فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)}.
وعطف الأمر بالتوكل بفاء التفريع في قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر فيكون تفريعًا على: {فقل إني بريء مما تعملون} [الشعراء: 216] تنبيهًا على المبادرة بالعوذ من شر أولئك الأعداء وتنصيصًا على اتصال التوكل بقوله: {إني بريء}.
وقرأ الجمهور: {وتَوكل} بالواو وهو عطف على جواب الشرط، أي قل: إني بريء وتوكل، وعطفه على الجواب يقتضي تسببه على الشرط كتسبب الجواب وهو يستلزم البدار به، فمآل القراءتين واحد وإن اختلف طريق انتزاعه.
والمعنى: فإن عصاك أهل عشيرتك فتبرأ منهم.
ولما كان التبرؤ يؤذن بحدوث مجافاة وعداوة بينه وبينهم ثبَّت الله جأش رسوله بأن لا يعبأ بهم وأن يتوكل على ربه فهو كافيه كما قال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3].
وعلق التوكل بالاسمين {العزيز الرحيم} وما تبعهما من الوصف بالموصول وما ذيل به من الإيماء إلى أنه يُلاحظ قوله ويعلم نيتَه، إشارة إلى أن التوكل على الله يأتي بما أومأت إليه هذه الصفات ومستتبعاتها بوصف {العزيز الرحيم} للإشارة إلى أنه بعزته قادر على تغلبه على عدوّه الذي هو أقوى منه، وأنه برحمته يعصمه منهم.
وقد لوحظ هذان الاسمان غير مرة في هذه السورة لهذا الاعتبار كما تقدم.
والتوكل: تفويض المرء أمره إلى من يكفيه مهمه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكّل على الله} في سورة آل عمران (159).
ووصفه تعالى ب {الذي يراك حين تقوم} مقصود به لازم معناه.
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بمحل العناية منه لأنه يعلم توجهه إلى الله ويقبل ذلك منه، فالمراد من قوله: {يَراك} رؤيةٌ خاصة وهي رؤية الإقبال والتقبل كقوله: {فإنك بأعيننا} [الطور: 48].
والقيام: الصلاة في جوف الليل، غلب هذا الاسم عليه في اصطلاح القرآن، والتقلب في الساجدين هو صلاته في جماعات المسلمين في مسجده.
وهذا يجمع معنى العناية بالمسلمين تبعًا للعناية برسولهم، فهذا من بركته صلى الله عليه وسلم وقد جمعها هذا التركيب العجيب الإيجاز.
وفي هذه الآية ذكر صلاة الجماعة.
قال مقاتل لأبي حنيفة: هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فقال أبو حنيفة: لا يحضرني فتلاَ مقاتل هذه الآية.
وموقع {إنه هو السميع العليم} موقع التعليل للأمر ب {فقل إني بريء مما تعملون} [الشعراء: 216]، وللأمر ب {توكل على العزيز الرحيم}، فصفة {السميع} مناسبة للقول، وصفة {العليم} مناسبة للتوكل، أي أنه يسمع قولك ويعلم عزمك.
وضمير الفصل في قوله: {هو السميع العليم} للتقوية.
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)}.
لما سفَّه قولهم في القرآن: إنه قول كاهن، فرد عليهم بقوله: {وما تنزلت به الشياطين} [الشعراء: 210] وأنه لا ينبغي للشياطين ولا يستطيعون مثله، وأنهم حيل بينهم وبين أخبار أوليائهم، عاد الكلام إلى وصف حال كهانهم ليعلم أن الذي رَمَوا به القرآن لا ينبغي أن يلتبس بحال أوليائهم.
فالجملة متصلة في المعنى بجملة: {وما تنزلت به الشياطين} [الشعراء: 210]، أي ما تنزّلت الشياطين بالقرآن على محمد {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين}.
وألقي الكلام إليهم في صورة استفهامهم عن أن يُعرِّفهم بمن تتنزل عليه الشياطين، استفهامًا فيه تعريض بأن المستفهم عنه مما يسوءهم لذلك ويحتاج فيه إلى إذنهم بكشفه.
وهذا الاستفهام صوري مستعمل كناية عن كون الخبر مما يستأذن في الإخبار به.
واختير له حرف الاستفهام الدال على التحقيق وهو {هل} لأن هل في الاستفهام بمعنى قد والاستفهام مقدّر فيها بهمزة الاستفهام، فالمعنى: أنبئكم إنباءً ثابتًا محققًا وهو استفهام لا يترقب منه جواب المستفهَم لأنه ليس بحقيقي فلذلك يعقبه الإفضاء بما استفهم عنه قبل الإذن من السامع.
ونظيره في الجواب قوله تعالى: {عَمّ يتساءلون عن النبأ العظيم} [النبأ: 1، 2] وإن كان بين الاستفهامين فرق.
وفعل {أنبئكم} معلق عن العمل بالاستفهام في قوله: {على من تنزل الشياطين}.
وهو أيضًا استفهام صوري معناه الخبر كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يستفهم عنه المتحسِّسون ويتطلبونه، فالاستفهام من لوازم الاهتمام.
والمجرور مقدم على عامله للاهتمام بالمتنزَّل عليه، وأصل التركيب: من تنزَّل عليه الشياطين، فلما قدم المجرور دخل حرف {على} على اسم الاستفهام وهو {مَن} لأن ما صْدَقَها هو المتنزّل عليه، ولا يعكر عليه أن المتعارف أن يكون الاستفهام في صدر الكلام، لأن أسماء الاستفهام تضمنت معنى الإسمية وهو أصلها، وتضمنت معنى همزة الاستفهام كما تضمنته {هل}، فإذا لزم مجيء حرف الجر مع أسماء الاستفهام ترجح فيها جانب الإسمية فدخل الحرف عليها ولم تُقدّم هي عليه، فلذلك تقول: أعلى زيد مررتَ؟ ولا تقول: مَن عَلى مررت؟ وإنما تقول: على من مررت؟ وكذا في بقية أسماء الاستفهام نحو {عمّ يتساءلون} [النبأ: 1]، {مِنْ أي شيء خلقه} [عبس: 18]، وقولهم: عَلاَم، وإلام، وحتّام، و{فيمَ أنت من ذكراها} [النازعات: 43].
وأجيب الاستفهام هنا بقوله: {تنزل على كل أفاككٍ أثيم}.
و{كل} هنا مستعملة في معنى التكثير، أي على كثير من الأفّاكين وهم الكهان، قال النابغة:
وكُلِّ صَموت نثلة تُبَّعيَّةٍ ** ونَسج سُلَيْم كُلَّ قمصاءَ ذائِل

والأفاك كثير الإفك، أي الكذب، والأثيم كثير الإثم.
وإنما كان الكاهن أثيمًا لأنه يضم إلى كذبه تضليل الناس بتمويه أنه لا يقول إلا صدقًا، وأنه يتلقى الخبر من الشياطين التي تأتيه بخبر السماء.
وجُعل للشياطين {تنزّل} لأن اتصالها بنفوس الكهان يكون بتسلسل تموجات في الأجواء العليا كما تقدم في سُورة الحجر.
و{يُلقون السمع} صفة ل {كلِّ أفاك أثيم}، أي يظهرون أنهم يُلقون أسماعهم عند مشاهدة كواكب لتتنزل عليهم شياطينهم بالخبر، وذلك من إفكهم وإثمهم.
وإلقاء السمع: هو شدة الإصغاء حتى كأنه إلقاءٌ للسمع من موضعه، شبه توجيه حاسة السمع إلى المسموع الخفي بإلقاء الحجر من اليد إلى الأرض أو في الهواء قال تعالى: {أو ألقَى السمع وهو شهيد} [ق: 37]، أي أبلغ في الإصغاء لِيَعِيَ ما يُقال له.
وهذا كما أطلق عليه إصغاء، أي إمالة السمع إلى المسموع.
وقوله: {وأكثرهم كاذبون} أي أكثر هؤلاء الأفاكين كاذبون فيما يزعمون أنهم تلقوه من الشياطين وهم لم يتلقوا منها شيئًا، أي وبعضهم يتلقى شيئًا قليلًا من الشياطين فيكذب عليه أضعافه.
ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكهان فقال: «ليسوُا بشيء» قيل: يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانًا بالشيء يكون حقًا.
فقال: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجِنيّ فَيَقَرُّها في أذُن وليه قَرَّ الدَّجاجة فيخلطون عليها أكثر من مائة كذبة» فهم أفّاكون وهم متفاوتون في الكذب فمنهم أفاكون فيما يزيدونه على خبر الجن، ومنهم أفّاكون في أصل تلقي شيء من الجن، ولما كان حال الكهان قد يلتبس على ضعفاء العقول ببعض أحوال النبوءة في الإخبار عن غيب، وأسجاعهم قد تلتبس بآيات القرآن في بادىء النظر.
أطنَبت الآية في بيان ماهية الكهانة وبينت أن قصاراها الإخبارُ عن أشياء قليلة قد تصدق فأينَ هذا من هدي النبي والقرآن وما فيه من الآداب والإرشاد والتعليم والبلاغة والفصاحة والصراحة والإعجاز ولا تصدي منه للإخبار بالمغيبات.
كما قال: {ولا أعلم الغيب} [الأنعام: 50] في آيات كثيرة من هذا المعنى.
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)}.
كان مما حوته كِنانةُ بهتان المشركين أن قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر، فلما نَثلَتْ الآيات السابقة سِهام كنانتهم وكسرتها وكان منها قولهم: هو كاهن، لم يبق إلا إبطالُ قولهم: هو شاعر، وكان بين الكهانة والشعر جامع في خيال المشركين إذ كانوا يزعمون أن للشاعر شيطانًا يملي عليه الشعر وربما سموه الرَّئِيّ، فناسب أن يقارَن بين تزييف قولهم في القرآن: هو شعر، وقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر، وبين قولهم: هو قول كاهن، كما قرن بينهما في قوله تعالى: {وما هو بقول شاعِر قليلًا ما تُؤمنون ولا بقوللِ كاهن قليلًا ما تذّكّرون} [الحاقة: 41، 42]؛ فعُطف هنا قوله: {والشعراء يتبعهم الغاون} على جملة: {تنزل على كل أفّاك أثيم} [الشعراء: 222].
ولمّا كان حال الشعراء في نفس الأمر مخالفًا لحال الكهان إذ لم يكن لملكة الشعر اتصال مّا بالنفوس الشيطانية وإنما كان ادعاء ذلك من اختلاق بعض الشعراء أشاعوه بين عامة العرب، اقتصرت الآية على نفي أن يكون الرسول شاعرًا، وأن يكون القرآنُ شعرًا.
دون تعرض إلى أنه تنزيل الشياطين كما جاء في ذكر الكهانة.
وقد كان نفر من الشعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وكان المشركون يُعْنَون بمجالسهم وسماععِ أقوالهم ويجتمع إليهم الأعراب خارج مكة يستمعون أشعارهم وأهاجيَهم، أدمجت الآية حال من يتَّبع الشعراء بحالهم تشويهًا للفريقين وتنفيرًا منهما.
ومن هؤلاء: النضْر بن الحارث، وهبيرة بن أبي وهب ومُسافع بن عبد مناف، وأبو عَزة الجمحِي، وابن الزِّبَعْرَى، وأميةُ بن أبي الصَّلْت، وأبو سفيان ابن الحارث، وأمُّ جميل العوراء بنت حرب زوُج أبي لهب التي لَقبها القرآن: {حمَّالة الحطب} [المسد: 4] وكانت شاعرة وهي التي قالت:
مُذَمَّمًا عَصَيْنا ** وأمرَه أبينا ودينَه قَلَيْنَا

فكانت هذه الآية نفيًا للشعر أن يكون من خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم وذمًا للشعراء الذين تصدوا لهجائه.
فقوله: {يتبعهم الغاوون} ذمّ لأتباعهم وهو يقتضي ذم المتبوعين بالأحرى.
والغاوي: المتصف بالغي والغواية، وهي الضلالة الشديدة، أي يتبعهم أهل الضلالة والبطالة الراغبون في الفسق والأذى.
فقوله: {يتبعهم الغاوون} خبر، وفيه كناية عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فإن أتباعه خيرة قومهم وليس فيهم أحد من الغاوين، فقد اشتملت هذه الجملة على تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيه أصحابه وعلى ذم الشعراء وذمّ أتباعهم وتنزيه القرآن عن أن يكون شعرًا.
وتقديمُ المسند إليه على المسند الفعلي هنا يظهر أنه لمجرد التقوّي والاهتمام بالمسند إليه للفت السمع إليه والمقام مستغن عن الحصر لأنه إذا كانوا يتبعهم الغاوون فقد انتفى أتباعهم عن الصالحين لأن شأن المجالس أن يتحد أصحابها في النزعة كما قيل:
عن المرء لا تَسْألْ وسَلْ عن قرينه

وجعله في الكشاف للحصر، أي لا يتبعهم إلاّ الغاوون، لأنه أصرح في نفي اتِّباع الشعراء عن المسلمين.
وهذه طريقتُهُ باطراد في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي أنه يفيد تخصيصه بالخبر، أي قصْر مضمون الخبر عليه، أي فهو قصر إضافي كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {الله يستهزىء بهم} في سورة البقرة (15).
والرؤية في {ألم تر} قلبية لأن الهُيام والوادي مستعاران لمعاني اضطراب القول في أغراض الشعر وذلك مما يُعلم لا مما يُرى.
والاستفهام تقريري، وأجري التقرير على نفي الرؤية لإظهار أن الإقرار لا محيد عنه كما تقدم في قوله: {قال ألم نُربِّك فينا وليدًا} [الشعراء: 18]، والخطاب لغير معين.
وضمائر: إنهم ويهيمون ويقولون ويفعلون عائدة إلى الشعراء.
فجملة: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} وما عطف عليها مؤكدة لما اقتضته جملة: {يتبعهم الغاوون} من ذم الشعراء بطريق فحوى الخطاب.
ومثلت حال الشعراء بحال الهائمين في أودية كثيرة مختلفة لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس، ومن نسيب وتشبيب بالنساء، ومدح من يمدحُونه رغبة في عطائه وإن كان لا يستحق المدح، وذمِّ من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل، وربما ذمّوا من كانوا يمدحونه ومدحوا من سَبق لهم ذمه.