهم عليه.
قال القاشانيّ: لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها، بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والقدر والخيانة وسائر الرذائل. فمن تجرد عن صفات النفس، وترقى إلى جناب القدس، وتنورت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية، وأشرق عقله بالاتصال بالعالم الأعلى، فلا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه، ولا أن يتلقفوا المعارف والحقائق والشرائع. فإنهم معزولون عن استماع كلام الملكوت الأعلى، مرجومون بشهب الأنوار القدسية. وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} تقرير لقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية، المستمدة من الشياطين بالمناسبة، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية. انتهى.
{يُلْقُونَ} أي: الأفّاكون: {السَّمْعَ} أي: إلى الشياطين وأوهامهم ووساوسهم: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي: فيما يتكهنون به، وفيما يحكونه عن الشياطين. وقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مرّ من بيان أحوالهم المضادّة لأحواله عليه الصلاة والسلام.
والمعنى أن الشعراء الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنه يتبعهم: أي: يجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لا غيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه. قاله أبو السعود.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون، وتقرير له. أي: ألم تر أنهم في كل وادٍ من أودية الخيال يهيمون على وجوههم، لا يقفون عند حدّ معيّن، بل يركبون للباطل والكذب وفضول القول كل مركب. ديدنهم الهجاء، وتمزيق الأعراض، والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار. ومدح من لا يستحق المدح، والغلوّ في الثناء والهجاء.
لطيفة:
في ذكر الوادي والهيام، تمثيل لذهابهم في شعب القول وفنونه وطرقه وشجونه. قال ابن الأثير: استعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها. وإنما خص الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك، أو ما جرى مجراها- لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض. فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق.
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} أي: مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم. أي: فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم، من تنزّهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة، وحاز جميع الكمالات القدسية، وفاز بجملة الملكات الأَنْسية، مستقرًّا على المنهاج القويم، مستمرًّا على الصراط المستقيم، ناطقًا بكل أمر رشيد، داعيًا إلى صراط العزيز الحميد، مؤيدًا بمعجزات قاهرة، وآيات ظاهرة، مشحونة بفنون الحكم الباهرة، وصنوف المعارف الزاهرة، مستقلة بنظم رائق، أعجز كل منطيق ماهر، وبكّت كل مفلق ساحر! قاله أبو السعود.